يطنب موقعو بيان "تجديد معنى لبنان" نشره "الملحق" الأسبوعي لصحيفة "النهار" اللبنانية، في 15 ايار مايو 1999، ص4-9، موسوماً بكلمة "مانيفست" في مديح التعدد الذي نشأ لبنان التاريخي الحديث عنه، على قول أصحاب البيان. ويمدح التعدد اللبناني، في مجري البيان، مديحاً كثيراً، وكثير المصادر السياسية والفكرية. ويُجمَع على هذا المديح حَبر روما الأعظم، ورئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ووزيرة الخارجية الأميركية، والمثقف الدولي. وتقتطف من السياسيين المحليين قطوف بليغة ومتوازنة. فيَشهد الماروني، سياسياً أو بطريركاً أو مؤرخاً، بصوت واحد مع الدرزي والشيعي والسني المضمر في الميثاق الوطني فوق المعلن للتعدد العتيد وفضائله الكثيرة. فيخال القارئ أن البيان في التعدد اللبناني، على رغم "المعنى" المفرد أو الفرد، ليس إلا جماع منتخبات في مديح المعنى المرجو والضائع والمتجدد والثابت، معاً. والتعدد أصل. وأما الفروع عليه فتكاد لا تحصى. ويقع القارئ على الفروع، أو المرادفات اللفظية، في كل فقرة من فقرات البيان الطويل. فعلى أصل التعدد يتفرع العقد، والتركيب، والاختلاف، والتوازن، والتوفيق، والإشتراك، والحوار، ودوائر الإنتماء، والإتساع للجميع، والمساواة، والإختلاط، والإنسجام، والإعتراف المتبادل، والحيوية، والإجماع، والتسوية، والتجربة، والحداثة، والتراث، والآخر، والتفاعل، والاغتناء الروحي، والتغاير، والإرادة... وتستقر هذه الكثرة، إذا قيض لها استقرار، على وصف ل"التجربة اللبنانية" ينسب دوامها ومغالبتها الدمار وانبعاثها إلى "رغبة اللبنانيين في استئناف العيش اللبناني المشترك بعد كل اختلال" رابعاً، 5. ومناط هذه الرغبة هو "إنسجام التنوع داخل الوحدة". فاللبنانيون إنما يستأنفون إنشاء وطن واحد ومشترك، بعد قيامهم عليه وبعضهم على بعض، لأنهم "يرغبون" في "معنى لبنان": في "الهوية المركبة" و"الخلاصة الموحدة للشخصية الإنسانية"، وفي "الشراكة الحقيقية" و"فكرة التسوية" و"أصالة التنوّع" ومشروعية التعدد ... وقبول الآخر المختلف" و"الاغتناء الروحي المتبادل"، و"يرغبون" في "الإختيار الحر الطالع من اقتناع" والإنفتاح على "تجارب الحداثة والمعاصرة وعلى أي رافد ثقافي، إبداعي". ووضعُ دوام دولة وكيان سياسي على رغبة أهالي الدولة، وعلى إرادة أصحاب الكيان السياسي واختيارهم، أمر يدعو الى الإعجاب على قدر ما يدعو إلى التشكك. فالجماعة السياسية التي تملك أمرها وشأنها على هذا النحو، أو هذه الصفة، هي جماعة مثالية أنموذجية، وتستجيب شرط إرنست رينان في تعريف الأمة "استفتاء كل يوم" استجابة لم يطلبها صاحب التعريف ولم يتوقع جوازها في عالم الأعيان والوقائع. ولعل توجه أصحاب البيان هذه الوجهة، وهم يتكلمون على لبنان اليوم، قرينة على الحال اللبناني، وعلى إدراك بعض اللبنانيين هذا الحال وتناولهم إياه. فلبنان، أي تاريخه، يتيح للبنانيين تناول نسبتهم إليه، أي يتيح تناول الوطنية اللبنانية على وجه الرغبة والإرادة والرأي. أما خلاف هذا الوجه، أو الوجوه، فهو القدر - وأصحاب