هناك تطور ملحوظ وضروري وايجابي في المواقف الأميركية من التطاول والاستفزاز والازدراء الذي يمارسه رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون بكل بغض وخطورة. لكن المعالجة الانتقالية لكل ما يفرضه شارون من جديد على الساحة الفلسطينية تبقى مجرد معالجة للعطب الطارئ. وما لم يجرؤ جميع اللاعبين، الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والعرب، على التطرق إلى ما تطلبه الحلول النهائية، فإنهم يغامرون بنتائج عكسية لكل ما يقومون به، وستؤخذ مواقفهم على أنها مجرد جرعة أخرى من مخدر بني الجسد العربي مناعة له. ففي يد شارون أدوات تفجير منطقة الشرق الأوسط، وتدمير التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب وبعض الفوضى في مختلف بقاع العالم بما يُسقط العديد من الأنظمة والحكومات. إنما في يد ما يسمى بالأسرة الدولية أدوات أيضاً لوقف الحماقة الشارونية لابلاغ إسرائيل ان العزل مصيرها إذا لم تستدرك أن الوقت حان لها لأخذ القرارات الحاسمة. يعجب الجميع القول إن القرار الرئيس والأهم هو في واشنطن نظراً إلى تدليل الولاياتالمتحدة إسرائيل، حتى عندما تجاوزت كل الأعراف السياسية والاخلاقية والإنسانية. واعتاد الكل على لوم الإدارات الأميركية والكونغرس لحمايتهم كل رئيس وزراء إسرائيلي، مهما بالغ وتجاوز، لأن إسرائيل أهم، في الاعتبارات الأميركية، من أي شريك آخر. ويكرر كل معني بهذا الملف أن واشنطن هي التي استفردت بعملية السلام، ومنعت مجلس الأمن من "التدخل" في النزاع العربي - الإسرائيلي. وهذا صحيح. هكذا كانت الحال. أما الآن فالمعادلة تختلف على أكثر من صعيد. فمواقف واجراءات شارون الهمجية ضد الفلسطينيين تتلقاها قطاعات شعبية وحكومية مهمة في الولاياتالمتحدة من منطلق العلاقة الأميركية - الإسرائيلية وتنظر إليها على أنها صفعة لأميركا واستهتار بمصالحها الوطنية، وتعتبرها خالية من الاعتراف بالجميل. قطاعات مهمة، إنما ليس جميع القطاعات. فالانقسام يقع داخل الإدارة الأميركية، وداخل الكونغرس، وبين الكونغرس والإدارة، وعلى مستوى الرأي العام. والضغوط التي تمارسها القوى الموالية لإسرائيل ضخمة. على رغم هذا، برزت مواقف أميركية متتالية أولى من نوعها نحو إسرائيل، اخرها مطالبة شارون بسحب القوات الإسرائيلية من المناطق الفلسطينية التي أعادت احتلالها. شارون لم يهرول لتلبية المطالبة الأميركية التي عبر عنها الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول، بل إنه عمّق وعزز الاحتلال الجديد وأرفقه بمجزرة. ان تصر الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا على الانسحاب الفوري لقوات الاحتلال هو أضعف الايمان، وهو ضروري أقله لهيبة أميركا التي وجه شارون لها ضربة علنية، علماً بأنه استقوى واستهزأ بالأطراف الدولية الأخرى تكراراً على أي حال. كان في ذهن شارون على الأرجح، الانسحاب على كل حال، إنما بعد اتمام مهمته الشنيعة. وبالتالي، ليس في عودة إسرائيل عن الاحتلال الجديد انجاز يمكن للأسرة الدولية أن تزعمه. فنزع الفتيل لقنبلة لا يعني كثيراً إذا كانت الألغام مكدسة في الساحة، وإذا ارتأت الأسرة الدولية أن مصلحتها المباشرة تتطلب منها اليوم وفوراً اجراءات جذرية، فكل منها مطالب بنصيبه من المغامرة والاستثمار. الاتحاد الأوروبي لعب دوراً "مكملاً" للدور الأميركي، باعترافه وبقراره، وابتهج كثيراً عندما استبدلت واشنطن استبعاده بدعوته إلى الشراكة. لربما كان الاكتفاء بالابتهاج قبل 11 أيلول سبتمبر مقبولاً نسبياً. لكن اليوم عهد آخر، وعلى الدول الأوروبية أن تفعل أكثر من الدور "التكميلي" والامتنان لواشنطن. عليها أن ترفق دورها في العملية السياسية ب"أسنان" ، وواشنطن قد تقدّر لها ذلك. فأي ضغط أوروبي على إسرائيل يساعد الأقطاب الأميركيين الذين يرون في ضغط واشنطن على تل أبيب ضرورة ملحة الآن. وبالتالي بدلاً من التخوف من الرد الأميركي، أو الافتراق عن الولاياتالمتحدة، عند ممارسة الضغوط الملموسة على إسرائيل، على الدول الأوروبية أن تدرك أمرين: أولاً، أن الضغط الأوروبي يساعد ولا يُحرج أميركا. وثانياً، ان المصلحة الأوروبية بحد ذاتها، بعد 11 أيلول، تقتضي ممارسة هذا الضغط بدل الاكتفاء بالتلاعب على الألفاظ. والمقصود تماماً هو الضغط الاقتصادي. ففي العلاقة الاقتصادية الأوروبية - الإسرائيلية أدوات فاعلة، ارتأت أوروبا في الماضي دفنها تحت السجاد كي لا تضطر للأفعال طالما