في ما يأتي ملخص لبعض ما ورد في أقوال المصري عصام الريدي أمام محكمة مانهاتن في نيويورك حيث أدلى بشهادته في قضية تفجير السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام، وهي تتناول تجنّده في الولاياتالمتحدة للقتال الى جانب "المجاهدين الأفغان"، وتُركّز على قصة طائرة أسامة بن لادن التي قادها من أميركا الى السودان. وُلد عصام الريدي في القاهرة عام 1958، لكنه بقي خمس سنوات فقط في مصر قبل انتقاله الى الكويت حيث عاش 23 سنة. وتوجه في 1976 الى كراتشي لدرس الهندسة، لكنه لم يُكمل دراسته بسبب الاضطرابات الاجتماعية العنيفة إثر إعلان الاحكام العرفية في عهد ذوالفقار علي بوتو. وقرر الريدي الانتقال الى اميركا لاكمال دراسته و"تحقيق رغبته" في ان يصبح طياراً. كان يدرس الهندسة الكهربائية في كراتشي، وعندما وصل الى تكساس عام 1979 درس الطيران في معهد "بوردمان" وتخرج منه وعاد الى الكويت. لكنه لم يجد عملاً، فرجع الى أميركا. والتقى في الولاياتالمتحدة الشيخ عبدالله عزام، بعدما كان التقاه للمرة الأولى خلال دراسته في باكستان. وكان الفلسطيني آنذاك استاذاً في المدرسة الإسلامية في إسلام آباد. اللقاء الجديد بينهما في أميركا حصل على هامش مؤتمر لمنظمة "مايا" رابطة الشباب الأميركي المسلم في 1982 او 1983، وتحدث فيه عزّام عن الجهاد في افغانستان معتبراً إياه "فرض عين" على المسلمين. بعد مغادرة عزام مؤتمر "مايا" في تكساس، تواصلت الاتصالات بينه وبين الريدي وتناولت "كيفية مساعدة أفغانستان"، كما يروي المصري. في بداية 1983 انتقل الريدي الى بيشاور واسلام اباد في باكستان. نزل ليلة عند الشيخ عزام قبل انتقاله الى بيشاور للقاء عبد رب الرسول سياف أحد قادة المجاهدين. وسأل الشاب الوافد سياف هل من الضروري ان يبقى في بيشاور للمساعدة ام انه يمكن ان يُساعد من الولاياتالمتحدة، فأجابه ان بقاءه ضروري. فرد بأن خبرتيه الوحيدتين هما الطيران والسفر حول العالم. فقال له الزعيم الأفغاني ان مساهمته في الطيران ليست ممكنة، لأن "المجاهدين" الأفغان لم يكونوا يملكون سلاح طيران، ويمكنه ان يساعد في شحن بعض الأغراض لهم. وبقي الريدي في بيشاور 18 شهراً ساهم خلالها في شحن بعض الأغراض ل "المجاهدين" بينها: أجهزة غطس سكوبا، أجهزة تحديد بُعد الأشياء، مناظير وأجهزة رؤية ليلية، وأجهزة فيديو وبطاريات. عاد عام 1985 الى آرلنغتون تكساس. لكنه بقي على اتصال مع "المجاهدين" وقدم اليهم مساعدات بينها مناظير رؤية ليلية، يقول انه شحنها في حقيبة شخصية مع وديع الحاج أميركي لبناني دين في قضية تفجير السفارتين في شرق افريقيا. كذلك ارسل اليهم رشاشات "باريت" من عيار 50، وهي مشابهة للسلاح السوفياتي 7،12 سلاح ثقيل. لكن الأفغان اتصلوا به مجدداً. وارسلوا اليه رسالة بالفاكس قالوا فيها انهم لا يعرفون طريقة تحديد الهدف بدقة في هذه الرشاشات. فطار الى بيشاور وعلّمهم كيف يُحدد الهدف. طائرة ابن لادن كان الريدي يعرف أسامة بن لادن منذ أيام مساعدته "المجاهدين" الأفغان في الثمانينات، لكن العلاقة بينهما تجددت في 1993. إذ اتصل به وديع الحاج من