ترك محمد عابد الجابري إرثاً كبيراً مميزاً للمكتبة العربية من المحيط الى الخليج وفي سائر البلدان حيث وجدت جاليات عربية، مركزاً في شكل أساسي على نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة: «تكوين العقل العربي»، و «بنية العقل العربي»، و «العقل السياسي العربي»، و «العقل الأخلاقي العربي». في مقالتي هذه لن أدخل في أي تحليل أو دراسة أو نقد حول الإرث الفكري للجابري، فقد أشبع الكتاب والصحافيون العرب الموضوع على مساحة العشرات من الجرائد والمجلات العربية، وقد أعود لاحقاً للتركيز على بعض النقاط الأساسية التي تناولها الفقيد الجابري، والتي تسهم في شكل إيجابي في بناء وتكوين ما نطمح إليه لدى الأجيال العربية القادمة، كي تضع نصب أعينها الفكر الحر المستند الى العقل وليس الى ما اخبرنا به السلف الصالح. سأكتفي هنا بالإشارة إلى الدراسة القيمة التي قدمها الجابري في «الندوة القومية حول فكر الأستاذ ميشال عفلق - بغداد 23 – 26 حزيران/ يونيو 1990) تحت عنوان «العروبة والإسلام في فكر الأستاذ ميشال عفلق»، لما لها من قيمة أرى من حق جميع القراء العرب ان يطلعوا عليها من خلال نشرها. وتجدر الإشارة إلى ان المرحوم الصديق الياس الفرزلي، كان يردد دائماً على مسمع زوجتي الدكتورة رزان عفلق كريمة الأستاذ ميشال، وعلى مسمعي، في الجلسات الكثيرة الشيقة التي كانت تجمعنا في باريس، عندما كنا نتطرق الى موضوع العروبة والإسلام في فكر الأستاذ عفلق، ان من بين خيرة ما كتب في هذا الموضوع دراسة الجابري في تلك الندوة القومية. استند الجابري في دراسته كثيراً على نص محاضرة عفلق الشهيرة «ذكرى الرسول العربي» التي ألقاها في ذكرى مولد الرسول العربي على مدرج الجامعة السورية بدمشق بتاريخ 5 نيسان (أبريل) 1943، والتي قال عنها عبدالسلام المجالي رئيس وزراء الأردن الاسبق في «قصتي مع البعث» في مذكراته (من «بيت الشعر» الى سلام وادي عربة): «كنت لم أزل بعد في السنة الأولى في الجامعة، حين أقامت الجامعة احتفالاً لمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، وكان ميشال عفلق احد الخطباء واعترتني الدهشة. ترى ماذا سيقول مسيحي في عيد المولد النبوي وجلست أنتظر حتى يأتي دوره. ولما بدأ حديثه أدهشني، وبعد مرور كل هذه السنين لم اسمع اجمل من كلام عفلق عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. تحدث عفلق عن مناقب الرسول ودوره، وعظمته في إحياء الأمة العربية، ودور تلك الأمة. وما ان انتهى الاحتفال حتى وجدت نفسي أصافح عفلق مهنئاً إياه على خطابه المؤثر. وقدمت نفسي له، فاستقبلني بحرارة، وأعربت له عن إعجابي بما سمعته، وبخاصة ان يكون صاحب الخطاب مسيحياً. ساعتها دعاني الى لقاء. .. انضممت الى لقاءات عفلق بصورة دورية، وكنا نستمع الى احاديثه وخطبه. كانت هناك أحزاب نشطة أخرى في الجامعة، مثل الحزب الشيوعي، والحزب السوري القومي. ولكن حزب البعث هو الحزب الذي ملأ سحره نفسي من حيث الفلسفة والفكر». وكذلك استند الجابري الى كتابات عفلق: «البعث العربي هو الانقلاب» (1950)، «حول الرسالة العربية / الخالدة» (1946)، «نظرتنا الى الدين» (1956)، «قضية الدين في البعث العربي» (1956)، «الجيل العربي الجديد» (1944)، «العرب بين ماضيهم ومستقبلهم» (1950)، «قوميتنا المتحررة أمام التفرقة الدينية والعنصرية حديث في اجتماع لطلبة المغرب العربي» (1955)، «أصالة الأمة قوة نضالية متجددة» (1976)، «التراث عزّز صمود الأمة وأعطى للثورة العربية مستواها العالمي» (في 7 نيسان / أبريل 1976)، «من أجل عمل عربي مستقبلي» (في 7 نيسان 1986). وإذ أترك للقارئ دراسة