البيان لا يسلمون من حمل اتفاق اللبنانيين، على "وطن بشراكة حقيقية"، على "قدر هم" رابعاً، 5. ونصْبُ القدر حاكماً في الأمة، وشؤونها وشجونها، مذهب لم تتخلص منه حركات النهضة والإحياء والبعث والخلاص والعرفان - العربية والإسلامية والعربية - الإسلامية والسورية منذ ان ذرت هذه الحركات قرونها في "الأمة"، وفي ربوعها وأجيالها. وكلما ضربت الحركات القومية والدينية هذه في الغلو،وفي الجميعية، وقدمت منطق الجماعة العضوية على مقومات تاريخها الحادث والمتنازع والمنقسم، أنزلت القدر منزلة الإرادة والإختيار والصنع والرغبة والتدبير، وناطت بمن اختاره القدر نفسه بطلاً ومقدَّماً وقائداً وروحاً إنجاز مصائر الأمة وحمل تبعاتها عنها. ولعل الترجح بين الرغبة، وإناطة دوام الدولة والمجتمع بها، وبين قدر داهم وشاخص لا خيرة فيه ولا معه، مرآة تنازع أصحاب البيان نازعين مختلفين وعصيين على التأليف. فهم ينسبون محاولة الجماعات الأهلية والعصبية والدينية المذهبية اللبنانية الائتلافَ السياسي والإجتماعي والثقافي فيما بينها طوعاً، إلى رغبة قوية في التعدد والتنوّع والشراكة، من وجه، ويحملون تجدد هذه الرغبة وفعلها الناجع والمثمر، من وجه آخر، على غريزة تدعو الجماعات إلى الائتلاف، على الرغم منها، حفظاً لكيانها المتنوع والمتعدد، وصيانة له من تمهيد السلطان المستبد والغاشم، ومن دمجه القسري والمتعسف. والحق ان حدَّي الترجح، حد الرغبة الذاتية وحد القدر الخارجي والعقلاني، يبالغ البيان فيهما وفي تقدير فعلهما ودورهما. فالجمع في معنى لبنان، وفي إسمه، بين الإرادة الحرة وبين الحصانة من التبدد، كله مربح وغانم على أي وجه قلِّب الأمر. أما الاحتكام الى الحوادث والوقائع، فيقود إلى ملاحظة مزاج التدبير والمنفعة والضرورة على مقادير متغيرة ودقيقة. وهذا المزاج لا يستوي فعلاً حراً ومرسلاً من قيود الضرورة ودواعي المنفعة والحساب، ولا يقضي فيه القدر "القومي" أو الأبد الألفي والسرمدي قضاءً مبرماً. وكان كاظم الصلح، ابن عم رياض الصلح وصاحب فكرة الميثاق الوطني اللبناني الأول ربما، عقَّب على مؤتمر الساحل الثاني وعلى دعوته جماعات المسلمين الى الإنضمام إلى سورية، في أواخر عام 1936، بقوله كتابةً: "ها أنا أذهب مع القائلين بوجوب فصل الأقضية والأراضي الملحقة بلبنان وضمها الى سورية، فأتصور أ قراراً قد صدر من الجانب الفرنسي بذلك". ويتوقع الصلحي المراقب والحديد النظر: "ستجد ]جراء القرار[ عندئذ كثيرين من سكان هذه الأراضي ]المضمومة[ قد رفع عقيرته بالشكوى المريرة". أما السبب في الشكوى المريرة المتوقعة - ولم يكن انقضى على ضم "المضمومين"، ومعظمهم من المسلمين، غير نيف وعقد ونصف العقد - فهو المنافع الكثيرة التي جناها المضمومون من ضمهم الى لبنان "الكبير". فهم، في الأثناء وجراء قسرهم أو قسر معظمهم وعامتهم عن يد الأجنبي المحتل، إلى الدخول في دولة وكيان لم يرتضوا الدخول فيهما طوعاً، حصلوا على أوائل عمل وهجرة إلى المدينة وتعليم واختلاط وليونة في العلاقات الإجتماعية الإقامة والزواج والإنتقال