السودان، وكان سكرتيراً شخصياً لإبن لادن، وأبلغه رغبة الأخير في شراء طائرة "تستطيع التحليق مسافة الفي ميل ولا يتجاوز سعرها 350 الف دولار". وبحث الريدي عن طائرة بهذه المواصفات واتصل بالحاج وأخبره انه وجدها: سعرها 350 الف دولار وصاحبها مستعد لإعطائه خصماً مقداره تسعة في المئة عمولة اعتيادية لمن يشتري طائرات في أميركا أو يبيعها. وتسبب ذلك في جدل "ديني" بين الريدي وبعض رفاقه لجهة حقه في تقاضي مثل هذه العمولة في مقابل ترتيبه الصفقة. لكن صفقة الطائرة لم تتم في النهاية، ليس بسبب ذلك الخلاف، بل لأن وديع الحاج قال ان إبن لادن يريد طائرة سعرها "250 الف دولار وليس 350 الفاً". رد عليه الريدي، كما يروي، بأنه لا يمكن شراء طائرة مستعملة تستطيع التحليق المسافة التي يطلبونها بهذا السعر. لكن المتحدثين باسم زعيم "القاعدة" أصروا على 250 الف دولار، وشرحوا انهم يريدون طائرة تحلّق مسافة الفي ميل لحاجتهم الى نقل أغراض، بينها صواريخ "ستينغر"، من بيشاور الى الخرطوم. أوضح لهم الريدي ان ذلك ممكن شرط أخذ إذن من الدولة التي تنطلق منها الطائرة وآخر من الدولة التي ستهبط فيها. فرد وديع: "لدينا إذن بالإقلاع من بيشاور وإذن بالهبوط في الخرطوم". لكن المصري رد أنه تبقى هناك مسألة تتمثل في إمكان وقوع مشكلة للطائرة ما يُجبرها على الهبوط إضطرارياً في دولة أخرى مما يؤدي بالتالي الى مواجهة خطر انكشاف حمولتها. واشترى الريدي طائرة عسكرية من نوع "389ت" أُخرجت من الخدمة، وهي موازية للطائرة المدنية المعروفة باسم "سابر 40". كلّفت 210 الآف دولار بعد إجراء تعديلات عليها في مخزن في تكسون اريزونا. وأجريت عليها اختبارات ميكانيكية وسُجّلت رسمياً، ما جعلها صالحة للطيران المدني بحسب مواصفات وكالة السلامة الجوية الدولية. أقلع الريدي عام 1993 بالطائرة من فورت وورث تكساس باتجاه الخرطوم. لكن قدرتها على الطيران كانت بحدود 1500 ميل، الأمر الذي لا يسمح لها بعبور المحيط الأطلسي. لذلك كان عليه ان يطير شمالاً في اتجاه القطب الشمالي، قبل ان ينزل مجدداً في اتجاه اليابسة. بدأت الرحلة من فورت وورث في دالاس تكساس الى سانت ماري على الحدود الكندية، ومن هناك الى منطقة خليج فيربشر فخليج فيرفرشو في كندا، ثم الى ايسلندا، ومنها الى لوكان، فروما، فالقاهرة، فالخرطوم. كان يجب ان تستغرق الرحلة يومين فقط، لكن الطقس السيّء في فيرفرشو 65 درجة تحت الصفر ومواجهته مشاكل ميكانيكية في كندا ارغماه على التأخر اسبوعاً. وفي النهاية وصل سالماً الى الخرطوم وسلّم الطائرة الى صاحبها. حاول أسامة بن لادن ان يُبقي المصري في الخرطوم، عارضاً عليه فرصة عمل. قال له ان بامكانه ان يطير بطائرته، ويتولى رش مبيدات زراعية من الجو، كما يمكنه لاحقاً تأسيس "شركة نقل لشحن المنتجات الزراعية" من أجل نقل منتجات شركات زعيم "القاعدة" الى خارج السودان وتسويقها. لكن الريدي رفض العرض، خشية ان تكون الوظيفة المعروضة عليه جزءاً من النشاط السري لإبن لادن في الخرطوم. ورد الأخير: "هذا ليس جهاداً عرض العمل. إنه مجرد وظيفة في شركة رسمية مسجّلة في الخرطوم". وعرض عليه 1200 دولار راتباً. فسأله الريدي: هل هذا الراتب للوظائف الثلاث: قيادة الطائرة، رش المبيدات، وشحن البضائع؟ وفي النهاية، لم يوافق على العرض، وغادر الخرطوم. بعد بضعة شهور اتصل وديع الحاج مجدداً وطلب منه ان يأتي من اميركا للقيام برحلة بين الخرطومونيروبي. عاد فوجد الطائرة ما زالت بحال جيدة. طار في الرحلة مع طيّار مُستأجر في "الخطوط السودانية" ونقلا خمسة أشخاص يرتدون الزي السعودي واليمني والخامس زياً غربياً. بعد يومين عاد بالطائرة الى الخرطوم من دون الخمسة، ثم رجع الى أميركا. بعد ذلك بنحو سنة ونصف سنة اتصل وديع به مجدداً، وكان الريدي يعمل آنذاك في الخطوط الجوية المصرية في القاهرة. قال له ان اسامة يريد استخدام الطائرة للقيام في تجارة ما بدل إبقائها جاثمة في مطار الخرطوم. هذه المرة كان وديع يعيش في نيروبي وليس الخرطوم، فطار المصري من القاهرة الى نيروبي ثم الى العاصمة السودانية كان يعرف ان أسامة تلاحقه أجهزة أمنية مما قد يسبب له مشاكل في مصر إذا اكتُشف انه يطير بطائرة زعيم "القاعدة". قال له الحاج ان طيّاراً يُدعى "النووي" اسمه إيهاب علي، وهو موقوف حالياً في أميركا سيقابله في الخرطوم. تقابل الرجلان في فندق هيلتون وناقشا أموراً تتعلق بطائرة إبن لادن وطريقة فحصها ومعرفة قدرتها على الطيران. وأوضح له النووي انه تلقى تدريباً على الطيران في الولاياتالمتحدة. ذهبا الى الطائرة، لكنها كانت في حال يُرثى لها: إطاراتها فارغة من الهواء، أو ذائبة من شدة الحرارة على أرض المطار، ومن بقائها متوقفة في المكان نفسه مدة طويلة جداً. أما المحرّك فكان ممتلئاً بالرمل بسبب العواصف التي تضرب الخرطوم. وبحث الريدي و"النووي" عن بطارية جديدة للطائرة وأعادا شحنها، ونظّفا المحرّك، وملآ الإطارات بالهواء، وفحصا جهاز الهيدروليك. بدأ الرجلان تجهيز الطائرة للإقلاع. حاولا، لكن المحرّك دبّت فيه النار. أوقفت الطائرة وأُعيد فحص المحرّك وإصلاح العطل. وقررا الإقلاع مجدداً قبل إجراء مزيد من الاختبارات. يروي الريدي: "أقلعت الطائرة. طارت في شكل جيد. كانت لدينا بعض المشاكل في جهاز "الباور" يُحدد علو الطائرة، لذلك قررت ان أحط ثم أقلع مباشرة، ثم أحط وأقلع، ثم مرة ثالثة قبل التوقف نهائياً. كنت متيقناً ان المحرّك قادر على الطيران، لذلك قررت التوقف. وعندما حاولت فوجئت لأنني لم استطع وقف الطائرة. فقدنا جهاز الهيدروليك، أو المكبح الأساسي، فحاولت استخدام المكبح البديل. كنت اتحدث مع مساعدي النووي. قلت له اننا فقدنا السيطرة على المكبح الأساسي وانني استخدم البديل. لكننا فقدنا البديل ايضاً، فاستخدمنا المكبح اليدوي. فقدنا كل انواع المكابح، ولم نستطع وقف الطائرة، والخيار الوحيد أمامنا، بالطبع، كان إطفاء المحرّك بهدف تخفيف اندفاع الطائرة، وهذا ما فعلت ... اقفلنا المحركات، لكننا كنا ما نزال نسير على المدرّج الذي تجاوزناه. السرعة كانت نحو 60 عقدة عندما ارتطمنا بكومة من الرمل خارج المدرج. ... أول شيئين فكّرت بهما بعد الاصطدام: سلامة مساعدي الذي لم يكن يعرف شيئاً عن مثل هذه الأجهزة، وثانياً كيف أغادر الخرطوم بأسرع ما يمكن!"