كان من تداعيات أحداث 11/9/2001، ربطها بأناس من عندنا، فنشط كتابنا ومحللونا في الدفاع، واتبعوا سياسة النفي والانكار في معظم الحالات، أو برروها بسياسات المظالم والانحياز والهيمنة في حالات أخرى، ولما لم تُجدِ تلك الانكارات والتبريرات أمام السوابق والقرائن والتهديدات، بدأ سؤال حائر وقلق يبرز في دنيا العرب "كيف نحسن صورتنا أمام العالم وبخاصة الغرب؟ وكيف نرد الهجمة؟"، فانشغلنا جميعاً - قادة وشعوباً، مثقفين وسياسيين - بالإجابة عن هذا السؤال. لا شك أن هناك ربطاً بين العرب والمسلمين والإرهاب، وان مقولة أن الغرب لديهم صورة سلبية عنا، تجد لها رواجاً كبيراً عندنا في الأوساط الشعبية والثقافية والسياسية والدينية، لكن الأمر يحتاج إلى مناقشة هادئة... فهل صحيح أن الغرب ككل يحمل صورة سلبية عن العرب والمسلمين جميعاً؟ في تصوري أن في الأمر مبالغة كبيرة، وتعميماً غير دقيق، فالغرب ليس كتلة واحدة، والعالم الغربي محبط مترامي الأطراف ومتعدد الأمواج، هناك شعوب ودول وثقافات وأديان ومؤسسات وأحزاب وتوجهات وتيارات تتفاوت في رؤيتها للعرب وللمسلمين وللإسلام، بتفاوت ألوان ودرجات الطيف كلها. وإذا كانت هناك قطاعات لا تحمل صورة حسنة عنا، فإن هناك في المقابل قطاعات أخرى لا تقل عنها إن لم تكن أكبر لا ترى بالمنظار نفسه... ولكن السؤال هنا: لماذا نعتقد - نحن العرب - بأن صورتنا بتلك السوء عندهم، وما مصدر هذا الاعتقاد أو الظن؟ في تصوري - مرة أخرى - أن وسائل إعلامنا، لا الغرب، هي التي نجحت في خلق هذا الانطباع لدينا بسبب قابليتنا لتصديق هذه الصورة، واستعدادنا المسبق لذلك من باب "يكاد المريب أن يقول خذوني"، وذلك عبر تصيّد أقوال وتصرفات لأفراد أو أحداث حصلت وتحصل هناك، ثم تضخيمها وإبرازها في صفحات أولى أو بعناوين مثيرة بهدف الايحاء بأن هناك موجة من الكراهية ضدنا أو حملة صليبية ضد الإسلام، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل أو تهميش جهود كبيرة مبذولة وتبذل باستمرار من قبل قطاعات عدة في المجتمعات الغربية وفي الولاياتالمتحدة - نفسها - لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين... اذكر على سبيل المثال نموذجين للقضية: الأول، في الأحداث الأخيرة جرى تصيّد كلمة "كروسايد Crusade" في خطاب الرئيس الأميركي سواء من قبل إعلامنا أو من رموزنا الدينية حتى المعتدلة منهم ومن قبل كتّاب ومحللين عرب للايحاء بأن أميركا تقود حرباً صليبية ضد المسلمين والإسلام، وتم شحن الناس وتحريضهم من قبل خطباء الجمعة على امتداد الساحة الإسلامية، وعلى رغم أن البيت الأبيض حاول أن يفسر بأن الرئيس إنما كان يستخدم كلمة دارجة في اللغة الانكليزية تستخدم في الحياة اليومية في وصف أي حملة شديدة واسعة النطاق سواء ضد الإرهاب أو المخدرات، ولا علاقة للكلمة بأصلها الديني قبل 8 قرون. إلا أن الإسلاميين عندنا لم يقتنعوا بذلك، بل اعتبروا زلة اللسان هذه، عبّرت عما تُخفيه الصدور ضد الإسلام، ولم تشفع للرئيس الأميركي زياراته للمركز الإسلامي في واشنطن وامتداحه للإسلام ديناً للسلام والتسامح، وتحذيره من أي مساس بالجاليات العربية والإسلامية، وتوعده بالعقاب الشديد على ذلك. وعلى رغم حرص الحكومة الأميركية على إشراك ممثل المسلمين الذي قرأ القرآن في اليوم القومي للحداد، ومسارعة زعماء أوروبيين بأنه لا يجوز الحكم على المسلمين من خلال ممارسة قلة إرهابية، وأنهم يحترمون العالم الإسلامي، بل وقيام الأحزاب السياسية والتنظيمات الاجتماعية زعماء الكنائس المسيحيين، باختلاف طوائفهم، للتصدي للحملات على الإسلام والعرب سواء في المانيا أو بريطانيا أو فرنسا، إلا أن كل هذه الجهود تم تهميشها أو تجاهلها أو ترحيلها إلى الصفحات الداخلية... لماذا؟ لهدف سياسي واضح هو تأكيد صليبية المواجهة بين الغرب والإسلام، ولذلك نشطت الأحزاب السياسية الدينية والرموز الدينية السياسية في الساحة لقلب الحقائق وتضليل الناس وشحنهم للقيام بمظاهرات ومسيرات في مصر وفي الخرطوم تحمل صور أسامة بن لادن وتتوع. أميركا. وتنادى علماء أندونيسيا بالجهاد وبضرب السفارة الأميركية في جاكارتا، وحشد إسلاميو باكستان آلاف الناس يبايعون بيعة الموت للانتقام من أميركا، وقامت تظاهرات طلاب الشريعة في عُمان، وفي المنامة مزقوا وداسوا العلم الأميركي ورفعوا صور بن لادن، وفي كانو، بنيجيريا، خرج 5 آلاف متظاهر بعد صلاة الجمعة واصطدموا بالشرطة، فقتل عشرة واصيب العشرات. ترى لماذا هذه المسيرات والتظاهرات، وما جدواها؟ وماذا يستفيد الخطباء المحرضون من توريط الجماهير في أعمال تدمير أو قتل غير اعطاء الصورة السلبية عنا وعن الإسلام؟ النموذج الثاني، هناك تصريحات منسوبة لرئيس وزراء ايطاليا بيرلوسكوني حول تفوق الحضارة الغربية على الإسلام أبرزتها صحفنا ووسائل إعلامنا بهدف الإثارة وشحن الناس... ولكن إعلامنا لم يبرز في المقابل اعتذار بيرلوسكوني أمام مجلس الشيوخ الايطالي ونفيه لما صدر منه، بل وامتداحه للمسلمين وقوله إن هذه التصريحات فبركة من خصومه اليساريين للإساءة إليه، كما لم تهتم وسائل إعلامنا بأن هذه التصريحات إذا كانت أغضبتنا، فقد أثارت موجة غضب عارمة في ايطاليا والاتحاد الأوروبي ضد بيرلوسكوني، إذ تعرض لأعنف هجوم في حياته، حتى أنهم شبهوه بموسوليني جديد... والسؤال الموضوعي الذي نحاول دائماً التهرب من طرحه على أنفسنا: ماذا عنا؟ إذا كانت هناك اساءات تحصل ضدنا، فإنهم يبادرون إلى انتقادها وتصحيحها، فهل يحصل عندنا مثل ما يحصل عندهم؟ والجواب للأسف بالسلب، وإلا فهل من تفسير عادل لأقوالنا وتصرفاتنا ضد الغرب؟ إن قنواتنا الفضائية مسخرة لأناس مشحونين بعقد الكراهية والعداء للغرب الصليبي وأميركا عدوة الإسلام، ورموزنا الدينية، حتى المعتدلة، تلعن الحضارة الغربية وفجورها وتدعو بسقوطها، وخطباؤنا عبر الساحة الإسلامية في خطب الجمعة يدعون إلى الدمار على المسيحيين واليهود ويحرضون الجماهير لضرب المصالح الغربية والأميركية، وجماهيرنا تخرج في مسيرات غاضبة مهددة تنقلها قنواتنا الفضائية إلى العالم كله... ثم نأتي بعد ذلك ونتساءل كيف نُحسن صورتنا لدى الغرب؟ غير ذلك هناك منظمات أصولية تعيش في الغرب تقوم بتصرفات مسيئة للإسلام وتستقدمهم قنواتنا الفضائية وتستضيفهم ليذيعوا اساءاتهم على العالم كله. وفي أوروبا وأميركا تتمتع الجاليات العربية والإسلامية بكامل حقوقها الدينية والمدنية والسياسية، لهم مراكزهم الدينية ومساجدهم ومدارسهم، ويجد الإسلام ترحيباً وانتشاراً في القارتين الأوروبية والأميركية ويدخل سنوياً في دين الله أفواج من البشر عندهم، ترى ما هي الصورة في المقابل عندنا؟ هل تجد الأقليات الدينية أو العرقية عندنا، لا أقول الحقوق نفسها بل نصفها هاجت الدنيا عندما سمعنا أن قطر تنوي السماح لبناء كنيسة. إننا نطالب الغرب بالعدالة وأن لا يكيلوا بمكيالين وأن يحترموا ثقافتنا وخصوصياتنا، وأن لا يربطوا الإسلام بالإرهاب، حسناً وماذا عنا؟ ألا نكيل نحن أنفسنا ومع بني جلدتنا فضلاً عن الآخرين بمكاييل ملونة عدة؟ تسألني من المسؤول: الحكومة أم المجتمع أم من؟ نحن جميعاً مسؤولون وبالدرجة الأولى المجتمع بكل قطاعاته ورموزه الثقافية والدينية، إذا أردنا تحميل الصورة يجب أن نتحمل مسؤولياتنا كاملة - حكومات ومجتمعات - حتى تكون لنا مصداقية لدى العالم. نحن نعاني ازدواجية بغيضة، نضمر في أنفسنا شيئاً ونعلن أمام وسائل الإعلام ما يرضينا ويجمّل صورتنا. إن مسؤولياتنا - أولاً - في الداخل - قبل الخارج - عديدة، لأن الخارج انما يعكس ما بالداخل، يجب أن نُعيد النظر في مناهجنا لنجتث الفكر الإرهابي من جذوره ومنابعه، فنحن متهمون من قبل الغرب، لا لأننا مختلفون شكلاً وإنسانياً عنهم، وإنما كما يقول عبدالعزيز محمد الخاطر، "لأنهم يملكون الشواهد على عقليتنا الاحادية التي هجرت الآلاف من أبناء هذه الأمة إلى ذلك الغرب فاحتضنتهم، وبقينا نحن نختزل الأمة في رجل والنصر في زعيم والحقيقة في فكر واحد" "الشرق" 10/10/2001. ويجب أن نعيد النظر في أساليب تربيتنا وتنشئتنا حتى لا تتحول إلى محاضن لتفريخ أجيال شابة تتلقفهم منظمات متطرفة تمارس معهم غسيل مخ وتستقطبهم إلى صفوفها وتخسر الأمة خيرة شبابها، ويجب أن نعيد النظر في أساليب تثقيفنا حتى لا ترسخ ثقافة العنف التي تفرخ الإرهاب، يجب إعادة النظر في مستوى أداء إعلامنا ولا نترك المجال لمهووسين ومتشنجين يقودوننا إلى الهاوية. يجب ألا يتاح منابر المسلمين الدينية لمحرضين يزرعون بذور الكراهية والعداء ضد الآخرين ويستغلون المنابر لأهداف حزبية أو سياسية أو مصلحية ولتذهب مصالح الأمة إلى الجحيم، يجب على الإعلام أن يقوم برسالته كموجه وقائد لا أن يتحول إلى متظاهر مع المتظاهرين في شوارع المدن العربية والإسلامية ويتصرف بعقلية القطيع ويستند إلى الدعاية والإثارة ويتاجر بالأزمات والثورات، كما يقول داود الشريان "الحياة" 11/11/2001. قبل تجميل الصورة الفوتوغرافية، علينا أن نصلح الأصل، كما يقول د. البكوش، علينا أن نصلح من شأن واقعنا الذي لا يخفى على العالم الخارجي، وكفانا اتهاماً ضد وسائل الإعلام الغربية المتحالفة مع اللوبي الصهيوني، يجب أن نتخلص من مرض العنف في ثقافتنا وتعليمنا وتربيتنا... كيف نأمل صلاحاً للأمة والعند مبدأنا في التعامل داخل الأسرة وخارجها؟ يجب أن ندرب أولادنا على أساليب الحوار واحترام الرأي الآخر، حتى لا يصبح دماء المعارضين لنا - سياسة أو ديانة أو مذهباً - حلالاً، نحن مسؤولون عن مكافحة الفكر الإرهابي بين أظهرنا، وهناك خلل في مجتمعاتنا بدفع شبابنا لمحاضن الجماعات الإرهابية فتخسر الأمة خيرة شبابها، يجب أن نتخلص من عقدة الكراهية والعداء للآخرين لمجرد اختلاف المصالح والميول، وهي العقدة التي تدفع شبابنا لدروب المهالك، وهي التي دفعت رموز دينية سياسية معتدلة في بعض الدول العربية - بعدما دانوا الغارات الأميركية على أفغانستان بحجة عدم مقابلة إرهاب بإرهاب مماثل وعدم معاقبة شعب بجريرة بعض لا دليل على تورطهم - دفعتهم إلى الضفة الأخرى ليصبحوا مدافعين عن أبرز الرموز الإرهابية ممن لهم سجلات اجرامية طويلة في بلادهم وفارين من العدالة، وليرددوا مقولات الإرهابيين نفسها من أنها حرب بين كفر وإيمان ثم لم يكتفوا بذلك، بل حرضوا الجماهير للتظاهر واتهموا الأنظمة العربية بالتخاذل والتواطؤ مع الأميركان، بل إنهم اتهموا الوزاري الإسلامي بمجاملة أميركا على حساب الشعوب العربية... ترى هل هي غيرة دينية على أفغانستان أم عقدة كراهية الأميركان؟ يرددون أين الأدلة: هل تقبلون الأدلة حقاً وأنتم تبررون فعلتهم؟ إن الملا محمد عمر صرح بأنه لن يسلم أحداً حتى ولو ثبتت الأدلة "الشرق" 5/10/2001، لماذا اللعب على المشاعر الدينية ودفع الناس للتهور وارتكاب حماقات يندمون عليها؟ وإذا كان المطلوب تصحيح نظرة الغرب إلينا، فيجب علينا بعدما نصحح أوضاعنا أن نصحح نظرتنا للغرب ونتجاوز حال التربص المتبادل والشكوك ونظريات المؤامرة المغروسة في نفوسنا دائماً وأبداً، فالعالم من حولنا يصنع وينتج ويكتشف ويتقدم ويحيا حياة مختلفة تماماً عنا. * عميد كلية الشريعة والقانون، جامعة قطر.