تفوق بكثير ما حصل عليه نظراؤهم من المحجات الأهلية والقومية القريبة. فمن طريق الكيان السياسي الذي قُسروا ابتداء على الدخول فيه، وعلى اتخاذه وطناً عوضَ "المملكة العربية" والفيصلية الموعودة، باشروا رسوم حياة وعمل لم يعهدوها من قبل. ولقيت الرسوم المبتدئة هذه هوى في نفوسهم وفي قلوبهم وأجسادهم وعقولهم. ولقيا الرسوم هوى، وعلى رغم اقتضائها الإنفصال من "الداخلية" الأهلية وافتراضها إياه، أمر يعقل. فالضم لم يرتب على الجماعات الأهلية الجديدة تخلياً عن لحمتها وما فيه قوام وحدتها، بل إن بعضها أقر الكيان السياسي الجديد بقوامها الأهلي، وسوَّاه بغيره، لأول مرة في تاريخها المحلي. واستفادت الجماعات الأهلية الجديدة، المضمومة، من إلفة الجماعات "المركزية" المسيحية، السابقة والقديمة، برسوم الإجتماع والسياسة الغربية الغالبة أو الآخذة في الغلبة. فكانت الجماعات السباقة جسر الجماعات اللاحقة الى تألف الرسوم الإجتماعية والسياسية والثقافية الجديدة من غير قسر ظاهر، ولا قمع مهين أو تعسف مذل. واختبر أهل الجماعات الأهلية اللاحقة أشكال العمل والإقامة والكسب والتعلم والزواج والتربية، الجديدة، اختباراً مباشراً، عصائب وأفراداً، وعاد إليهم القضاءُ فيها برأيهم. وهم لم يقضوا فيها برأي واحد ومجمع، فكان اختبارهم اللبناني بداية تفرقهم، ونشأة منازعات جديدة في صفوفهم. وكان اختبارهم هذا مرتقاهم، ومن بعدهم مرتقى أولادهم، إلى التفرق والمنازعة، وإلى القضاء فيهما وتدبرهما. ولم يخل الإختبار هذا من الشدة والوطأة، ولا خلا من التمزق والنفور والترجح والمغالبة. فالجماعات السباقة إلى الأخذ برسوم المتغلب الأوروبي، والمسيحي، يخالف معتقدها معتقد الجماعات المضمومة. وإلفتها بآداب المتغلِّب المتسلط خولتها امتلاك أسباب القوة الإجتماعية والسياسية، وتصريفها ونشرها وتوارثها. فجارى تجددُ الفرق والتفاوت بين الجماعات انتشارَ الآداب الجديدة وسريانها في الجماعات المضمومة. ولما كان الناس إنما يختبرون انعطاف تاريخهم وعينهم على ما يرون ويُثبتون، ولا يقدرون لوقتهم على استشراف النتائج المترتبة على الإنعطاف، يعظم في عيونهم الفرق الذي يرونه مستمراً بينهم وبين أقرانهم الجدد، ويصغر الفرق بينهم وبين ما كانوا عليه لتوهم. فينسبون إلى أنفسهم وحدها خروجهم مما كانوا فيه، وينسبون الى غيرهم، من جماعات مواطنة ومنتدب أجنبي، دوام الفرق بينهم وبين هذه الجماعات. وعلى هذا فالطائفية إنما هي وليدة التاريخ الحديث، وليست من مخلفات استقلال الجماعات الأهلية بنفسها. أما الوجه الثاني من الإختبار اللبناني، المشترك في الجماعات الأهلية، فهو بعض اتصال السياسة بالموارد والقوة الإجتماعية. وكان شاهين مكاريوس، صاحب "إماطة اللثام عن نكبات الشام"، لاحظ، في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أن "رؤساء المسيحيين هم التجار والرهبان". وليسوا "رؤساء العشائر" المتحدرين من أصلاب أهل القوة وبيوتاتهم. وجواز عودة الرئاسة، أي النفوذ والسلطة، الى العامة، انقلاب اجتماعي كبير يخالف بعض أركان الإجتماع