الجابري، أتمنى ان تساهم هذه الدراسة، في توضيح وإضاءة جوانب هامة من فكر مؤسس البعث العربي، مع التأكيد على ان حركة البعث العربي هي حركة مؤمنة وذلك عكس ما أرادت ان تهاجمها به بعض الفئات او الحركات المتطرفة التي حاربتها ولا زالت تحاربها من هذه الزاوية. --------------------- نص محاضرة محمد عابد الجابري لعل اصدق وصف ينطبق اكثر من غيره على فكر الأستاذ الراحل ميشال عفلق هو أنه فكر شمولي، فما من قضية إلا ونجده ينظر إليها في ارتباطها مع غيرها من القضايا التي تتداخل معها نوعاً من التداخل، وهذه الشمولية في فكره ترجع في نظرنا إلى ثلاثة عوامل: او لنقل أنها كانت ذات ثلاثة أبعاد: فالرجل كان، اولاً، مؤسس حزب وقائده، فكان عليه ان يتابع الواقع في تموجه وتنوعه، في جزئياته وكلياته، حتى تأتي مواقفه السياسية والأيديولوجية، متكاملة منسجمة مع بعضها خالية من التناقض، كما كان عليه ان يرد على الأحزاب الأخرى المنافسة، مهما اختلفت مشاربها وتباينت مواقفها، من منطلق واحد مبدئي، ومن رؤية واحدة شمولية. ولم يكن الواقع الذي كان يتعامل معه الرجل واقع قطر بمفرده، بل الواقع العربي بكل عناصر التنوع التي يزخر بها، واقع أقطار من بينها ما يضم اقليات دينية او إثنية، ومن بينها ما يهيمن فيها عنصر واحد او دين واحد ومذهب واحد، هذا علاوة على اختلاف سكان هذه الأقطار على مستوى الوعي والتطور والحداثة. لقد كان الرجل مؤسس حزب يعمل على ان يكون له وجود فعلي وفعال في الأقطار العربية كافة فكان لا بد إذاً من نظرة شمولية تستوعب تلوينات الواقع العربي وتموجاته، من الخليج الى المحيط، وتستدعي من الأجوبة للأسئلة المطروحة فيها ما لا يتناقض مع الخط العام والتصور المبدئي الذي يتمسك به. اذاً فالنظرة الشمولية هنا تفرضها طبيعة الموضوع ذاته. وكان الرجل، ثانياً، رجل فكر في الاساس، ذا نظرة فلسفية الى الامور، وبالتالي فمواقفه كانت مبدئية واستراتيجية ولم تكن مجرد مواقف تكتيكية. فعلاً، كان تخصصه ايام الدراسة هو التاريخ، ولكن نظرته الى التاريخ، والتاريخ العربي بخاصة، كما عبر عنها او كما يمكن ان يستخلص من كتاباته، لم تكن نظرة المسجل للحوادث في تسلسلها، الغارق في فرادتها وزمنيتها، بل كانت نظرته نظرة فيلسوف، فكان اقرب الى فيلسوف التاريخ منه الى المؤرخ بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. ومن هنا الجانب العمودي، او العمق التاريخي، في فكره الشمولي، العمق الذي يتكامل مع الامتداد الأفقي الذي ابرزناه من قبل. لقد نظر الى الواقع العربي من خلال مكوناته الراهنة، منفعلاً معها ومجيباً على أسئلتها، وفي الوقت نفسه كان يرى هذا الواقع الراهن من خلال ما تحقق في ماضيه من بطولات وأمجاد وما يجب ان يتحقق في مستقبله من نهوض وتقدم، فالمكان والزمان في نظرته الشمولية لا ينفصلان بل هما بعدان لرؤية واحدة تحرص على إمساك الأجزاء داخل الكل الذي يضمها. وكان الرجل، ثالثاً، صاحب مذهب، بل صاحب رسالة. كان يؤمن بالوحدة العربية ويعمل لنشر الفكرة القومية، الفكرة التي ترى في العرب، من المحيط الى الخليج قوماً واحداً، أمة واحدة تكونت انطلاقاً من البعث المحمدي، من رسالة الإسلام التي كان يرى فيها رسالة العرب الى العالم اجمع، الرسالة التي أدوها في الماضي والتي عليهم الآن أن ينهضوا ليؤدوها من جديد. ف «البعث» وهو الاسم الذي اختاره للحزب الذي أسسه، لا يعني مجرد انبعاث في الحاضر ومنه، مجرد النهوض، بل يعني أكثر من ذلك، بعث النموذج المحمدي الحامل رسالةَ العرب، وذلك باستلهام بطولات الرسول العربي وتضحياته والاقتداء بروحه النضالية وسلوكه المثالي. ف «البعث» في نظره لم