يقال عادة عن السجن انه اصلاح وتأهيل وتهذيب، فالهدف من ادخال المجرم إليه لا يقتصر اذاً على عقابه على ما اقترف من جرم، وإنما إصلاحه لكي يخرج فرداً صالحاً لا يعود إلى ما فعله من قبل بحق المجتمع. لكن، هل تستطيع الدولة ان تصلح او تهذب مسجوناً سياسياً؟! أو هل يحق لها ذلك اصلاً؟! بمعنى آخر، هل يجوز للنظام ان يحاول غسل دماغ السياسي المعارض حتى يتخلى عن أفكاره السياسية تحت غطاء الإصلاح والتهذيب؟ هذا هو وباختصار السؤال الذي يطرحه اليسار في تركيا، ويخوض معركة ضد الجوع حتى الموت في سبيل تأكيد انه لا حق للدولة في التأثير على أفكارهم السياسية أو إجبارهم للتخلي عنها. في العشرين من تشرين الأول اكتوبر من العام الماضي بدأ مئات السجناء اليساريين في السجون التركية ومعظمهم من الشبان اضراباً عن الطعام، احتجاجاً على قرار الحكومة عزمها نقلهم وتفريقهم وتوزيعهم على سجون جديدة في زنزانات ضيقة فردية او اخرى تستوعب ثلاثة سجناء على الأكثر، وإلغاء نظام السجون القديم الذي اعتادوا عليه ذي الزنزانات الرحبة و التي كانت تعج بالسجناء من 20 الى 50 سجيناً، والتي كانت مرتعاً خصباً للسجناء اليساريين لإدامة تنظيمهم وتجنيد عناصر جديدة ممن يدخلون السجن. وفي التاسع عشر من كانون الأول ديسمبر الماضي تدخلت قوات الأمن لإنهاء هذا الاضراب بالقوة واقتحمت عشرين سجناً في مختلف انحاء تركيا ونفذت خطة الحكومة بنقل السجناء الى السجون الجديدة بالقوة، ما ادى الى قتل ثلاثين سجيناً وعسكريين من قوات الدرك، ليرتفع بذلك عدد السجناء اليساريين الذين لقوا حتفهم منذ بدء ذلك الاضراب الى 71 قتيلاً ماتوا من الجوع أو بأيدي قوات الأمن، إضافة الى 70 سجيناً اصيبوا بأمراض عقلية ونفسية وجسدية لا يمكن علاجها، فيما لا يزال 150 سجيناً حسب تقديرات وزارة العدل و250 سجيناً حسب احصاءات جمعية حقوق الإنسان مستمرين في إضرابهم عن الطعام، اضافة الى عشرة آخرين من اقرباء هؤلاء السجناء في اسطنبول يواظبون على اضرابهم خارج السجن دعماً لأقربائهم السجناء. لكن قصة السجناء اليساريين في تركيا لا تنتهي عند هذا الحد، ولا تبدأ منه، فالقضية ليست محصورة في رفض السجناء أو نقلهم الى سجن جديد أو تفريقهم، ولا في نية الحكومة اقتحام بؤر الجماعات الماركسية والماوية في تلك السجون وكسر شوكتهم، لكن الموضوع قديم، وجذوره تمتد الى عام 1980، ويشمل الموضوع في جوانبه ملف حقوق الإنسان والسجناء السياسيين في تركيا. تاريخ العصيان في السجون التركية وقع الانقلاب العسكري الأخير في تركيا عام 1980 بحجة توفير الأمن وضبط الأوضاع التي تفاقمت نتيجة اقتتال الجماعات السياسية المتطرفة اليسارية واليمينية القومية، والتي افترشت الشارع وأودت بحياة العشرات من الأبرياء والسياسيين والمفكرين. لكن الملاحظ حينها، ان القيادة العسكرية عملت على تصفية اليساريين من صفوف الجيش والشرطة، وأعادت هيكلة جهاز الأمن على أكتاف القوميين فقط. وجاء ذلك في إطار سياسات حلف شمال الأطلسي الناتو الذي كان يرى في تركيا السد الشرقي امام المد الشيوعي السوفياتي. وكان على تركيا العضو في هذا الحلف ان تقطع دابر محاولات تسلل الفكر الشيوعي أو الاشتراكي الى سياساتها الداخلية. واتبع