قبل أسبوع من سفره إلى واشنطن ووقوع عمليات الأحد الدامي 2/12 التي جاءت بتوقيع حركة "حماس" كان شارون في قمة نشوته، اذ خرج على جمهوره قائلاً "إن وضعنا الأمني جيد بالتأكيد"، مضيفاً "لقد وجدنا طريقة تمكننا من مواجهة الإرهاب بشكل فعال ومن دون تصعيد". وكان أن وعد جمهوره القلق من التراجع الاقتصادي بالاهتمام ب "قضايا الاقتصاد". لم يكن شارون، في هذا الحديث، في وارد الكذب على جمهوره، فحبل الكذب في مثل هذه القضايا قصير، لكنه كان يعكس قناعته بالفعل، وهو استقاها من التقارير الأمنية التي كانت تحط تباعاً على مكتبه مع كل نجاح أمني تسجله الأجهزة الأمنية والجيش. ما لا بد من الاعتراف به هنا هو أن ما اقتنع به "البلدوزر" لم يكن خاطئاً تماماً كما قد يرد إلى الخاطر في ضوء عمليات الأحد 2/12، فهذه العمليات على ضخامتها وأهميتها لا يمكن أن تنفي النجاحات الأمنية التي تحققت، ذلك أن أحداً لم يقل إن تلك النجاحات كانت شاملة. وفي كل الأحوال فإن "حماس" وضعت كل ثقلها في عمليات الأحد لأن مسلسل الضربات التي تلقتها كان كبيراً وقاسياً ويستحق رداً يعيد لها الاعتبار، خصوصاً حين جرى اغتيال قائدها العسكري محمود أبو هنود. قائمة المطلوب اعتقالهم التي دأب الإسرائيليون على تقديمها إلى السلطة مباشرة وعبر الوسطاء تؤكد حجم النجاح الذي تحقق لشارون منذ 11 أيلول، فالقائمة المذكورة التي كانت في السابق تضم 80 اسماً، تقلصت إلى 33 قدمها شيمون بيريز الى ياسر عرفات بعد عودة شارون من واشنطن وشروعه في قصف مناطق السلطة واستغاثة عرفات وطلبه فرصة لإثبات جديته في محاربة "الارهاب". من المؤكد أن بعض دوائر السلطة فوجىء بحجم الرد "الحماسي" على اغتيال ابو هنود، كما هو شأن الطرف الاسرائيلي، لكن الثابت هو أن تلك الدوائر وجدت في تلك العمليات فرصة للدخول في معركة اعلامية مع "حماس" كانت بمثابة مقدمة لاستهدافها بشكل مباشر تحت ذريعة تهديدها للمشروع الوطني الفلسطيني وإخراجها لشارون من مأزقه بمنحه الفرصة لتقويض السلطة الفلسطينية. لم تقل الدوائر المذكورة للشارع الفلسطيني أية فرصة تلك التي وفرتها "حماس" لشارون. ألم يكن هدف مجيء الجنرال زيني الى الأراضي المحتلة هو "وقف العنف". وكيف سيحدث ذلك بغير التعاون الأمني واعتقال المطلوبين الذين يرفضون وقف اطلاق النار؟! عمليات "حماس" لم تنقذ شارون وهو لم يتمناها بحال، كما يردد البعض، بل هي جاءت صاعقة ومفاجئة بالنسبة اليه، وهو الذي كان قبل أيام فقط يبشر جمهوره بالانتصار على "الإرهاب"، وهو ما صدقه ذلك الجمهور كما عكست ذلك استطلاعات الرأي التي قالت غير ذلك إثر عمليات الأحد. مطالب واشنطن وتل أبيب من عرفات لم تتغير بعد عمليات الأحد عما كانت عليه قبلها، اللهم إلا من زاوية الحدة والسرعة ولغة التهديد الواضحة، فالجنرال زيني لم يأتِ ليقدم برنامجاً لمفاوضات الوضع النهائي بل برنامجاً لوقف الانتفاضة والمقاومة والتأكد من جدية مساعي السلطة الرامية الى وقفها. حتى الموقف الأميركي من "حماس" والإجراءات التي ترتبت عليه لم يكن ليتغير لو لم تحدث عمليات الأحد. فمطالب مطاردتها واعتقال رموزها كانت تتردد منذ وقت. أما الإجراء الجديد المتمثل في تجميد أموال مؤسسة الأرض المقدسة في الولاياتالمتحدة فقد كان برسم النفاذ في غضون أسابيع كما أكد الرئيس الأميركي نفسه إثر إعلانه القرار، وجاء تقديمه كنوع من المجاملة لشارون، وهو الذي اتخذ على رغم إدراك الإدارة بأن المؤسسة المذكورة لا تمول "حماس" بقدر ما تمول نشاطات خيرية. وقد وصل الأمر بالرئيس الأميركي الى حد الحديث عن تمويلها لمدارس تنشىء الأطفال على الكراهية لإسرائيل، وكأن المدارس الدينية الإسرائيلية التي تمول من داخل الولاياتالمتحدة تنشىء طلابها على الحب والتسامح. كما تحدث عن إعالتها لأبناء الشهداء مع أن المنطق هو أنهم غير مسؤولين عما فعله آباؤهم. الإجراءات الأخرى بحق "حماس" و"الجهاد" سبقت