يكن مجرد بعث لحاضر من فراغ ولا مجرد إعادة لبعض ما مضى، على صعيد الذاكرة، بل انه إحياء ما مضى في الحاضر على صعيد الاستلهام والمعاناة من اجل صنع المستقبل الذي يتلاءم مع ذلك الماضي ويكون جديراً بأن يصبح امتداداً له. ذلك هو الخيط الموجه لتفكير الأستاذ ميشال في معالجته قضيةَ النهضة والتقدم، الخيط الذي يقود تفكيره في جميع القضايا التي عالجها وفي مقدمها قضية «العروبة والإسلام» موضوع حديثنا. سيكون علينا اذاً ان نعمل على عرض رأيه في هذه القضية التي تشكل بحق احدى القضايا المركزية في تفكيره ان لم تكن القضية المركزية الاولى، سيكون علينا ان نعمل على عرض مجمل رأيه في هذه القضية داخل الشمولية التي يتميز بها تفكيره والتي تحددها الابعاد الثلاثة التي ذكرنا: بعد الواقع، وبعد الماضي، وبعد الرسالة التي تربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل. وقضيتنا هنا، قضية العلاقة بين العروبة والإسلام كما عالجها الأستاذ الراحل تتطلب منا الارتفاع الى شمولية فكره، اعني النظر إليها من خلال جميع القضايا الفرعية المتصلة بها والتي حرص الأستاذ الراحل على استحضارها وتقديم الجواب المناسب لها في إطار نظريته العامة. ذلك ان مسألة «العروبة والإسلام» في فكر الأستاذ ميشال لم تكن مجرد ثنائية تتألف من زوجين قد يبدو لبعض الناس أنهما متنافران او متعارضان، بل انها، بالعكس من ذلك تماماً، مسألة العلاقة الصميمة الموحِّدة بين هذين الزوجين، العلاقة الموحِّدة التي تجد فيه الازواج الاخرى، المفصحة عن بعض مظاهرها، ما يزيل عنها كل تعارض او تنافر. وبعبارة اخرى ان فهم تصور الأستاذ ميشال العلاقة بين العروبة والإسلام يستلزم استحضار مواقفه من القضايا التي لها علاقة بالعروبة من جهة وبالإسلام من جهة ثانية، لأن هذه المواقف في جملتها هي التي تؤسس موقفه العام من العلاقة المذكورة. وهكذا سيكون علينا ان نعرج على موقفه من الدين والإلحاد، من الرجعية الدينية ومن الشيوعية، بصورة عامة، ثم موقفه من الإسلام والتراث العربي الإسلامي خاصة، مع التركيز على فهمه البعث المحمدي ورسالته، الإسلام، بصورة اخص. ثم سيكون علينا بعد ذلك ان نعرض لفهمه لفكرة القومية ولتصور للعلاقة بين القومية والدين من جهة، والعلاقة بين القومية والعروبة من جهة اخرى، عارضين في نفس الوقت لموقفه من مسألة الأقليات، سواء بالنسبة للقومية العربية او بالنسبة لدين الغالبية الذي هو الإسلام، واخيراً، وليس آخراً، سيكون علينا ان نعرج على رأيه في العلاقة بين الدين والدولة مركزين على تصوره المتميز والأصيل لفكرة العلمانية ومدلولها الخاص في الدولة القومية العربية. ان الإلمام بمواقفه المتميزة من هذه القضايا امر ضروري لأن العلاقة بين العروبة والإسلام تقع بالضبط في قلب هذه القضايا جميعاً. قلنا اننا سنعرض، ولم نقل «سنحلل»، لأن مواقف الأستاذ من هذه القضايا مواقف صريحة وواضحة لا تحتاج الى تأويل ولا الى تعليق. واذا كان الأستاذ لم يؤلف كتاباً ممنهجاً في الموضوع وانما شرح آراءه وتصوراته في مقالات وخطب وأحاديث وبيانات تمتد على مدى أزيد من خمسين سنة، فإن الباحث لا يجد في جميع هذه السنوات الخمسين، وفي كل ما كتب خلالها، ما يشوش على الموقف المبدئي ولا ما يمكن أن يعد تناقضاً او تراجعاً. إن مهمتنا هنا ستقتصر اذاً على بناء تصوره الشمولي للعلاقة بين العروبة والإسلام من خلال نصوصه نفسها. ان حسن عرض وشرح وتحليل للفكر الواضح الصريح هو تركه يعبر بنفسه ليخاطب القارئ بلغته. لنبدأ اذاً بعرض موقفه من القضايا التي تشكل مضمون موقفه العام من القضية المركزية التي تهمنا هنا، ولننطلق من موقفه من الدين