أخذت الحرب الاميركية في افغانستان تقترب من تحقيق الهدف المعلن لها، على رغم ان البنتاغون ما فتئ، يؤكد على انها ستطول وتطول. ولكن وصولها الى حسم معركة قندهار ومحيطها ومنطقة جبال تورا بورا حمل معه فوراً نشاطاً اميركياً عسكرياً - ديبلوماسياً واسع النطاق. مما يدل على تهيئة حثيثة لخدمة توسع الحرب على أرض فلسطين اثر قمة بوش - شارون الأخيرة وما تلاها من اجراءات نفذها كل منهم بعدها، كما يدل على التحضير للخطوة الثانية التي ستتخذها القوات الاميركية. فبالنسبة الى توسيع الحرب على الأرض الفلسطينية اثمرت الضغوط الاميركية على الاتحاد الأوروبي اذ انضم من خلال اجتماعه الوزاري في بروكسيل الى مطالبة رئيس السلطة الفلسطينية بتفكيك "حماس" و"الجهاد" وكل من يقاوم الاحتلال تالياً واعتبارهما "منظمتين ارهابيتين". وتأتي زيارة وزير العدل الاميركي اشكروفت مع وفد قانوني كبير الى أوروبا ضمن اطار المضي بعيداً في سن القوانين التي تتجاوز الحريات الاساسية وميثاق الاتحاد الأوروبي لحقوق الانسان، ليس من زاوية الاعتقالات وتسليم المطلوبين فحسب وانما ايضاً من ناحية ما يسمى بتجفيف "الموارد المالية". أما من جهة اخرى، فلنضع أمامنا: زيارات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد الى كل من جورجيا وارمينيا واذربيجان واوزبكستان، وتحركات وزير الخارجية كولن باول الى موسكو ولندن وباريس وتركيا ودول أخرى، وارسال وفد عسكري اميركي الى شمال العراق، ومثله وفود عسكرية وأمنية الى كل من اثيوبيا والسودان والصومال ودول اخرى، الى جانب طلعات طيران استكشافي فوق الصومال واليمن واندونيسيا. ثم زيارات مساعد وزير الخارجية وليم بيرنز الى تونس والجزائر والمغرب ودول عربية اخرى على القائمة. هذا الى جانب نشاط السفراء وفي مقدمهم السفير الاميركي فنسنت باتل في بيروت. فهذه التحركات تدل دلالة لا تقبل الشك في ان الادارة الاميركية تبيت لضربة عسكرية جديدة، أو تعد لاختيارها مكاناً وزماناً. فعندما يسارع المبعوث الأوروبي رينو سري الى القرن الافريقي معلناً معارضة أوروبا وايطاليا على الخصوص لأية ضربة عسكرية للصومال، ومطالباً بإطلاق عملية سياسية لدعم حكومته وتوحيده واعادة تعميره باعتبار ذلك هو الطريق الناجح لمكافحة الارهاب، يكشف عن مخاوف أوروبا مما تبيته اميركا للصومال. وعندما يقول البابا من الفاتيكان: "يجب ألا يوسع نطاق الحرب" يكشف عن ان الضربة القادمة اصبحت تطبخ على نار حامية. ويأتي تصريح أمين عام الاممالمتحدة كوفي انان في الاطار نفسه حين قال: "ليس من الحكمة ضرب العراق" ولكن يمكن ان يستنتج في الوقت نفسه، ان ثمة دولاً كبرى، وربما أطراف في الخارجية الاميركية قد حثته علىه. ومن هنا يكون الرئيس الاميركي جورج بوش الابن مضى يترجم عملياً ما أعلنه من حرب عالمية ستكون طويلة الأمد، وستستهدف اكثر من منظمة ودولة. وهو بهذا جعل السحب الدكناء تملأ سماء العالم وتتهدده، بصورة خاصة، بالفوضى والحروب، وبتفاقم كل المشاكل التي جهدت أغلبية شعوب العالم ودوله في اثارتها ومحاولة ايجاد الحلول لها قبل 11 ايلول سبتمبر 2001، مثل قضايا الفقر والمرض والبطالة والانحباس الحراري وتلوث البيئة، فضلاً عن مسائل رفع مظالم النظام الاقتصادي العالمي العولمة عن كاهل الشعوب الفقيرة، بل عن العالم كله. فالإدارة الاميركية حين تسقط من الأجندة العالمية كل تلك القضايا ولا تستبقي سوى أجندة "مكافحة الارهاب" وضمن منظورها وحدها في انتقاء ما هو ارهاب، تكون قد حشرت العالم كله في الزاوية وراحت تبتزه حتى آخر مدى. فإذا ماشاها في هذه المعركة أو تلك واصلت الطريق الذي جعلته بلا نهاية. واذا تم التراجع أمام مطالبها كما يحدث في الساحة الفلسطينية تركت شارون يشدد الحصار والضربات العسكرية والاغتيالات من أجل ابتزاز المزيد فالمزيد. لقد فرضت تحركات الديبلوماسية - العسكرية الاميركية خلال الاسبوع الفائت ان يعاد التذكير بكل ذلك مرة اخرى. فالسياسة الاميركية زادت من دعمها لشارون - بيريز - اليعيزر - موفاز من خلال مواقف مبعوثها الجنرال زيني الى فلسطين. والأهم عبر جلب الاتحاد الأوروبي الى المعركة ضد "حماس" و"الجهاد"، أي ضد السلطة الفلسطينية في الوقت ذاته. كما امتدت احتمالات الضربة العسكرية من العراق أو الصومال الى التهيئة لفتح معركة ضد لبنان وسورية من خلال التشديد على ادراج حزب الله ضمن قائمة "المنظمات