العربي ومعانيه الرئيسية والعميقة. ولم يعتم هذا الإنقلاب أن شرَّع الأبواب بوجه التيارات السياسية الجديدة، وانتزع العلاقات الإجتماعية من سطوة "الكبراء" وتقليدهم، ووضع "الرئاسات" موضع المنافسة والتداول، وقسم الجماعات بعضها على بعض. وأرسى الإقتراع الرسوم السياسية الجديدة على ركن مكين. فأضعف أقوياء الجماعات الأهلية، وشق الجماعات نفسها، فاستشعرت الجماعات انشقاقها، وضعف أقويائها وأعيانها وقلة حيلتهم، إضعافاً متعمداً لها، وانتقاصاً من مكانتها ومنزلتها من الدولة، وتقطيعاً لأواصرها وروابطها بمثيلتها في "الديار" العربية الأخرى، وبأهلها وإخوتها في هذه الديار. وتوسلت بالإقتراع إلى حفظ هيئتها وتماسكها، على ما دعاها بشارة الخوري، الرئيس الإستقلالي الأول. فانتخب الدروز الزعامات الدرزية، وأعيان الغرضيات، والشيعة الزعامات الشيعية و"رؤساء العشائر" و"وجهاء الصف الثاني" محمد جابر آل صفا وورثتهم، وتوارثت عائلات المدن السنية المناصب السياسية الكبيرة. فلم يؤد ذلك إلى شق الطاقم السياسي اللبناني، وإلى الحؤول دون ائتلاف "طبقة" سياسية وطنية متجانسة، وحسب، فأرست القيادات المسيحية صدارتها على تمثيل اجتماعي وأهلي سياسي عريض، على حين انفك التمثيل الأهلي الإسلامي من العوامل الاجتماعية والسياسية العامة - وأوكل الاضطلاع الضعيف بهذه العوامل الى أحزاب فقيرة - بل أدى ذلك الى إرساء الإنقسام السياسي داخل الجماعات الأهلية، الإسلامية والمسيحية، على فروق مرتبية. فنشأت الأحزاب السياسية الحديثة عن المراتب الدنيا في الجماعات الأهلية، وكان نازعها الإجمالي والعقدي الإيديولوجي، الوطني أو القومي أو الديني، تجريداً مفرطاً للعلاقات السياسية ولميزانها ومعاييرها، وإنقطاعاً حاداً من ميزان العلاقات الأهلية، واستبطاناً لها. وقد يكون هذا الحال هو العلة في "وجود هذه الأحزاب نفسها داخل اللعبة الطائفية" 2 في ص4 التي لم تخرج منها، على خلاف ما يصور البيان وبحسب موقعوه وأصحابه. وهو العلة في تجديد النازع الحزبي إلى الإستيلاء على قيادة الجماعات الأهلية من طريق الأحلاف الإقليمية، الأهلية والقومية، على ما جرى في 1956-1958، ثم في 1969-1976، وعلى ما يجري منذ 1984 الى اليوم، بمعزل من أي نصاب إجتماعي، وبمنأى من تضمين السياسة والتمثيل مطاليب ومصالح اجتماعية. والوجه الثالث من الإختبار اللبناني المشترك هو قوة المجتمع، جماعاتٍ أهلية وكتلَ مصالح اجتماعية ومنافع فردية معاً، بإزاء الدولة، وضعف هذه بإزاء هذا المجتمع. ومرد الأمر، على زعمي، إنما هو إلى اضطلاع طوائف قليلة العدد، وضعيفة المرتبة في ميزان المراتب السائد العربي، بقيادة الدولة اللبنانية المستقلة. فلم يسعها، وحالها هذه، أن تنسب إلى الدولة ولا ان تضمّنها، وهي راعيتها وواليها، دالَّة وقوة وسلطة كان من اليسير على طوائف الكثرة، الغالبة على المناطق المضمومة، أن تحملها على دالة الطوائف القليلة وقوتها وسلطتها. فخرجت الجماعات الأهلية، الإسلامية خصوصاً، عن ولاية الدولة الوطنية. وانتهزت كتل المصالح الإجتماعية هذا الضعف