بعد ستة أعوام من تاريخ تفجر الثورة السورية، وخمسة على بداية موجة الأعمال التسجيلية عن سورية والسوريين، والتي بقيت في مُجملهما على أطراف البلد الجغرافية، مُسجلة في الغالب محن اللاجئين السوريين الذين كانوا يفرون من عنف بلادهم إلى الدول المجاورة. بعد مجموعة الأعمال تلك والتي يقف وراء معظمهما مخرجون من جنسيات غير سورية، بدأت تصل أفلام من سورية ذاتها، وبتوقيع سوريين صوروا فصولاً من الكابوس المتواصل في بلادهم، فعرض في الأشهر القليلة الأخيرة أفلام: «استعراض الحرب» للمخرجين عبيدة زيتون والدنماركي أندرياس دالسجارد، و «300 ميل» للسوري عروة المقداد، وفي الشهر الأول من هذا العام عُرض فيلم «آخر رجال حلب» في مهرجان ساندانس الأميركي الشهير، وهو فيلم أخرجه السوري فراس فياض، بالتعاون مع المخرج الدنماركي ستين جوهانسن. وإذا كان «استعراض الحرب» يتميز باستعادته الملحمية لمسار الثورة والذي كانت المخرجة شاهدة على بداياتها وبعض انعطافاتها وتحولاتها، من احتجاجات سلمية إلى حرب مدمرة، فيما يُحرض فيلم «300 ميل» على التفكير بحال الثورة والبلد الذي تقطعت أوصاله بين المعارضة والنظام، بين حلب في الشمال حيث كان المخرج يصور حرب الشوارع هناك، ودرعا في الجنوب، الذي تعيش فيه ابنة أخ المخرج، والتي سجلت بعفوية الأطفال يومياتها هي الأخرى، ينحصر زمان ومكان فيلم «آخر رجال حلب» بزمن سيطرة فصائل معارضة على بضعة أحياء في المدينة التي كانت خارجة عن سلطة النظام السوري. هوية خاصة هذه التحديدات الزمنية والمكانية تمنح فيلم «آخر رجال حلب» هوية وحميمية خاصة، لا يقترب منها أيّ من أفلام الحرب السورية التسجيلية، عدا فيلم «الخوذ البيض» للمخرج أورلاندو فون اينسيديل والذي سجل أيضاً يوميات الحرب في مدينة حلب (فاز بجائزة الأوسكار الأخيرة لأفضل فيلم تسجيلي قصير). من حلب، يصور فياض يوميات عمل فريق تابع لمنظمة «الخوذ البيض» الإنسانية أثناء حصار النظام وضرباته الجوية القاسية للمدينة، سيُبرز الفيلم «خالد» العامل في المنظمة، على رغم أنه كان من الممكن للفيلم أن يختار أياً من زملائه الآخرين الذين ظهروا في الفيلم كشخصية رئيسية، ذلك أن «خالد» لا يتميز عن رفاقه بشيء، ولم يكن يحمل سمات البطل السينمائي التقليدية من قلق أو تمرد، عدا المصير المفجع الذي كان ينتظره. اختار خالد مع زملائه أن لا يحمل السلاح، وأن يفرغ طاقاته في المقابل في خدمة المدينة التي يحب، والتي رفض مغادرتها، على رغم أن الموت كان يتربص به في كل زاوية منها. من دون خط سردي بارز، يصور المخرج الحياة اليومية لفريق «الخوذ البيض» السوري، وسيقوم بالانتقال من محاولة إنقاذ وإسعاف مدنيين إلى أخرى في الأحياء المحاصرة المنكوبة. سيقطع الفيلم مشهديات الخراب والموت والجثث التي تخرج محروقة أو مقطعة، بمشاهد من أزمان الهدوء القليلة، واحد منها طويل من بيت خالد، ومشاهد تصور