ميس جرجورة، الابنة البكر لعائلة مكونة من خمسة أفراد، خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية وطالبة في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية. علاقتها بأسرتها وتحديداً بوالدتها الصحافية رواد ابراهيم كانت دافعاً حقيقياً استطاعت من خلاله تحقيق نتائج ايجابية في حياتها الدراسية والخاصة، وذلك على رغم ان الكثير من الأسر تفضل ان يكون الطفل الأول صبياً. هذه الفكرة كانت محور سؤالنا الأول للسيدة ابراهيم. - لم أفكر بهذه الطريقة ابداً بل على العكس تماماً شعرت بالسعادة عندما جاءت ميس ابنتي البكر. ومع قدومها تغيرت امور كثيرة في حياتي، فقد كان هاجسي تربيتها بطريقة صحيحة. معظم الأهل يلجأون للكتب التربوية لمساعدتهم وبخاصة مع الطفل الأول. لم أكن استثناء إلا اني سرعان ما تعلمت ان التعامل مع الطفل لا يخضع للنظريات فلكل طفل خصوصيته واختلافه. بدأت أتعامل مع ميس وفق احساسي وقناعاتي، والأمر الذي كنت آخذه دائماً في الاعتبار هو تنمية روح الاستقلال عندها. كان توجيدي موجوداً بالطبع إلا أنه توجيه لا يطاول مصادرة آراء ميس وخياراتها ابتداء من اختيارها لثيابها الى الخيارات الحياتية الأخرى التي ستكون اكثر صعوبة وتعقيداً. بالطبع كانت دراستي الجامعية عوناً كبيراً قبل عملي صحافية، إذ ان دراستي لعلم الاجتماع افسحت في المجال امامي للاطلاع على الكثير من الحقائق وبخاصة في ما يتعلق بتربية الطفل. في المجتمع العربي تعاني معظم الأسر عموماً بعض القضايا الاجتماعية التقليدية كتفضيل الذكر على الأنثى، والمعاملة الخاصة التي يحظى بها الابن الصبي على حساب الفتيات، فهل تعرضت ميس لهذه الضغوط؟ - لا شك في ان معظم الأسر في مجتمعنا تقع في هذا المطب والأمر يتطلب وعياً ليتم تجاوز هذا الموضوع. لم أفكر أبداً بهذه الطريقة، بل كانت فرحتي كبيرة لأن مولودي البكر ابنة كما قلت لك. ولذلك لم تتعرض ميس ولا أختها لأي من هذه الظواهر الاجتماعية فالأخ الأصغر لم يتمتع بميزات اكثر لأنه الصبي، بل حاولت دائماً أن أعامل الجميع من دون تمييز، وهذا الأمر البديهي ليس بديهياً في مجتمعنا لذلك تظهر الصعوبات مع هذه الطريقة من التربية، لأنها ليست الطريقة السائدة، الأمر الذي يجعلني أتحمل مزيداً من الصعوبات والمشاق. وفي النهاية، ما أبتغيه هو تربية نفسية صحيحة لأولادي تسمح لهم بعيش حياة متوازنة وناجحة، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة. غالباً ما يُطالب المولود البكر بقضايا لا يخضع لها بقية الأولاد، فالمطلوب منه مثلاً ان يكون القدوة والمثل والهدف لطموحات الأهل وأمانيهم غير المحققة. وربما يصبح، وهو القدوة لبقية الاخوة والأخوات، الشخص الذي يُعاقب عندما يبكي الأخ الأصغر، والحجة غالباً انه ينبغي عليه ان يحتمل اكثر لأنه الأكبر، ما رأيك؟ - من جديد أقول إن الطريقة التي تعاملت بها مع أطفالي ليست الطريقة السائدة، والأسر التي تتبع هذا الأسلوب في التربية قد لا تتجاوز عشرة في المئة، لذلك أحب ان أؤكد ان الواقع في سورية يقدم نتائج وأساليب مختلفة، فمعظم الأسر لا تتبع هذه الطريقة المثالية إن صح التعبير. لم تتعرض ميس للضغوط التي يتحملها المولود البكر عادة، لأني ووالدها لم نحمّلها مسؤوليات تثقلها سواء من حيث الاهتمام بإخوتها أو من خلال مطالبتها بتحقيق امانينا وطموحاتنا. لا أؤمن بأن الأولاد يجب ان يكونوا نسخة عن الآباء والأمهات، ولا أن يسلكوا المسلك نفسه لأن الاختلاف بين الأجيال هو الذي يدفع بعجلة التطور قدماً. كانت علاقة ميس ببقية اخوتها عموماً علاقة