العسكر آنذاك سياسة تشجيع الأوساط القومية والإسلامية، فظهر ما يسمى بحزب الله الكردي في مواجهة حزب العمال الكردستاني الماركسي، وكذلك افتتح الكثير من مدارس الأئمة والخطباء، وتسلّم اليمين دفة الحكم بعد العسكر اواخر الثمانينات. لكن تصفية اليسار المتطرف في حينه كانت مهمة ليست باليسيرة مع امتداد قوة هذا الخط السياسي وتوجهه الى استخدام السلاح والقيام بعمليات ارهابية استهدفت قوات الأمن خلال التسعينات، اضافة الى ترسخ هذا الفكر في عقول اصحابه الذين كانوا يرفضون النقاش أوالحوار حول مبادئهم وأفكارهم. ولذلك اتجهت سياسة الانقلاب العسكري الى محاولات غسيل المخ في السجون وقع أعنفها في سجن ديار بكر حيث انطلقت من هناك اولى شرارات العصيان عام 1982 عندما أقدم اثنان من الأكراد على الانتحار بأن أحرقا نفسيهما داخل السجن احتجاجاً على ما تعرضا له من تعذيب. مصطفى كاحيا، قارب الأربعين من العمر، وقد قضى حوالى نصف عمره في السجن بعد ان قبض عليه عقب الانقلاب العسكري وخرج قبل عامين فقط، ولا يزال يذكر الأيام الأولى له في السجن وكيف تعرض لأساليب مختلفة من التعذيب النفسي والجسدي، يقول: "عاملونا بوحشية، ووضعونا مع خصومنا من القوميين المتطرفين في زنزانة واحدة بحجة انهم يريدون اصلاحنا وإنهاء ما بيننا من عداء وثأر، لكن النتيجة كانت عكسية، فقد كدنا نقتل بعضنا بعضاً في السجن. إدارة السجن كانت تدير اسطوانات لأناشيد عسكرية وبصوت عال طوال الأربع وعشرين ساعة، وكانوا يجبروننا على حفظ بعض اقوال اتاتورك بالتعذيب والإكراه، وأن نسبّ قادتنا. ولا داعي لتفصيل اساليب التعذيب التي تنوعت من استخدام الكهرباء الى الضرب وأحياناً الاعتداء الجنسي!". في عام 1984 مات أربعة سجناء من منظمة ديف سول Devsol أو "اليسار العظيم" المتطرفة بعد اضراب طويل عن الطعام احتجاجاً على سوء المعاملة والتعذيب. وتبعهم اثنان آخران عام 1989، حتى تكرس بعد ذلك اسلوب العصيان والاضراب عن الطعام كأسلوب امثل ووحيد لإسماع صوت السجناء والمطالبة بتحسين اوضاعهم ومعاملتهم على انهم بشر مهما كانت نظرة النظام إليهم. ثغرات قانونية وسوء ادارة يجمع اهل القانون في تركيا على ضعف قانون ادارة السجون فهو يتألف من مادتين فقط، ويترك تنظيم حقوق المسجون رهن ادارة السجن ما يتيح المجال للتصرفات العشوائية والمزاجية. وفي المقابل، ومع انتشار الرشوة، اصبح من اليسير على بعض السجناء الحصول على ما يريدونه من خارج السجن. ويذكر احد السجناء انه في امكان السجين الحصول على هاتف محمول في مقابل دفع رشوة قيمتها نحو 2000 دولار لإدارة السجن، اضافة الى بعض الأسلحة الخفيفة البيضاء مثل السكاكين او اسياخ الشواء، التي يتم ضبطها عادة اثناء عمليات التفتيش داخل السجون. الهواتف المحمولة أمّنت اتصال السجناء اليساريين مع الخارج خارج السجن وخارج تركيا، إذ كان بعضهم يتلقى تعليمات من قيادات الحزب المتمركزة في دول أوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا. ومع اكتظاظ السجون وازدحامها، تسنى للجماعات اليسارية مداومة نشاطها وإحكام تنظيمها داخل الزنزانة. وسجلت ادارات السجون حالات عدة اجبرت فيها المنظمات اليسارية من يشاركها سجنها على الانضمام