عمليات الأحد، وهي ستتواصل على نحو مطرد وصولاً الى وضعها و"القاعدة" في ذات الخانة تماماً. ولا شك أن تطور هذه الإجراءات سيعتمد على استجابة الدول العربية والإسلامية وسواها للإملاءات الأميركية حيث سيطلب منها جميعاً مطاردة أية نشاطات سياسية أو اقتصادية داعمة للحركتين. في الداخل الفلسطيني سيكون مطلوباً من السلطة في المرحلة الأولى أن تركز على مطاردة العمل العسكري والسياسي الداعم له على نحو مباشر، ثم سيتطور نحو استهداف العمل السياسي بشكل عام، تليه النشاطات الخيرية والدعوية. ولكن الى أين تمضي هذه الحملة ضد قوى المقاومة الإسلامية؟ تعتمد إجابة هذا السؤال على جملة من العوامل والمتغيرات، لعل أولها وأهمها هو حجم النجاح الذي ستحققه المعركة الأميركية ضد ما تسميه الإرهاب والتي بات واضحاً أن أهم عناوينها هو محاربة الظاهرة الإسلامية، وعلى رأسها ما يؤثر بشكل مباشر في الدولة العبرية وتصعيد ظاهرة الرفض والمقاومة في الساحة العربية والإسلامية ضدها وضد الولاياتالمتحدة. ولا شك أن قوى المقاومة الإسلامية الفلسطينية تحتل مركز الصدارة على هذا الصعيد. المتغير الثاني يتصل بعملية التسوية، وهذه تعتمد في تحركها الى حد كبير على المتغير الأول، فنجاح الحملة الأميركية وتطورها نحو العراق وسورية ودول أخرى قد يعني فرض صيغة بائسة للتسوية على الوضع الفلسطيني والعربي، سواء كانت تسوية نهائية أم انتقالية. وفي هذه الحال ستتواصل عملية المطاردة الفلسطينية والخارجية لقوى المقاومة بوصفها تهدد تلك التسوية. وبالطبع فإن مآل العملية سيعتمد على مستوى تراجع الوضع الفلسطيني والعربي أمام الضغوط. ومن المؤكد أن الموقف الفلسطيني يعتمد على الموقف العربي، والدولي الى حد ما، وبدرجة لا تقل أهمية بل تزيد على الوضع الداخلي وتفاعلاته ومستوى رفضه واحتجاجه. ولا شك أن أي خليفة لعرفات في حال غيابه سيكون أكثر استعداداً لتطوير لعبة الحرب ضد قوى المقاومة، حسبما تشير قائمة الأسماء المطروحة ومواقفها. وهو ما بات الإسرائيليون يدركونه تماماً، بل ويعولون عليه أيضاً، على رغم قرارهم الواضح بعدم المس بالرئيس الفلسطيني انطلاقاً من المصلحة وانسجاماً مع المطلب الأميركي والدولي. مع الإكتفاء بعملية إذلال مبرمجة للرجل بغية تركيعه والحصول منه على صفقة يدركون أن أحداً سواه لا يمكنه منحها أي قدر من الشرعية. المسار الذي يمكن أن يحمل الفرج لقوى المقاومة، إضافة الى الأمل بتدخل العقلاء في السلطة و"فتح"، يتمثل في فشل أو تعثر الحملة الأميركية ضد ما تسميه الإرهاب. إضافة الى فرج آخر قد يأتي على يد شارون ومن ورائه الدعم الأميركي. ذلك أن تصاعد الغطرسة الإسرائيلية سواء عسكرياً بارتكاب مجزرة أو مجازر أو أية حماقات مماثلة، وهو احتمال محدود على ما تقوله سيرته منذ مجيئه لرئاسة الوزراء، أم سياسياً بمحاولة فرض تسوية مذلة على الوضع الفلسطيني والعربي وهو الذي يعتبر ما تم رفضه في "كامب ديفيد - 2" تنازلاً كارثياً، وهذا الإحتمال وارد بقوة، وهو ما ينسحب على إمكان رفضه على المستويين الشعبي والرسمي على رغم الغطرسة والضغوط، مما يفسح المجال أمام انطلاقة جديدة لبرنامج المقاومة. ولا شك أن نجاح برنامج التحجيم الذي ينتظر قوى المقاومة سيعتمد كذلك على قدرتها على استيعاب الهجوم والتماسك في مواجهته، خصوصاً أن محاولات شق الصف ما بين داخل وخارج ومعتدل ومتطرف ستكون من الأدوات المهمة في نجاح البرنامج. أما الحديث عن الحرب الأهلية المقبلة بسبب إجراءات السلطة فقد أثبتت السيرة التاريخية لحركات المقاومة أنه حديث مبالغ فيه الى حد كبير ، ولا سند له من الواقع. بقي أن يقال أن ما زرعته المقاومة في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي سيقف سداً آخر في وجه إرادة ضربها وتحجيمها وشطبها من المعادلة. ولا شك أنه كان زرعاً سامقاً توجته تضحيات الشهداء والأسرى والمجاهدين. * كاتب أردني.