نشرتم بتاريخ 7 ايلول سبتمبر مقالاً للدكتور غسان العطية بعنوان "ذرائع الاستبداد في الدفاع عن حكام بغداد"، واسجل اعجابي بوضوح افكار العطية وسلاسة اللغة التي استخدمها. بدأ الدكتور العطية مقاله بالقول: "إن هناك من يدافع عن حكم الاستبداد بذريعة او اخرى، فلكل من ستالين وهتلر، في حياتهما وحتى بعد مماتهما، معجبون ومدافعون...". ولا نختلف معه في ذلك، بل كاد يعبر عن ظاهرة اجتماعية، لم تستطع حتى الديموقراطية من حلها تماماً، كما في المانيا ومثال الاحزاب الفاشية. فما بالنا في مجتمعاتنا وشعوبنا التي تبدو احياناً وكأنها تتحرك بفعل الغريزة ومجموعة مفاهيم سياسية قاصرة، أحادية الجانب. وأنا شخصياً لا اميل الى لوم الاخوة حاملي صور صدام في المظاهرات الشعبية في غزة والضفة الغربية، كما نفهم من الكاتب، لأن لهم هدفاً سياسياً واحداً يتمثل في التخلص من ربقة العدو الصهيوني، ولا يعنيهم في شيء ان يكون مثالهم من هو اسوأ من شارون نفسه. المعادلة في الشارع العربي بسيطة: صدام مثال لأنه فعل شيئاً، وهو منا، اما الآخرون - العدو، اياً كان، فهو ليس منا. وهذا المثال يتجلى الآن في الحرب الحالية، اذ افرزت استقطاباً بين طرفين: الاسلام متمثلاً بأفغانستان، والصليبيون متمثلين بالولاياتالمتحدة. وأصبح اسامة بن لادن، من حيث ندري ولا ندري، بطلاً حتى من لدن النخبة الليبرالية. الا يعكس هذا خللاً كبيراً في طرق استبانتنا الاشياء وفهمنا لها. يتمتع ستالين وهتلر ببعض الشعبية، ومن قبل عناصر تقرن النقاء العرقي والايديولوجي بالعظمة. لكن صدام حسين، السلطوي، وبن لادن، المتعصب يتمتعان بشعبية اكبر. ويمثلان في اللاوعي الشعبي، بطلين أسطوريين. الا ينبئ هذا اننا لا نعيش في الحاضر؟ الا ينبئ ان مشروع نهضتنا باء بالفشل ولم يكن راديكالياً بما فيه الكفاية حتى ندخل العصر الحديث؟ وهذه الاسئلة الغرض منها الوقوف قليلاً عند المقارنة التي اتى عليها الدكتور العطية بين حكم الملك فيصل الاول، بداية القرن الماضي، وحكم الرئيس صدام، نهاية القرن نفسه. وانتهت المقارنة بالكاتب الى تفضيل حكم الملك سياسياً واقتصادياً. وأعتقد ان المقارنة في حد ذاتها تشي بنوع من البكاء على الاطلال، وتأتي استجابة لما يدور في الوسط العراقي السياسي من جدل. وهو جدل عقيم لأنه يشي بأن الحل الناجع للعراق هو في العودة الى الماضي، مستفيداً من ان الفكرة السائدة ان كل ما حدث قديماً هو "جميل". ولعل الكاتب لم يقصد هذا، لكن مقارنته بين عهدين، لا بد من ان تنتهي الى هذا الاستنتاج. وهذا التفضيل سيقودنا الى اضفاء شرعية على "التعاون مع الاجنبي". الملك فيصل اعتمد على التعاون الانكليزي. بل ان "الفضل في خلق العراق بحدوده الحالية وحدة الولايات الثلاث البصرة، بغداد والموصل يعود الى الاجنبي، لا حباً في العراقيين ولكن مصلحة بريطانيا بعد الحرب العالمية الاولى كانت تقتضي ذلك...". وهذه حقيقة تأسس عليها وعي لم يستطع خطاب الفكر القومي المعادي للاستعمار الغاءها. وهي شجاعة من الكاتب ان يذكرها على النحو الواضح، اذ لم يحاول الكاتب، مثلما يفعل آخرون، الباسها لباس الغموض خجلاً او استحياء او خشية من الاتهام بالخيانة. لكن ما علاقة ذلك، بعد مضي قرن، بتبرير طلب المعارضة العراقية مساعدة او تعاوناً من الاجنبي؟ هل التعاون الاجنبي ضروري لاقصاء النظام العراقي؟ هذا السؤال لا معنى له اذا لم يكن هناك تاريخ طويل من عدم الثقة ب"الاجنبي". وفي تاريخنا السياسي، كما يجب الاعتراف، ثمة تشويه كبير لهذا الاجنبي. حتى ان كلمة "تعاون" تبدو مشبوهة. بل لعلها من المحظورات. كما يجب الاعتراف ان هناك الكثير من الانظمة الدكتاتورية التي تستمد شرعية وجودها في السلطة من عدم التعاون مع الاجنبي. هذا التاريخ الطويل لهذه المفردة في خطابنا السياسي، بشتى انواعه، يصعب المهمة. لنعترف ان المعارضة نفسها، بكل اطرافها، ترفض هذه المفردة - التعاون، وينكل احدها بالآخر بتهمة العمالة. وهي كلمة مرادفة لمفردة "التعاون". الكبرياء الديني والقومي والوطني يمنع هذه القوى من الاقرار بالحقيقة. وهذا، كما ارى، يشي بجو غير صحي يسهم فيه الكل من حيث لا يدري. والجماهير، ما ألعنها من كلمة، تتنفس هذا الهواء المسموم. المعارضة العراقية مذمومة من قبل "العرب" لأنها تتعامل مع الاجنبي، لا لأنها تقاتل نظاماً استبدادياً. المعارضة العراقية مذمومة من قبل النظام لأنها عميلة. والمعارضة مذمومة من قبل نفسها لأنها تتعامل مع الاجنبي، الاسلامي وغير الاسلامي. لندن - خالد عيسى طه خبير قانوني.