الى تنظيمها بالتهديد والتعذيب، حتى تحولت تلك السجون الى مراكز نظامية للأحزاب اليسارية المحظورة. وكُشف في ما بعد ان بعض العمليات الارهابية والهجمات المسلحة لحزب العمال الكردستاني وغيره تم التخطيط والإعداد له من داخل السجن وخرج الأمر بتنفيذها من زنزانة، وبذلك بات واضحاً ان عملية السيطرة على السجون غير كافية. الانفجار مع بداية عام 1996، بدأ الحديث عن مشروع تفرقة السجناء عن بعضهم البعض ونقلهم الى سجون خاصة، فأعلن السجناء اليساريون اضراباً عن الطعام رافضين القرار. بدوره رفض وزير العدل في حكومة نجم الدين اربكان الحديث الى السجناء والاصغاء الى مطالبهم، الى ان بدأت حالات الوفاة تظهر بينهم، ما اضطر الحكومة الى تأجيل مخطط النقل، ولكن بعد وفاة عشرة سجناء نتيجة اضرابهم عن الطعام. إلا ان ذلك لم يمنع الحكومة من اقتحام سجني ألوجانلار وبردر عام 1999 بالقوة بحجة السيطرة على السجناء وكسر شوكة شبكة التنظيم الداخلي للأحزاب اليسارية. وتدخلت في حينها البلدوزرات وقوات الأمن والمدرعات لاقتحام هذين السجنين في عملية دموية أودت بحياة 12 سجيناً. وحاولت الحكومة نفي مسؤوليتها عن قتل هؤلاء السجناء، وألقت التهمة على السجناء أنفسهم، وقالت ان زملاءهم قتلوهم وأن بعضهم احرق نفسه. وعلى رغم ان تقارير الطب الشرعي لم تؤكد ذلك بل على العكس فهي اشارت الى مسؤولية قوات الأمن عن غالبية حوادث القتل وبتر يد احد المسجونين والاعتداء جنسياً بمصباح النيون على احدى السجينات، فإن السجناء الذين حاولوا مقاضاة قوات الأمن وتحميلهم مسؤولية وفاة من قتل باءت بالفشل، إذ رفضت ادارة السجون اعطاء الإذن بتقديم موظفي السجن للمحاكمة، كما رفض وزير الداخلية والنيابة تقديم قوات الجندرمة الدرك الذين شاركوا في عملية الاقتحام الى القضاء. وعلى العكس من ذلك، حكم على 86 سجيناً بما يصل مجموعه الى 12 ألف سنة سجن بتهمة قتل زملاء لهم في السجن، وحمّلهم القضاء ايضاً نفقات عملية المداهمة وما اسفرت عنه من خراب ودمار في مبنى السجن وممتلكاته. ويذكر ان محكمة حقوق الانسان الأوروبية حكمت ضد تركيا في حوادث موت عدد من السجناء اليساريين عام 1994 اثناء عمليات تعذيب او اضراب عن الطعام في سجون أزمير وبوجه. خلاف جديد على السجون الانفرادية اكبر عملية اضراب عن الطعام في السجون التركية بدأت قبل نحو عام، اي في العشرين من تشرين الاول من العام الماضي وشارك فيها مئات من المساجين، ولم تأت في اطار الاحتجاج على سوء معاملة السجناء، انما رفضاً لمشروع الحكومة نقلهم الى سجون جديدة ذات نظام هندسي مختلف وزنزانات ضيقة فردية او تتسع لثلاثة اشخاص على الاكثر. وشهدت تركيا نقاشاً حاداً دام اكثر من سنة على نظام السجون الجديد الذي تصرّ الحكومة على اعتماده. وتتذرع الحكومة بضرورة بسط سيطرتها على السجون وأن النظام الهندسي القديم لا يساعدها على ذلك، فيما نظام السجون الجديد اكثر أمناً وإحكاماً. وقد دعا وزير العدل الحالي حكمت سامي ترك وسائل الإعلام الى زيارة السجون الجديدة، مشيراً الى احتوائها مكتبات وصالات رياضية ومشاغل مهنية. لكن منظمات حقوق الانسان اعترضت على النظام الجديد لأسباب عدة، منها: 1- رفض فكرة الحبس الانفرادي، وربط حق الانتفاع من المكتبة وصالة الرياضة بمدى ما يبديه السجين من تعاون وميل للإصلاح والتأهيل. 