تعاون وتبادل للمسؤوليات، إلا ان النقطة التي احب أن أؤكدها هي ان المولود البكر قدوة لبقية الاخوة سواء رضي الأهل بهذا الأمر أو رفضوه. ألاحظ هذا الموضوع عند اخوة ميس ولا أحاول أن أمنعه لأنه يبدو طبيعياً بالنسبة إليّ. اما الأمر الذي احاول تأكيده معهم هو أن لكل فرد خصوصيته ومسؤولياته. الأمر الوحيد الذي لم أستطع السيطرة عليه هو تقسيم المهام في المنزل. من الصعب إقناع الابن بالمشاركة الحقيقية في اعمال المنزل، والسبب يعود الى أن الأسرة ليست المناخ الوحيد الذي ينضج فيه الأفراد، فهناك الكثير من العوامل والمؤثرات الاجتماعية المختلفة ابتداء من المدرسة الى العمل وغيره. والحقيقة التي لا يمكن اغفالها هو اننا نعيش في مجتمع لا يزال يعاني الكثير من الأمراض الاجتماعية المتوارثة وبرأيي ان تجاوز السلبيات وحلها يكمن في تضافر الجهود، اما الحلول الفردية التي تقوم بها بعض الأسر فتبقى محاولات خاصة وليست نمطاً سائداً. ميس وماذا عنك، ميس، وكيف كان رأي أهلك في انضمامك الى المعهد العالي للفنون المسرحية لاسيما أن دخول الجامعات والمعاهد ومن ضمنها المعهد المسرحي قد يثير لدى الكثير من الأسر السورية تحفظات عدة، فهل تعرضت لأي منها؟ - لم تقف والدتي ضد اي رغبة او خيار لي، ومنذ الصغر تعلمت ان استشيرها في الكثير من القضايا، وهي لم تقم يوماً بمنعي بشكل قسري. كنا نتناقش مطولاً، ولم أشعر يوماً بأنني مضطرة لإخفاء اية قضية. وبالنسبة الى دراستي فكانت والدتي تفضل دخولي الفرع العلمي في المرحلة الثانوية، إلا أني كنت افضل الجانب الأدبي وبالفعل توجهت الى القسم الأدبي... وعندما أردت دخول المعهد وجدت كل الدفع والتشجيع من والدتي ووالدي. وأذكر ان والدتي قالت لي في حينه: "هذا المعهد يحتاج الى الكثير من العمل، وهذا الفرع هو خيارك وأنا أثق بخيارك". هذه الكلمات جعلتني اشعر بالمزيد من المسؤولية، وبالفعل كان المعهد بالنسبة إلي مكاناً قدم لي الكثير من المفاتيح المعرفية والأرضية الأكاديمية إضافة الى الخبرة الاجتماعية التي هي استمرار للحياة المدرسية. أما التحفظات التي يضعها الأهل في وجه الفتاة سواء لجهة دخول الجامعات أو المعاهد، فتستحق الوقوف عندها مطولاً. إذا كانت بعض الأسر تعتقد ان الوسيلة المثلى للحفاظ على الفتاة هي بتأطيرها ومنعها من التحصيل العلمي العالي وغيره، اقول بدوري ان الوسيلة المثلى لمجتمع اكثر فاعلية وتطوراً هي الثقة والمسؤوليات المتبادلة بين الجميع انطلاقاً من الأسرة. ولعل المدارس المختلطة منذ المرحلة الابتدائية انتهاء بالمرحلة الثانوية هي احد الجوانب المهمة التي تتيح لأي شاب أو فتاة تربية صحية من دون ان يكون الجنس الآخر لأي من الطرفين "محظوراً"، أو هالة من الغموض. غالباً ما تميل الابنة البكر الى الأب في حين تتسم العلاقة مع الأم بجوانب اكثر حدة، كيف تقوّمين العلاقة مع والدتك؟ وهل تعتقدين بواقعية العبارة القائلة بأن الأم قد تكون افضل صديقة لابنتها؟ - أعتقد ان هذه المقولة تنطبق على مرحلة عمرية محددة، إذ إنني كنت دائماً أشعر بأن والدي هو الصديق الأول، وحتى الآن هو الشخص الذي أجد عنده كل تفهم واستيعاب. بالفعل لم تتغير علاقتي مع والدي، إلا أن والدتي اصبحت اكثر قرباً وكلما كبرت سنة شعرت بأنها تحتل مرتبة افضل صديقة بامتياز. لعل هذا الأمر يعود لكوننا ننتمي الى الجنس نفسه. أعترف أن والدتي وقفت الى جانبي في مواقف مختلفة، والأمر الذي كان يدفعني لألجأ إليها دائماً هو انها كانت الصديقة قبل ان تكون الأم. أعتبر نفسي محظوظة لأن والدتي هي افضل صديقة بالنسبة إليّ.