عموماً ومن الإسلام خصوصاً. * * * كان موقف الأستاذ ميشال من الدين واضحاً ومتكاملاً، فهو ينطلق من مبدأ اساسي عبر عنه بقوله: «ان الروح هي الاصل في كل شيء، وان الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب وإنما يخلقها ايضاً» كما يؤكد أن «الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ اقدم العصور الى اليوم هو شيء اساسي في حياة البشر». وانطلاقاً من هذا المبدأ يعلن بوضوح ان حزب البعث «يطرح جانباً ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض الشبان السطحيين» مؤكداً ان «موضوع الدين هو موضوع جدي ولا يمكن ان نحله بكلمة او بحكم سطحي عابر، ولكن يجب ان يفرق بين الدين في حقيقته ومرماه وبين الدين كما يتجسد او يظهر في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح، في ظرف ومكان معينين». ولكن، كيف نحدد «الدين في حقيقته ومرماه»، كيف نميز بينه وبين المفاهيم والعادات التي تجسد مظهره السطحي؟ يجيب الأستاذ ميشال قائلاً، «لا دين مع الفساد والظلم والاستثمار (= الاستغلال)، وان الدين الحقيقي هو دوماً مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد». ان الدين في تصوره إنما وجد «ليشجع المحبة والإخاء، ليحمي الضعيف، ولكن اصبح بممثليه سياجاً لكل هذه المساوئ مساوئ الظلم والفساد والإلحاد. ويحذر الأستاذ من «الفهم السطحي» للدين الذي يقوم على «ان نستنتج بسرعة، انه ما دام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد وليس في صف الثورة على الفساد، فإذاً: الدين من اساسه فاسد لا وجوب له ولا خير فيه، لذلك يجب التخلص من الدين لأنه سلاح بيد الظالمين والمفسدين»، يرفض الأستاذ هذا النوع من الفهم للدين قائلاً: «هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جداً، وهذه هي النظرة التي توقفت عندها الشيوعية» التي ترى: انه «ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة خاصة خلال التاريخ الحديث، حيث تفاقمت الفروق الطبقية والاستغلال الطبقي، ما دام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه... لذلك رأت الماركسية ان تنسفه نسفاً». يرفض الأستاذ هذا الموقف رفضاً قاطعاً ثم يقول «نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية، إذ ينبني على ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة»، لذلك «فعلى رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعماً للظلم والتأخر والعبودية نثق على رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع ان يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين وعلى هذا النوع من التدين الكاذب والمشوه وان يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه». من هنا كان رفض موقف الشيوعية من الدين يستلزم ايضاً رفض موقف الرجعية الدينية، ذلك ان «الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الاجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، وانها اكبر خطر على الدين»، ولذلك «فبمقاومتنا الرجعية الدينية من دون اعتدال ومن دون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة منها ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد» ويقول: نحن «لم نتوقف عند هذه النظرة السطحية السلبية... لكننا تجاوزناها وقلنا: ليس قدراً على الدين ان يبقى متحجراً دوماً. الدين قادر على ان يعود الى حقيقته اذا وجد افراداً مؤمنين يعيدون الى الدين صفاءه الأول. الدين شيء أساسي وسيرجع الى جوهره متغلباً على النقمة». هذا من جهة، من جهة أخرى: «نحن لا نرضى عن الإلحاد ولا نشجع الإلحاد، ونعتبره