فحصنت نفسها من مستلزمات الإدارة الإقتصادية والإجتماعية، ومن تبعات التقريب الإرادي بين المناطق والأهالي. وهجمت المنافع الفردية الفوضوية على أنواع الموارد المختلفة، وطعنت في المراقبة والمحاسبة، واستقوت عليهما بذرائع ليبرالية وطائفية وسياسية، من غير تمييز ولا تدافع. وفاقم الأمر تعيّش ضعفاء الجماعات الأهلية عموماً، وضعفاء الجماعات الأهلية المضمومة خصوصاً، من عائد الوظيفة العامة، أي الرسمية. ولازم التعيش والإعتيال هذان قصور ضعفاء الجماعات الأهلية عن الإنخراط في العلاقات الرأسمالية، من وجه، ولازما، من وجه آخر، قصور القيادات السياسية عن إرساء قيادتها وتمثيلها على علاقات غير الولاء الأهلي والعصبي، وعلى تأجيج المنازعة على حصة الجماعة الأهلية من الموارد العامة. وتوج توزيع السياسة السورية المغانم على أنصارها هذا النمو، العريق، في الإدارة الأهلية، وكان السببَ في انهيار العملة الوطنية، ثم في تعاظم الدين العام وخدمته، وفي نهج السيد رفيق الحريري في الإستدانة. وعلى هذا فالرغبة في الكيان اللبناني، المستقل والمنفصل و"الكبير"، استقت أَوَدَها وعواملها من علاقات وأحوال ونوازع مختلطة ومتباينة. وغلب الإلتباس على هذه الرغبة في كل أطوارها ومراحلها. وهو غلب على أصحاب هذه الرغبة، على اختلاف مواضعهم ومنازلهم من الكيان السياسي. فالمسيحيون الذين ولدت الدولة المنفصلة و"الكبيرة" من احتياجهم، الكثير الوجوه، إلى أواصر أهلية وإقليمية وثقافية واقتصادية ب"الداخلية" العربية والإسلامية، كان عليهم ان يقاسموا الجماعات المواطنة الجديدة، والغالبة عدداً مذ ذاك على ما لاحظ جورج انطونيوس باكراً، مراكمتهم الأولوية لعوامل اندراجهم في دائرة القطب الأوروبي الغالب والمختلف. ولم يرضخ المسيحيون للمقاسمة إلا على مضض. وأقبل المسلمون على المقاسمة المقترحة - وهي اقترحتها السياسة الفرنسية المنتدبة، ثم القوة البريطانية الغالبة على شرق السويس وجنوبه - وهم موزعو النفس، تُمضِّهم استضافتهم الى مائدة شهية على شرط أن يخرجوا من بعض جلدهم، وأن يقطعوا ما تصوروه أواصرهم ببني جلدتهم وأهلهم وإخوتهم. فكانت الشراكة في الدولة والكيان اللبنانيين والرغبة فيهما، ابتداءً، متنازعتين وملتبستين. والحق ان دواعي التنازع والإلتباس، ودواعي الإقبال والنفور والهوى والضغينة على ما يُرى في القوّاتيين والحزب اللهيين على حد سواء، ليست سراً مستغلقاً. فهي نشأت عن الترجح بين علل الدولة الوطنية المحدثة وبين علل الجماعة الأهلية والعصبية المحمولة حملاً على الدخول في الكيانات السياسية والوطنية الجديدة. وإغفال هذه الدواعي، على ما يصنع موقعو البيان، يؤدي بهم إلى توهم تجربة لبنانية ميتافيزيقية، قطباها الثابتان والمجردان التعدد والاندماج، تارة أولى، أو الطوائف والأفراد تارة ثانية، أو الشراكة والحرب تارة ثالثة، إلخ. ويستولد البيان حوادث التاريخ اللبناني الحديث، منذ نحو نصف قرن، من تصريف هذه الأزواج القطبية تصريفاً هندسياً ورياضياً. ولعل محاولة استيلاء قطبي الطوائف والأفراد، ونظيرها قطبا