لم تسفر هجمات 11 سبتمبر عن مجرد إشعال حرب ضد الارهاب. فمن المرجح أن تشير الأجيال من الآن، وكذلك المؤرخون إلى ذلك اليوم بوصفه نقطة تحول في سياسات العالم، فهو اليوم الذي تمت فيه إزالة آخر آثار الحرب الباردة من على الخريطة ورسم خطوط جديدة. ومثلما كان الوضع طوال معظم التسعينات، فإن العلاقات الامريكية الروسية وإن كانت تنافسية هي التي ما زالت تحدد (حقبة ما بعد الحرب الباردة). وبينما تسعى واشنطن لتعزيز موسكو اقتصاديا إلا أنها تدفع في نفس الوقت بحدود حلف شمال الاطلنطي (الناتو) برفق باتجاه الشرق. أما روسيا فإنها تسعى إلى تحديد دور جديد لها في العالم. وخلال الشهور الثمانية الاولى من عام 2001، وبينما كان الرئيسان الامريكي جورج دبليو. بوش والروسي فلاديمير بوتين يسعيان لاكتشاف بعضهما البعض، كان بوتين يلعب (بورقة الصين) باعتبارها عامل التوازن المحتمل في مواجهة النفوذ الامريكي في آسيا. غير أنه خلال ساعات من الهجمات الارهابية على الولايات المتحدة سحب بوتين ورقة الصين وألقى بثقله تماما مع واشنطن. وتم التعجيل بوضع (الاطار الاستراتيجي) الامريكي الروسي ،الذي كان يجري التفاوض بشأنه. وتم بالفعل وضع الخطوط النهائية لهذا الاطار في قمة موسكو في آيار/ مايو/ الماضي، حيث وافق الرئيسان على إجراء تقليص كبير في ترسانة كل منهما النووية. وانسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الحد من الاسلحة المضادة للصواريخ الباليستية، دون أي مبالاة من جانب موسكو التي، وفي تحول آخر، لم تبد أيضا سوى القليل من الاعتراضات إزاء عرض العضوية الذي تقدم به حلف شمال الاطلنطي (الناتو) إلى عدد من الحلفاء السوفيت السابقين في حلف وارسو. والاكثر إثارة، أن بوتين أذعن للوجود العسكري الامريكي الجديد في جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية السابقة والقوقاز كجزء من الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان. وكانت واشنطن تعامل تلك الدول بشكل مختلف قبل 11 سبتمبر، حيث كانت تعترف ضمنا بأنها (دائرة نفوذ) موسكو التقليدية ليس أكثر. وبانحيازه إلى الغرب، اكتسب بوتين مكانة أعلى خلال قمة مجموعة الثمانية، المكونة من الدول السبع الصناعية الكبرى وروسيا، فضلا عن كسبه الصمت الامريكي النسبي إزاء الحرب الروسية في الشيشان، التي أصبح يطلق على الجماعات المتمردة فيها الآن صفة (إرهابيين) لصلتهم بشبكة القاعدة. ومع رفرفة الاعلام الامريكية في القواعد العسكرية في أنحاء آسيا الوسطى وأفغانستان وجنوب آسيا، فإنه من الممكن إيجاد العذر للزعماء الصينيين إذا ما شعروا فجأة بأنهم محاصرون بالقوة العسكرية الامريكية. كما يبدو أن باكستان،الحليف التقليدي للصين، قد اختارت أيضا الانحياز بقوة إلى واشنطن بعد أن أعرب بوش بالفعل عن رغبة الولايات المتحدة في الدفاع عن تايوان. ومن أكثر الأمور شؤما بالنسبة لبكين، أن الاسابيع التي تلت هجمات 11 سبتمبر قد شهدت موافقة البرلمان الياباني (الدييت) على نشر قوات بحرية لدعم الاسطول الامريكي الذي يدير الحرب في أفغانستان. وهذا هو أول انتشار بحري ياباني خارج المياه الاقليمية اليابانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كما أنه مؤشر على أن التحالف الامريكي الياباني من الممكن أن يصبح عاملا إستراتيجيا