موقفاً زائفاً في الحياة، اذ الحياة معناها الإيمان، ولكننا ننظر الى الإلحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف أسبابها لتداوى» واسبابها هي الظلم والفساد الاجتماعي، ولذلك يستشهد الأستاذ ميشال عفلق بقول الرسول العربي «كاد الفقر أن يكون كفراً» ويرى ان معناه هو «ان الأوضاع الفاسدة تخرج الإنسان من دينه». وهكذا، فعلى اساس هذا الفهم لمسألة الدين يؤكد فيلسوف البعث العربي «ان الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه يمكن ان يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم او يتأخر، لكنه لا يمكن ان يزول»، ولذلك نجده يؤكد أن «الدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه». لأنه، أعني الدين، يؤسس الماضي ويخص الحاضر والمستقبل معاً، كما سنرى. * * * هذا الموقف العام والإيجابي من الدين، الذي يرفض في آن واحد الإلحاد واستغلال الرجعية للدين، وينظر بالمقابل الى الدين بوصفه يقع في صميم القضية العربية، هذا الموقف المتعدد الأبعاد والمتكامل يكتسي معنى مشخصاً عندما يتحدث الأستاذ ميشال عن الإسلام ليس فقط كعقيدة، بل ايضاً كرسالة، كانقلاب وثورة. وهنا نلتقي مع نوع من فلسفة التاريخ العربي عند الأستاذ ميشال تميّز في هذا التاريخ بين حال الجاهلية وحال البعثة وصدر الإسلام ثم ما تلى ذلك من تراجع وانحطاط، لتربط ذلك كله بالإيمان الراسخ بإمكان، بل بوجوب البعث من جديد. يقول: «لقد أفصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية». لقد كانت الجاهلية تتميز ب «طغيان المجموع (= القبيلة) على الفرد، فالقيم تستمد من هذا المجموع والفرد متقيد بها. والجاهلية تمثل ايضاً تجاهلاً للقدر ( = رسالة المستقبل) كأنه لم يكن بينها وبينه اية صلة او اي تعارف واضح على الاقل. والجاهلي في شعره وتفكيره وسلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان، لا يتصل بالماضي ولا يتعرف إلى المستقبل او يتوقع منه شيئاً. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر، انها مسرح نشاطه وبطولته ولا يمكن ان نتصور بطلاً جاهلياً من دون جمع يشاهد بطولته ويصفق له... ثم يظهر الإسلام فيحدث انقلاباً في حياة العرب وفي انفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع كما ان الفرد ليس هو الذي يفرضها، انها تصدر من مكان هو فوق المجموع والفرد معاً، وفي هذا ضمان لحرية الفرد وانسجامه مع المجموع في آن واحد. اما صدر الإسلام فإنه من ناحية أخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد أن كانت متجاهلة له فتصبح إرادة القدر هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان، ويصبح العالم كله، لا بل الكون كله وكل ما هو منظور وغير منظور مسرحاً لنشاطه ولتطبيق هده القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة العربية». وهكذا «فالحاضر الذي كان النقطة الوحيدة التي يتمسك بها الجاهلي وينقذ بها نفسه من النسيان والعدم أصبحت في نظر العربي الجديد المسلم هي القيمة المظلمة وحدها، وكل ما عداها مضيء لأنها هي مكان التجربة والامتحان والهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد والتقوى». غير أن «هذه الفترة التي انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الإسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جداً لم يلبث العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ أن فقدوا، بعد سنوات معدودة، شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة المتماوجة من الشعوب عادوا الى عصبيتهم الجاهلية والى صراع القبائل