ينظر ميشيل عفلق إلى الإسلام على أنه تراث متقدم أسهم في نهضة الأمة العربية في الماضي، وأن دوره في الحاضر والمستقبل لا يقل من حيث الأهمية عن دوره السابق. ويعلل عفلق نجاح المسلمين في بناء نهضتهم قديماً بأن نظرتهم إلى الإسلام كانت نظرة تقدمية، إذ إنهم استقوا من الإسلام روحه الثورية المجددة التي ثارت على الأوضاع السابقة عليها. والإسلام عند عفلق ليس ديناً بل قومية، فهو ركن أساسي في القومية العربية، ذلك أنه بلور ثورة شاملة في تاريخ البشر والعرب. يوضح ذلك بقوله :» لا يوجد عربي غير مسلم، هذا إذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجرداَ من الأهواء والمصالح الذاتية، العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شىء سلبي». عفلق إذاً اعتبر الإسلام تراثاً حضارياً ولا يتعامل معه على أنه أيديولوجية دينية، فهذه الإيديولوجيات «لا تؤدي الغرض القومي ولا توصل إلى نتيجة إيجابية». إنه يعتمد التراث الذي يعني الإسلام كمرجعية حضارية وليس كأيديولوجية دينية، إنه تراث على المشاع لا يخص المسلمين وحدهم بل يخص العرب جميعاً، فهذه هي مكانة التراث عنده. على جانب آخر نجد عفلق يقف ضد تمجيد التراث وتعظيمه، بدافع الرهبة منه والشعور إزاءه بالضعف والعجز، «فالإعجاب بالتراث وتقديسه لا يأتي من مجرد الوقفة المنبهرة أمام عظمته وإنما من استيعاب روحيته والعمل بوحي منها». فهذه الوقفة المنبهرة أمام التراث لن تفيد الأمة وستولد عجزاً عن التعامل معه، فما يجب أخذه منه هو المستوى الروحي الذي سار في الماضي، فهذا الماضي كان عاملاً مهماً في قوة العرب وتحقيق نهضتهم، ذلك أنه كان تقدمياً عما سبقه من عقلية وأوضاع. إنها إذاً التقدمية. هي سر الفعالية وسر التطور، إلا أن إعجابنا بهذه التقدمية لا ينطلي على النموذج وإنما على الروح، فمحاولة العودة إلى الإسلام على أنه نموذج يراد تحقيقه هي نظرة رجعية تجب محاربتها :»إن عودة اتصالنا بماضينا لا يجوز أن تعني بلوغنا ذلك المستوى الروحي الذي هو وحده كفيل بأن يبني لنا الحياة القوية المبدعة الراقية والمجتمع السليم الأوضاع القويم الأخلاق». إنه ينكر إذاً إمكان التفكير في التمثل بالماضي واتخاذه نموذجاً، بل يدعو إلى استخلاص روح الماضي وتسخيرها مع جهد، وإمكانات الحاضر لصناعة المستقبل :»إن الأمانة للماضي هي في الاختلاف عنه، وبمقدار ما نختلف عن الماضي نكون أوفياء له، فالذي يريد أن يكون مثل عمر بن الخطاب في هذا العصر يجب ألا يكون نسخة طبق الأصل منه، وإنما يجب أن يتوخى أن يكون ذا تأثير يوازي تأثير عمر في زمانه، وهنا يتضح الفارق بين التقليد والإبداع «. إنها الفكرة نفسها التي يطرحها محمد عابد الجابري في شأن العلاقة مع التراث، إنه يدعو إلى التجديد، وهذا التجديد يتم عبر إعمال العقل وتحري (روح الإسلام) فالتجديد الحقيقي المطلوب هو «إيجاد الحلول العملية لما يطرحه علينا عصرنا من قضايا يعرفها ماضينا». إن برنامج العلاقة مع التراث يجب أن يمر بثلاث مراحل: الأولى، الاطلاع على التراث لاكتشافه وفهمه. الثانية، الافتراق عنه بحيث نسير في طريقنا الخاص، طريقنا المتميز الذي هو قدرنا. الثالثة، الالتقاء من جديد بالتراث بعد أن نكون قد أدينا قسطنا من النضال وأصبحنا مناضلين مجاهدين، وبالتالي قادرين على فهمه فهماً حقيقياً. عفلق إذاً يبني تصوره للعلاقة بين القومية العربية والإسلام على أن القومية العربية عنده لا تتعادى مع الدين، ولا تتجاهل الإسلام فتتخذه إطاراً مرجعياً لها. يقول محمد عابد الجابري في تحليله لخطابات عفلق عن العلاقة بين الإسلام والعروبة: «القومية العربية بالنسبة إلى عفلق ليست انتماء في الحاضر وللحاضر، بل هي ارتباط صميمي بالماضي القومي كذلك، والماضي القومي للعرب صنعه الإسلام فإذا تخلى العرب عن ماضيهم الإسلامي فبماذا سيرتبط وعيهم القومي، هل بالثقافة الغربية والتراث الأوروبي؟ إنه التغريب بذاته الذي يعتبره عفلق أخطر ما يهدد العرب والقومية العربية». ويتعرض الجابري للعلمانية في مفهوم عفلق فهو يصفها بأنها علمانية دستورية تساوي في الوظائف بين جميع المواطنين من دون أن تمس الدين بشيء، بل إنها تحرره من الاستغلال السياسي، «فالأمة العربية قامت أول ما قامت بالإسلام ولا يمكن إعادة بعثها، في نظر فيلسوف البعث من دون ربط القومية بالدين والدين بالقومية باعتبار أن الدين روح الأمة العربية وعنصر وحدتها». أخيراً يصف الجابري عفلق بأن أفكاره القومية تصلح لأن تكون جسراً بين القوميين والإسلاميين المعاصرين الذين لم يبدأوا بعد في الإنصات والاستماع إلى بعضهم بعضاً: «إن وجهة نظر عفلق قابلة لأن تشكل نوعاً من الجسر بينهم: جسر الحوار والتفكير المشترك في القضية المشتركة والمصير المشترك». * كاتب وأكاديمي مصري