أكبر في الشرق الاقصى. وكي تطمئن، ساعدت بكين واشنطن بمعلومات استخباراتية عن أفغانستان وآسيا الوسطى. كما كسبت أيضا في المقابل الإذعان الامريكي للقمع الصيني لليوغور (الارهابيين) في إقليم شينجيانج. وفي جنوب شرق آسيا، عادت القوات الامريكية إلى الفليبين لاول مرة منذ سنوات كمستشارين في الحرب التي يخوضها الجيش الفليبيني ضد جماعة أبو سياف الانفصالية. وتحركت إدارة بوش كذلك لتحسين العلاقات العسكرية مع إندونيسيا التي كانت قد تضررت عقب انتفاضة تيمور الشرقية في أواخر التسعينيات. كما تحسن أيضا التعاون الامريكي مع سنغافورة وماليزيا بشأن تطبيق القانون والامور المالية والعسكرية. ومازالت هناك منطقتا توتر تشعران بتوابع زلزال 11 سبتمبر. ففي جنوب آسيا، سمح النفوذ الامريكي الجديد في باكستان للرئيس برفيز مشرف بالخروج من وضع المنبوذ الذي فرض عليه بعد انقلاب 1999. ومع ذلك فإن مشرف يسير على خط رفيع وخطير بين تأييد الحملة الامريكية ضد الارهاب وعدم إغضاب المتشددين الاسلاميين في بلاده الذين يؤيدون طالبان والانفصاليين الكشميريين. وبالنسبة للهند فقد كانت تتمتع بعلاقات تزداد دفئا بسرعة مع الولايات المتحدة، ابتداء من العام الاخير من رئاسة الرئيس بيل كلينتون. غير أن نيودلهي تشعر بقلق شديد الان من احتضان الولايات المتحدة لمشرف، خاصة مع تصاعد التوتر حول كشمير. وكان ذلك التوتر قد دفع بالدولتين النوويتين المتعاديتين إلى حافة الحرب، الامر الذي تطلب عملية دبلوماسية عاجلة بقيادة الولايات المتحدة لتجنب نزاع جديد. ولقد منع التوتر بسبب كشمير أيضا مشرف من تكريس المزيد من الموارد لمساعدة الولايات المتحدة في مطاردة فلول القاعدة وطالبان على طول الحدود الافغانية. ومن شأن ذلك بالتالي أن يغذي عدم الاستقرار داخل أفغانستان في وقت تحاول فيه حكومة الرئيس حامد قرضاي الانتقالية ترسيخ الامن في البلاد. وفي الشرق الاوسط، أدت حرب بوش ضد الارهاب ولغة الخطابة الخاصة بها "معنا أو ضدنا" إلى دفع السياسة الامريكية إلى الالتصاق بدرجة أكبر بإسرائيل في نزاعها مع المتشددين الفلسطينيين. لقد كان بوش ممتنعا عن التدخل في العملية الدبلوماسية بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكنه يحتاج للتأييد العربي للاطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. وقد أدى ذلك ببوش إلى تأييد قيام دولة فلسطينية واستثمار مكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها في إيجاد حل. وبالنسبة للعراق، فقد فشل المسئولون الامريكيون حتى الآن في العثور على (دخان مسدس) أو دليل يربط بغداد بمؤامرة 11 سبتمبر. غير أن بوش تمكن من الربط بين حلمه في الاطاحة بصدام وبين الحرب ضد الارهاب، وذلك من خلال تركيزه على أنه من المحتمل أن يمد العراق الارهابيين بأسلحة كيماوية أو بيولوجية أو نووية. ويبدو أن العلاقة بين القضية الاسرائيلية الفلسطينية والعراق قد تغيرت مؤخرا. فبدلا من البحث عن حل للمسألة الفلسطينية يفسح الطريق أمام القيام بعمل عسكري ضد العراق، فإن المسئولين الامريكيين يؤكدون الآن أن التخلص من صدام حسين سيجعل من السهل التوصل إلى حل في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهكذا فإن أصداء هجمات 11 سبتمبر مازالت تتردد في أنحاء العالم. واشنطن د.ب.أ