الميثاق والدستور، حوادث ربع القرن الأخير، وتتصدرها الحروب الداخلية واتفاق الطائف و"نظامه" المستمر - لعل هذه المحاولة هي مختبر البيان وامتحان بنيانه. فيذهب أصحاب البيان الى ان انقسام اللبنانيين فريقين: واحداً "قانونياً - دستورياً - مدنياً"، وعلمانياً من بعد، وآخر "طائفياً - ميثاقياً"، حال دون رسو الحياة السياسية اللبنانية على تفاعل قطبي "العقد اللبناني": "المواطنية والتعددية الطائفية" 1 و2، ص4. وينبغي لو صحت هذه القسمة، أن تنفجر الخلافات بين الفريقين المزعومين هذين، وأن يَمْثل الفريقان في الحياة السياسية اللبنانية كتلتين أو جبهتين وحلفين عريضين. فإذا وقعت "الحرب"، سياسية نيابية وصحافية دعاوية أو عسكرية عصبية وأهلية، وقعت بين الكتلتين أو الجبهتين والحلفين. ولكن البيان، إذا تطرق الى تسمية القوى المتحاربة لم يقع إلا على متحاربين من صف واحد، وقطب واحد، هو صف "التعددية الطائفية": فالمتحاربون هم "غلاة التطرف القومي"، و"غلاة التطرف الإسلامي"، و"غلاة التطرف الديني المسيحي" ص5. أما "غلاة التطرف العلماني"، والمنكرون على الإنتماء الطائفي "حقه في أن يعبر عن نفسه في المجال العام، خصوصاً في مؤسسات الدولة"، فلا يراهم القارئ، ولا يراهم موقعو البيان، عصبية أو طائفة مقاتلة. ولا يُرون، من أي جهة رأى الواحد الى المنظر السياسي والإجتماعي اللبناني، لا مقاتلين، ولا قادرين على تأليب حزب مقاتل وراءهم. ويعجز مستذكر حوادث التاريخ اللبناني، القريب والبعيد، عن الدلالة على حادثة واحدة كان فيها "غلاة التطرف العلماني"، أو كان فيها علمانيون وأنصار "المواطن - الفرد"، من غير غلو ولا تطرف، سبباً في مشادة فكرية أو صحافية، فكيف يكونون سبباً في معضلة التجربة اللبنانية كلها. وتبعث غرابة هذا التصنيف، وأصحاب البيان يديرون عليه ما ليس أقل من "الإشكالية الأساسية في الحياة الوطنية"، تبعث القارئ الحائر الى تأويل التصنيف الغريب هذا كنايةً عن معنى لا يريد البيان الإعراب عنه وتسميته بالإسم. فقد يتزيا المسيحيون، وكتلهم الكثيرة، بزي العلمانية والمواطنية الفردية. وهو زي يقسرون عليه قسراً. فمعظم جماعاتهم السياسية ليست أضعف تعصباً أهلياً وطائفياً من الجماعات السياسية الإسلامية. ولا يخفى التعسف في حمل مقاتلي "النمور" من حزب الوطنيين الأحرار، الشمعوني، أو حمل فرق "التيوس" و"الصدم" وثكنة الشالوحي و"المردة" والبشرانيين، على الغلو العلماني. وإذ تناول البيان الحادثة الكبيرة في الفصل الاخير من تاريخ اللبنانيين، وهي الحروب الملبننة منذ غداة هزيمة حزيران يونيو 1967 إلى يومنا، عالج ص6-7، ثانياً - تجربة الميثاق الوطني هذه الحادثة بإخراجها من سياقاتها الدولية والعربية والداخلية كلها. فصلبها على صليب "عامل خارجي" اقتصر على قيام الدولة العبرية، وعلى صليب "عامل داخلي"، من خشبتي الميثاق الطائفي و"فلسفته التعددية" "في علم الإجتماع السياسي" - وليس في العلوم السياسية المحض؟ أو في فلسفة الدولة؟ أو في الأناسة السياسية؟