بعد انتظار دام نحو خمس سنوات، أنجز المخرج السوري غسان شميط شريطه الروائي الثاني "الطحين الأسود"، وهو احد انتاجات المؤسسة العامة للسينما في سورية. والفيلم الذي عرض للمرة الأولى في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، جاء مخيباً للآمال، نظراً الى تشوّش رؤيته الفكرية، وتفاوت سرده في كشف مقاصد الحدث. إذ بدا المخرج مأخوذاً بجماليات المكان، من دون ان يتغلغل في نسيج الحياة الاجتماعية ومجريات الزمن المتحوّل، في قرية في الجنوب السوري، تعيش عزلة أبدية، ولم تصل إليها التحولات المفترضة التي جلبها الاستقلال، وانتهاء حقبة الانتداب الفرنسي على البلاد. فها هو المختار أسعد فضة، يهيمن على مقدرات القرية بأرضها وبشرها وبهائمها، لتمتد سطوته على كل ما يجري فيها. وعلى رغم تململ بعض الشخصيات من هذا الواقع المرير، إلا انها ظلت في حدود التذمر، عدا شخصية واحدة هي أيو الذي تجرأ على حرق مستودعات المؤونة في بيت ا لمختار اثر إهانة تعرضت لها زوجته من أعوان المختار، قبل ان يهرب الى فلسطين، ليلتحق في صفوف المجاهدين. هكذا تجري الأحداث بشكل أفقي طوال مدة الفيلم في عملية استعادية لسيرة جماعية وذاكرة تختزن نتفاً من حكايات شفوية، أفرزتها فترة الخمسينات في سورية، عن ممارسات اقطاعية، تتجلى في التخلّف والفقر في ريف الجنوب السوري، ما يقود مصائر هؤلاء البشر الى حالات قدرية في مواجهة هذا اليأس العظيم، لدرجة ان يتحول الطحين في مطحنة أبي سلمان عبدالرحمن أبو القاسم، الى طحين اسود كمجاز سردي ورؤية لواقع الأحوال. اشتغل غسان شميط الذي كتب سيناريو فيلمه بنفسه، على خطين متوازيين، الأول سياسي، حاول خلاله مقاربة قضايا كبرى مثل فلسطين والخيانة والدرك وأذناب الاستعمار، ولكن على شكل إنشاء مدرسي، لم يتجاوز السطح، والثاني رؤيوي، هو الأبرز، يكشف عن خصوصية بيئة مغلقة على ذاتها، تعيش طقوساً سرية في مواجهة أقدارها المحتومة. سبق وقارب البيئة ذاتها المخرج رياض شيا في شريطه "اللجاة"، وهنا يلامس شميط طقس "التقمص". ولعله اول مخرج في السينما العربية، يكشف الغطاء عن هذا المعتقد الذي تؤمن به بعض المذاهب، ويتمثل في الإيمان بانبعاث روح شخصية غائبة في روح شخصية اخرى، لها الذاكرة ذاتها عن المكان والبشر. ونقع على حالين من التقمص خلال الشريط، جاءتا نتيجة ضغوط الحياة على شخصية وقورة هي شخصية أبو سلمان صاحب المطحنة، مرة حين تتعرض أرملة ابنه الى فضيحة مع عشيقها، ومرة حين ينتقم منه الدرك بحلق شاربيه بأوامر من المختار، ما جعله يعتزل الحياة في مطحنته التي اخذت تدور بأيد خفية، مخلّفة الطحين الأسود في المكان، الأمر الذي يقوده الى الاختفاء جسداً في روح اخرى، بحثاً عن ملجأ روحي يطمئن اليه، بعيداً من العذابات الدنيوية، واللعنة التي اصابت القرية بأكملها. وعلى رغم توافر مادة درامية مؤثرة في ثنايا الشريط، إلا ان المخرج اكتفى بملامستها من دون ان ينبش التفاصيل، مدفوعاً بوازع أخلاقي صارم، ألقى بثقله على البعد السردي الحميم، إذ لا يعدم المتلقي أفكاراً قوية في نسيج المادة الدرامية التي تحتاج الى شحنات بصرية كشّافة لإضاءة أبعادها الميثيلوجية والحياتية، وكانت ابرزها فضيحة الأرملة مانيا نبواني، التي حاول المختار استغلالها في تحطيم هيبة الشيخ أبي سلمان، وعزله اجتماعياً بوصفه عدواً لدوداً للمختار. فحين يقبض أعوان المختار على الأرملة وعشيقها متلبسين بالجرم المشهود، يأمر المختار بجمع أهالي القرية للفرجة على موكب العاشقين البائسين، وهما يمتطيان حماراً في شوارع القرية. لكن المخرج يقطع هذه الذروة الدرامية عند هذه اللحظة بمصالحة بين المختار ورجال الدين في القرية، ليخسر مشهداً مشحوناً ومتوتراً، مدفوعاً بالنوازع الأخلاقية ذاتها، ويكرر الأمر ذاته في مشاهد الحب السرية بين المختار وزوجة أحد أعوانه ويدعى حبيب الذي سبق ولجأ إليه هارباً من لبنان وأصبح في حمايته، فيكتفي بمشهد تسلل المختار الى غرفة المرأة وإغلاق الباب، لينتهي الفيلم من دون ان يكتشف حبيب مثل هذه العلاقة الآثمة التي يعلم بها كل من يعيش في هذا المنزل من زوجات سابقات للمختار، ما يؤدي الى انتحار المرأة ذات ليلة مظلمة في النهر، من دون ان تثير أية اسئلة في ذهن حبيب! وهذا التفكك في السرد الفيلمي، أفقد النص قسطاً وافراً من قوته الإيحائية، بغياب البؤرة المركزية التي تتشظى العناصر الدرامية خلالها، فجاءت أشبه باللوحات المتجاورة التي يمكن الاستغناء عن بعضها من دون اثر يذكر. ويسجّل للمخرج اختياره للمكان، إذ تجري الأحداث في قرية مبنية من البازلت الأسود، تتمثل جمالياتها بتلك الغرف المتداخلة التي تؤدي الى دهاليز سرية، تشي بوحة كبيرة. لكن جماليات المكان لم تنفذ الى ارواح الشخصيات، وبرزت غربة واضحة بين الجدران الصماء والبشر الذين يتحركون في محيطها، وكأن شخصيات الشريط اكتفت باستعارة هذا الفضاء اكثر ما تعيش ذاكرته وتفاصيله الحميمة. وهذا الفضاء الكتيم الجاثم على النفوس، جعل المخرج يؤكد على المشاهد الليلية لتعزيز حالة السواد، إذ من النادر تسجيل مشاهد نهارية، وحين يضطر الى ذلك، تبرز ثنائية الأبيض والأسود، خصوصاً في زي الرجال، في بضع مشاهد ساحرة ومشغولة بآناة، وكانت تحتاج الى رؤية درامية تواكب هذه الثنائية التي ينبغي ان تكشف عن جوهر الشخصيات، وليس نتيجة اخلاص فولكلوري للبيئة.