وتنافسها... ولقد تلت هذا عصور الضعف وتبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي». ويستخلص الأستاذ ميشال من هذا العرض الفلسفي لتاريخ العرب النتيجة الآتية يقول: «وفي حياتنا القومية حادث خطير هو حادث ظهور الإسلام، حادث قومي وإنساني وعالمي فيه عظة بالغة، فيه تجربة هائلة»، لا بل نموذج يجب ان يستلهم ويحتذى: «ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد... ومصالح». لقد كان حركة «نادى بها فرد واحد في البدء وآمن بدعوته أفراد قلائل، واحداً بعد الآخر، وأفراد أكثرهم ضعفاء بالنسبة الى مجتمعهم وانهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى والضعف». وينتقل الأستاذ بهذا النموذج من الماضي الى الحاضر فيتساءل: «فلو تخيلنا ان المسلمين الأولين الذين عرفوا النضال من اجل المبدأ وذاقوا كل مرارته واجتازوا امتحانه ودفعوا ضريبته، هذه الفئة او بعض أفرادها لو جاؤوا اليوم وهبطوا على حياتنا العربية الحاضرة، اي وسط يستطيبونه ويهدأون اليه ويشعرون اليه بالقرابة؟ هل هو وسط الظلم الاجتماعي، وسط الأغنياء والوجهاء والمستثمرين للشعب؟». ويجيب «أنا اعتقد أن المسلمين الأولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش الا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين والمستعبدين، إلا في السجون مع المناضلين، فأصحاب دعوة الحق هم دائماً الى جانب الحق». واذاً، فظهور الإسلام وتجربة المسلمين الأوائل لم يكونا، في نظر فيلسوف البعث العربي، مجرد حادث تاريخي مضى، بل انه يرى فيهما مرجعية للثوري العربي المعاصر، لا بل مرجعية للثوري العربي في أي زمان ومكان. ذلك ما عبر عنه بجلاء في محاضرته الشهيرة في مناسبة «ذكرى الرسول» حيث قال: «ان حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة للعرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان وبالأسباب والنتائج، بل انها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، أي انها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل، فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها، لا في شكلها وحروفها فالإسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الأمة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الاصطلاح، مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة فتنشئ تعبر عن إعجابها وحماستها بألفاظ جديدة واعمال مجيدة... فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقية العصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقمون على أنفسهم في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا... وكل ما أثمر الإسلام فيها فيما بعد من فتوح وحضارات، انما كان في حالة البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة. فقبل ان يفتح العرب الأرض فتحوا أنفسهم. هذه التجربة ليست حادثاً تاريخياً يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الأمة العربية - اذا فهم الإسلام على حقيقته - لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح والمظهر على الجوهر». ويواصل الأستاذ ميشال تحليله قائلاً: «حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج، كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر إليها من الداخل لنحياها... كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر ... في وقت مضى تلخصت في رجل واحد أمته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم... كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمداً». * غداً حلقة ثانية أخيرة