، والدستور و"فلسفته الإنصهارية". وتنم معالجة الحادثة، على هذا النحو الآلي والخارجي والكفيف فالبيان لا علم له بالمسألة الشرقية وأحوالها، ولا بنظام الملل العثماني، ولا بترنح "النهضة" العربية ونقائضها الاجتماعية والسياسية والفكرية، ولا بأزمات الدول الوطنية، ولا بالحرب الباردة... تنم المعالجة بانقياد البيان للرأي العروبي، وهو الرأي الشيوعي القومي والشعبوي، في هذا الفصل من تاريخ اللبنانيين. ويبدأ هذا الرأي، ولا يخلص، من حتمية "الحرب الأهلية" في لبنان، ما دام لبنان، "اللبناني" إذا جاز القول أي لبنان المستقل بدولته وهيئته السياسية، قائماً على خصائص تاريخه وعلى انفراده بهذه الخصائص. ويسلم هذا الرأي بتتويج حلقات الحروب المتناسلة في العقود الثلاثة الاخيرة، على اختلاف قواها ومبانيها ومحاورها ومطاليبها وإنجازاتها، مجرى الحياة السياسية والإجتماعية اللبنانية. فهذا المجرى، بحسب الرأي العروبي أي السوري على ما يقول الشيخ شمس الدين، حبل بهذه الحروب حبل السحابة بالمطر. وينكر الرأي العروبي، على هذا الوجه، أمرين: أولهما خوض اللبنانيين حوادث تاريخ طويل من الأزمات من غير الوقوع في التقاتل الداخلي المزمن" وثانيهما تخبط الدول العربية المشرقية، أو "دول الطرق" اختصاراً، في معضلات بناء وشرعية وإدارة وَلَدت، وما زالت تلد كل يوم، منازعات أهلية وملية وقومية واجتماعية وسياسية لا تحصى، وتعصى الحل، وهي ليست موشكة على فصل الختام ولا مسكه. فلا ينتبه أصحاب البيان إلى البنيان اللبناني وحده احتمل ويحتمل، الجمع بين الحرب، على مستويات متباينة من العنف، وبين مداومة حياة سياسية واقتصادية واجتماعية على قدر "مقبول" من التماسك. أما الدول التي اختبرت حروب استنزاف، نظامية، على حدودها مع الدولة العبرية، فلم تطق الإختيار طويلاً. فكان الإستيلاء على هذه "اللؤلؤة"، أو استتباعها من طريق حروب استتباع داخلية معززة، على قول بعضهم، شهوة لا تقاوم. والطريقة التي يُستعمل عليها لبنان منذ عقد تام من السنين، وبذريعة اتفاق الطائف الذي يدرجه البيان مع ميثاق 1943 في عقد واحد، تدل دلالة قاطعة على تعويل إقليمي عريض، يشفعه تعويل دولي، على ازدواج لبناني، وطني داخلي و"قومي" إقليمي، يقوم مقام هشاشة اجتماعية وسياسية وعسكرية، إقليمية، بنيانية، ويضطلع عن الدولة الإقليمية بمهمة الجمع بين ثبات طبقتها الحاكمة وأمنها وبين إسهامها في الحرب على العدو. وهذا ما يتستر عليه موقعو البيان ستراً شجاعاً ومقداماً، ويحيلونه كلاماً خطابياً على "التسوية" المجردة، و"المغايرة" الخلقية. ويحقق البيان، بعد سوابق لا تحصى، الفرق الشاسع بين وقائع الاختبار اللبناني وبين المقالات التي تتناوله وتتصدى لفهمه وتدبره وصوغ معانيه، فيجنح البيان، شأن معظم المقالات، إلى التخفف من تعقيد الوقائع، وكثرة وجوهها ودلالاتها، ويرضى بالإياب من تاريخ اللبنانيين بكلمات ومصطلحات قد تصلح لتعارف من وقعوه فيما بينهم، وبينهم وبين أصحابهم، لكنها لا تصلح، على أي وجه قلبت، وسيلة متواضعة إلى تعارف ولو جزءٍ ضئيل من الذين تقلبوا بين أظهر هذا الإختبار. * كاتب لبناني.