2- اهمال الحكومة تنظيم حقوق السجناء وتعديل قانون السجون لحفظ حقوق السجناء وحمايتهم من سوء المعاملة. 3- تقاعس الحكومة عن تشكيل لجنة حيادية تزور السجون والسجناء وتستمع الى شكواهم ومطالبهم. وخلال لقاء مع ممثلين عن اتحاد اطباء انقرة يقول الدكتور شاغري تيموشين: "دهنوا جميع الجدران باللون الابيض داخل تلك السجون ومنعوا السجناء من تعليق اي شيء عليها، وبقاء السجين لوقت طويل في تلك الغرف يفقده الاحساس بالعمق ويُخل بتوازنه. كما ان استخدام اساليب قطع المياه او التدفئة عن الزنزانة عقاباً للسجين امر غير مقبول". جمعية المعماريين واتحاد المحامين انضما الى اتحاد اطباء انقرة في رفضها لنظام السجون الجديدة، فيما ابدت هيئات ولجان اوروبية زارت تلك السجون ان النظام الجديد اقرب الى نظام السجون الاوروبية هندسياً، وشددت على ضرورة تعديل نظام العمل داخل تلك السجون، فيما طالبت بقية الجمعيات بايجاد قاعات كبيرة او ساحات واسعة يلتقي فيها السجناء للحديث معاً حيث الحديث ممنوع في صالات العمل والمكتبة والرياضة. لكن المثير هو ان الحكومة رفضت النقاش مع هذه الجمعيات واعتبرت كل من يعترض على نظام السجون الجديدة يحرض السجناء على العصيان ويدعم اضرابهم عن الطعام. وفي هذا الخصوص يقول المحامي زكي روزجار "ان الدول الاوروبية تضمن حرية الفكر والتعبير وتحد فقط من الترويج للنازية والفاشية، الا ان القوانين التركية الموازية لتلك الاوروبية في هذا الخصوص وبالتحديد المادة 312 من قانون العقوبات تجعل كل من يتحدث عن اليسار او الاسلام او يدعم احدى هذه الجماعات ارهابياً يعمل على اثارة الفتنة، وهذا يضيق من فسحة النقاش والحوار كي تحدد الدولة وحدها من هو الارهابي ومن هو الصالح من دون ان تسمح لأحد بأن يناقشها في ذلك". تحدّ للجوع ... وموت بطيء على ان الكثيرين يتساءلون: كيف يمكن لهؤلاء السجناء ان يستمروا في اضرابهم عن الطعام لفترات طويلة تمتد الى مئتي يوم او اكثر؟ وفي هذا الخصوص يقول الدكتور اوميت اركول: "ان السجناء يمتنعون عن تناول الطعام لكنهم يتناولون الماء والسكر والملح وبعض السوائل من اجل البقاء على قيد الحياة. فالهدف في اضرابهم عن الطعام هو اجبار الحكومة على التراجع عن موقفها وليس الموت. لكننا من تجاربنا الاخيرة نوصي السجناء بتناول فيتنامين B1 من اجل الحفاظ على الذاكرة ووظائف المخ في وضع سليم". ويذكر ان 70 سجيناً اصيبوا بمرض غريب يسمى "فيرنيك - كوساكوف" يظهر في فقدان مساحات كبيرة من الذاكرة وفقدان المقدرة على اكتساب ذاكرة جديدة وبالتالي التعلّم. وهو مرض يصعب علاجه، ومعه يعود المريض الى الطفولة بعد ان يكون قد فقد من ذاكرته ما خزنه فيها خلال السنوات العشر الاخيرة. قضية السجناء اليساريين تبدو محسومة لدى الحكومة التي نفذت ما خططت له واستطاعت نقل جميع السجناء الى السجون الجديدة بعد تفريقهم، وتنتظر الآن ترك حوالى 150 الى 250 سجيناً اضرابهم المستمر عن الطعام وترك افكارهم السياسية اليسارية وهي تسعى بذلك الى كسر حلقة الوصل بين القيادات اليسارية المتمركزة في اوروبا وبقية اتباعها في تركيا.