نخطىء حين نظن أن العالم كله يحدّثنا بلسان "صراع الحضارات". وأنه يكرهنا وينبذنا ويستفزّنا. هناك أيضاً في العالم أصوات أخرى. أصوات قوية. وهناك طلب واسع على إسلام غير طالباني. إيجابي. يستطيع أن يتصالح مع الحداثة ومع الأمة - الدولة كما مع الأديان والمذاهب والجماعات الأخرى. هنا، نشعر، أيضاً وأيضاً، بالافتقار الى لبنان ما قبل 1975. لبنان الذي كان متعايشاً الى هذا الحد أو ذاك. والذي إبان تعايشه، أعطى أسماء ومحاولات يمكن إدراجها، على تفاوت، في هذه الخانة: صبحي الصالح. حسن صعب. موسى الصدر. محمد مهدي شمس الدين. الإسلام اللبناني اليوم لا يستطيع أن يقدم شيئاً. لكن المسلمين الذين يعيشون في جوار غيرهم، وقريباً من حياة سياسية، ربما فعلوا ذلك: في البوسنة التي دعم الغرب قضيتها. في تركيا التي عاشت أعمق تجارب الاحتكاك وأعنفها: بين الدين والعلمنة. بين آسيا وأوروبا. تركيا هذه، وفيها أنضج الحركات الأصولية، أصدرت قبل أيام قانوناً جديداً يساوي المرأة بالرجل في اقتسام الملكية العائلية بعد الطلاق. وقبل البوسنة وتركيا، يُفترض للنموذج الأوروبي الغربي في التعدد الثقافي أن يطرح ثماره: صهيب بن شيخ، مفتي مرسيليا، من هذه الثمار. كذلك زكي بدوي وعبد المجيد الخوئي في بريطانيا. الموضوع، بالطبع، لا يغني عن تحولات في السياسة والاقتصاد والتنمية. لكن هذه التحولات لا تكتمل من دون تحول في الأفكار والتشريع. وقضية الإسلام الإيجابي لها موقعها في تاريخ الأفكار نفسها: النكسة ابتدأت مع تحول رشيد رضا من تلميذ لمحمد عبده الى مرجع راديكالي. التحول الذي وازى تقدم الكولونيالية نحو الشرق، وجد تعبيره في حسن البنا وحركة الاخوان. بعد ذاك كانت تأثيرات الاسلام الهندي - الباكستاني: أبو الأعلى المودودي وتلميذه أبو الحسن علي الندوي. الندوي الذي ترجم المودودي من الأوردو الى العربية ونشره، هو من بات القائد والمرشد الروحي ل "جماعة التبليغ" في باكستان وخارجها. سيرته بالغة الدلالة على التغييرات التي جدّت. على تلاقي اتجاهات رأيناها تعمل بأنشط ما يكون في السنوات الماضية: أستاذٌ اسلامي اهتم بدرس وتدريس ابن تيمية، كما عُرف بشدة اهتمامه بالعالم العربي الذي اعتبره دائماً قلب الاسلام. الكتاب الذي اصدره بالعربية "ماذا خسر العالم…؟"، شارحاً نظرية أستاذه في "الجاهلية"، حقق نجاحاً مذهلاً منذ ظهوره في 1950، مستفيدا من مناخ "النكبة" الفلسطينية قبل عامين. عندما زار العالم العربي في 1951 لقي استقبال الابطال من حكام كالملك الأردني عبد الله، ومن مثقفين بارزين قرأوا الكتاب، بمن فيهم عصريون كأحمد أمين وأحمد لطفي السيد، فضلا عن طلاب واعضاء في جمعيات اسلامية عدة. يومذاك التقى الندوي بسيد قطب، النجم الصاعد للاخوان المصريين، واكتشف الاثنان الاتفاق الكامل بين آرائهما ومرجعية المودودي لهما معاً، علماً أن الندوي ظل أشد تعويلاً على التربية والتثقيف منه على العنف الذي استهوى قطب. الأستاذ الهندي، المتمسك بدور محوري للعرب في الاسلام، وثّق علاقاته بالاخوان المصريين وأثّر فيهم عموماً. وفي الستينات، وفيما كان يدرّس في الكلية الاسلامية في لوكناو بالهند، راعه أن جمال عبد الناصر وحزب البعث "حوّلا الاسلام ملحقاً بالعروبة". حذّر في مقالات ومحاضرات عدة من هذا المنحى الذي اعتبره دليل عمالة للغرب. نبّه من دور مسيحيين كميشيل عفلق في حركة القومية العربية. اما ما كان مبعث اطمئنانه وسط هذه "المخاطر"، فكون العروبة اخترقت النخبة الا انها لم تخترق الجماهير التي ظلت على ولائها للاسلام. في موازاة حرب اليمن، كان الخوف من عبد الناصر يفاقم التركيز على الدين، ومقدماته قائمة أصلاً. ويفاقم الانفاق على التسلح. بعد ذاك نشأت "المدارس"، ونشأ التنافس على نشر الدعوة الذي شارك الجميع فيه. وكان ما كان وما لا بد من مراجعته على هدي إسلام محمد عبده ومن شابهه.