مجموعة الأصدقاء بعيداً من أجواء عملهم اليومي. جاءت هذه المشاهد متكلفة وبدائية كثيراً على صعيد كشفها أحوال الشخصيات، أو الغوص في دواخلها، وجسّ آثار عملها اليومي في نفسياتها، فالمشاهد التي تولى فيها «خالد» نفسه، مهمة طرح الأسئلة على زملائه، فشلت بسبب خجل الأصدقاء وحرجهم من الحديث المباشر إلى الكاميرا. وكحال الفيلم التسجيلي القصير «الخوذ البيض»، يطور الفيلم خطاً سردياً ثانوياً، عبر تتبعه مصير طفل تم إنقاذه من تحت أنقاض بناية مدمرة. فبعد المشهد المروع لإنقاذ ذلك الطفل الذي كانت جمجمته مفتوحه، نعود ونقابل الطفل ذاته بعد أشهر عديدة وقد تعافى، وليسقط في مشهد مؤثر للغاية في أحضان الشاب السوري الذي قام بإنقاذه. كما يضيف التصوير الشاحب للفيلم، ثم المعالجة اللونية القاتمة له في المراحل الفنيّة، إلى السوداوية والاختناق الذي غلف تلك الأزمان في المدينة، التي تظهر شوارعها في مشاهد رائعة مهجورة، وحتى عندما يجتمع سكانها للتظاهر ضد النظام الذي لا يتوقف عن إسقاط القنابل عليهم، تبدو تلك التظاهرات وكأنها حشرجات أخيرة لحياة تكاد تنغلق على ناسها. لا ريب في أن الأفلام التسجيلية السورية الأخيرة والتي شهدت أنواعاً من التعاون مع مخرجين أجانب لإنهائها، انتفعت كثيراً من خبرات هؤلاء المخرجين في تحويل ما كان في الاساس مشاهد متفرقة متنوعة الجودة والدقة والتي صورت في ظروف بالغة الصعوبة والخطورة الى بناءات سردية تتفاوت في قوتها وأصالتها. ذلك أن فيلم «آخر رجال حلب»، مثلاً، عانى أكثر من الأفلام السورية الأخيرة من تشتت تركيز المادة الأصلية (ولأسباب مفهومة تماماً)، بيد أن الفيلم يصل مع مادته ذاتها أحياناً إلى ذروات عاطفية تقطع الأنفاس، عندما ينقل مثلاً الجزع والخوف والعلاقات العميقة التي تأسست بين شباب الفيلم، مثل المشاهد الطويلة العميقة الدلالة للمجموعة وهم يعمرون بوجوه تكاد تتفطر من الحزن حديقة ونافورة صغيرة في حلب، إذ كان التناقض بين خراب المدينة من حولهم وما كانوا مشغولين به، يختزل القنوط والأمل اللذين كانا يتناوبان على الشخصيات. يتميز فيلم «آخر رجال حلب» عن جميع الأفلام السورية الأخيرة وحتى العربية، بموسيقاه الرائعة التي ألفها الموسيقار الدنماركي كارستن فيندال خصيصاً للفيلم (فاز عنها بجائزة بمهرجان ساندانس الأميركي). تسبق الموسيقى بدقائق أول مشاهد الفيلم، وتبدو بدراميتها المنضبطة وأساها والعناصر الشرقية التي تتضمنها وكأنها تُقدم لنسخة معاصرة جنائزية من حكايات ألف ليلة وليلة. تتواصل الموسيقى عبر زمن الفيلم، وتصل ما يحدث على الشاشة في حلب من مآسي بالحكاية البشرية الأزلية بظلمها وقساوتها، فيما يتصاعد في خلفية القطعة الموسيقية ضربات طبل، وكأنه ينبئ بالكارثة المقبلة التي كانت تقترب من شخصية الفيلم الرئيسية، وسنشهد على كثير من تفصيلاتها، وكما حصل أيضاً مع بعض شخصيات فيلم «استعراض الحرب».