الارهابية". هذا ولا يمكن ان يفهم استمرار الحملة الاعلامية الشرسة التي تتعرض لها كل من السعودية ومصر، مضافاً اليها الحملة على الاسلام والعرب والمسلمين إلا ضمن هذا الاطار. الأمر الذي يؤكد بأن موضوع "الارهاب" ليس هو الهدف الاساسي، وانما هو الذريعة لاستهداف الوضع العربي كله، بل الوضع الاسلامي جملة والعالم بصورة عامة. ومن ثم يخطئ كل من لا يرى ما وراء إثارة تفكيك حماس والجهاد وسائر المنظمات الفلسطينية حتى لو لم تذكر اسما اسماً، وما وراء اثارة موضوع حزب الله، أو التلويح بانتقال الحرب الى العراق أو الصومال أو توجيه ضربات محدودة لدول عربية اخرى. فكل استهدفا معلن يحمل في طياته استهدافاً متعدداً أبعد مدى. ولنتذكر كيف قدمت الحرب على افغانستان ثم كيف اخذ الاستهداف يتعدد بعد كل خطوة يتم انجازها. فالمستهدف الآن هو الوضع العربي ككل. لأن أية نقطة، حتى لو كانت مجرد "قاعدة" أو منظمة، تُستهدف، ستمس الدول العربية الأخرى، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لأن المعادلة العربية وان بدت دولاً متفرقة، وهي ذلك موضوعياً التجزئة وذاتياً السياسة القطرية ضيق الأفق في أغلب الحالات، الا انها متداخلة مترابطة يستهدف الكل فيها اذا ما استهدف الجزء. فعندما، على سبيل المثال، تضرب فلسطين، تضرب مصر وسورية بداية وكل الدول العربية تتابعاً أو تلازماً، واذا ضرب لبنان ضربت سورية وستكون ضربة في الآن نفسه لمصر والسعودية وايرانوالعراق، واذا ضرب العراق فضربه يمس، اضافة الى الدولة العربية، كلاًَ من ايران وتركيا مباشرة. ولهذا حين لا ينظر الى وضع السياسات الاميركية، وخصوصاً حين تختلط بالسياسات الاسرائيلية، ضمن الحدود التي تعلن استهدافها، وانما عبر ابعاد أوسع كثيراً لا يقصد التهويل، أو جر الآخرين الى مواجهة يستطيعون تجنب تداعياتها وملحقاتها حتى لو ظنوا أنهم تجنبوها في لحظتها، وآثروا "السلامة" لأنفسهم ودولهم. لقد اثبتت التجربة خلال الأشهر الاربع الماضية، وعلى نطاق عالمي، كما اثبتت دائماً، ان انتهاج سياسة التراجع المتتالي أمام المطالب والسياسات الاميركية والاسرائيلية بصورة أولى تقود الى المزيد من تشجيعها على الوصول الى نقطة استخدام القوة العسكرية تماماً مثل المواقف المقابلة التي تقدم لها الذريعة السهلة التي تحتاجها لتشن الحرب كأنها في موقع المدافع المعتدى عليه. بينما انعقاد موقف يتسم بالتوازن والاعتدال والعدالة يستطيع ان يحشد من حوله اوسع جبهة اقليمية وفي حالتنا عربية - اسلامية وعالمية، ويكون قوياً يضع الخطوط الحمر التي لا يجوز تجاوزها، من شأنه ان يربك العدوانية الاميركية ويفرض عليها التراجع بل الهزيمة. انها المعادلة الوحيدة التي تفرض عليها اعادة حساباتها، وتساعد كل المتأذين منها للخروج من حالة الابتزاز والرعب. واذا أصرت على استخدام القوة العسكرية فعندئذ يمكن كسر الهجمة، ايضاً، لأن الحروب التي كسبتها اميركا خلال العقد الماضي لم تكسبها بالقوة العسكرية وحدها، وانما من خلال العزلة الدولية التي عانى منها خصومها. فقوتها ستكون غيرها حين تكون في حال العدوان السافر ضد موقف دفاعي قوي سياسة وعدالة وصموداً ومن حوله اعتراض عالمي على الحرب الاميركية. وعلى أية حال، ان النهج الاميركي الحالي سيقود، في وقت قريب أو متوسط، لدفع غالبية دول العالم وشعوبه لمعارضته، بصورة اكثر جدية مما بدا على سطح الاحداث حتى الآن. فكلما وسع نطاق استهدافاته، وسع نطاق الاعتراض عليه والتعرض له. اما الغضب الشعبي، وميزان الرأي العام، ليس على المستوى العربي والاسلامي فحسب، وانما ايضاً على مستوى عالمي فهو في تصاعد ضد اميركا مع كل خطوة توسع فيها حروبها. وهذا لا يقتصر على ما له علاقة في الحرب المباشرة فحسب، وانما ايضاً على مستوى انتهاكات حقوق الانسان ومناهضة العنصرية. فتغير موقف المفوضة السامية لحقوق الانسان ماري روبنسون باتجاه دعم الاعلان الصادر عن المنظمات غير الحكومية في مؤتمر ديربان والذي وصم الصهيونية بالعنصرية وطالب بفرض نظام عزل وعقوبات على اسرائيل "الحياة" في 10/12/2001 ليس بلا مغزى بعد ان عارضته روبنسون، بقوة، في ديربان. كما ليس بلا مغزى احتجاج اتحاد المحامين الاميركيين على المحاكمات العسكرية، أو مواقف رئيسة منظمة "أصوات في البرية" هاتلين كيلي ومعارضة منظمتها "للحملة العدائية التي تقودها اميركا ضد العراق بهدف تهيئة أجواء شن عدوان واسع عليه".