كانت الأقوال كافية. أما الآن فلم تعد للمواقف الأوروبية أي قيمة جدية ما لم تقترن بشن سلاح العقوبات الاقتصادية على إسرائيل، ثنائياً وجماعياً. فلا مبعوث أوروبا إلى الشرق الأوسط كافياً الآن، ولا أي بيان ولا لقاء ولا تصريحات. هذا لا يقلل من أهمية استقبال رئيس الوزراء البريطاني، مثلاً، توني بلير الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وإعلان بلير ضرورة قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. لكن بريطانيا، إذا شاءت أن تلعب دوراً جدياً، فإن ميزة علاقاتها الثنائية مع الولاياتالمتحدة تمكنها من ابلاغ واشنطن بأن المصلحة المشتركة العالمية تقتضي اليوم الحزم مع إسرائيل، واستخدام الضغوط الفعلية والعملية عليها، والتوقف عن المعالجة الانتقالية، والإقدام على حسم نتيجة المفاوضات وخلاصتها بقيام دولة فلسطينية، وانهاء الاحتلال على حدود 4 حزيران يونيو 1967، بلا مستوطنات ولا مقايضة ولا بدعة لمعالجة هذه الناحية أو تلك. كذلك الأمانة العامة للأمم المتحدة عليها القيام بدور يتعدى الحذر التقليدي الذي ميّز الأمين العام كوفي أنان. فهذا وقت لا نؤاخذ عليه إن لم نتنبه لكل شاردة وواردة في مستقبل الأمين العام وعلاقاته بواشنطن أو بالقاهرة أو بعمان، إلى جانب علاقاته بإسرائيل والسلطة الفلسطينية. ما يميّزه هو صلاحية التحدث باسم الشرعية الدولية. لقد جرت العادة أن يتحدث الأمين العام بصوت أكثرية اعضاء الأممالمتحدة، وليس بصوت يأخذ دائماً في الحساب المواقف الأميركية. مهماته في هذا المنعطف تتطلب منه الإقدام بجرأة لإبراز الصلاحية الشرعية والاخلاقية المنوطة به. وبهذا هو أيضاً يساعد الإدارة الأميركية، إذ أنها بحاجة إلى ضغوط دولية عليها كي تتحصن داخلياً لممارسة الضغوط الفاعلة على إسرائيل. وأقل ما على الأمين العام إعلانه وتكراره هو ضرورة ازالة الاحتلال كاملاً وحق تقرير المصير للفلسطينيين وإقامة دولتهم المستقلة. أما روسيا، المقبلة الجديدة على دور في النزاع العربي - الإسرائيلي، تبنته راعية لعملية السلام وأهملته في التهائها بأولوياتها، فقد حان لها أن تحسم هويتها. وإذا شاءت، فإنها قادرة على لعب دور مميز أيضاً مع إسرائيل ومع الدول العربية، وكذلك بوضع المسألة بين أولويات محادثاتها مع واشنطن. والدول العربية، كما السلطة الفلسطينية، ليست معفية من المسؤولية المباشرة في أية مساهمة لنقل الملف إلى عتبة جديدة. وهذا لا يأتي عبر لعب دور الضحية باستمرار، بل عبر الجدية في الطروحات المتكاملة الواضحة، وفي صلب العلاقة، الثنائية والجماعية مع الولاياتالمتحدة. فكما تُطالب واشنطن بإعلان مفهومها لخلاصة المفاوضات ونتيجتها النهائية، كذلك السلطة الفلسطينية والحكومات العربية، مطالبة بالبوح الواضح لمفهومها لنتيجة المفاوضات وخلاصتها. ولا تكفي نقمة الرأي العام. أما نقمة الفرد العربي، إذا كانت هدفاً بحد ذاته، فهي انتقام من الذات، واستسلام الفرد العربي، إذا كان وسيلة التعاطي مع الوضع الراهن، فهو تسليم أمره ربما لجبن أو غباء. فلا قلة في آراء الرأي العام العربي الغزيرة. القلة في نقل الحديث، وكذلك النقاش، من مرتبة التخوين والمرارة والشتيمة إلى مرتبة البحث في الخيارات وكيفية توظيف الفرص المتاحة. ولربما كان مقبولاً نسبياً في زمن الاعتياد على القرف من الوضع الراهن والاكتفاء بالقبوع في ظله، لأن الأكثرية العربية أقنعت نفسها بأن "ما في اليد حيلة". لكن الآن، لم يعد هذا النوع من الاختباء مقبولاً لأنه عملياً مساهمة خطيرة في مستقبل المنطقة والأجيال. فالقطاعات الكبيرة والمهمة في الولاياتالمتحدة التي تريد سياسة أميركية جديدة نحو إسرائيل والعرب تتطلع إلى فهم الرأي العام العربي وترى أن مصلحتها الوطنية تقتضي إعادة النظر في سياسات الماضي واستبدالها بسياسات أكثر عدلاً وتنبهاً وتماسكاً. هذه قطاعات يخطئ العرب في تجاهلها وهم منغمسون إما في نرجسية الضحية - التي قد تكون أسوأ من نرجسية التفوق - أو في متعة التهجم الدائم على أميركا، لأن فيها تنفيساً عن عجز الرغبة في التعبير عن الاحباط من عوامل داخل البوتقة العربية. فالرأي العام العربي مطالب بأن يبوح بما يريد بدلاً من الاكتفاء بالصراخ أو بالصمت على مصادر احباطه. ولأن هذه مرحلة تتطلب منتهى الصراحة، فإن هذا الرأي العام الذي ربض وراء ما اطلق عليه لقب "الشارع"، أكثر من المراوغة ودفن الرأس في الرمال بشعوب العالم أجمع فعلت شيئاً في العقدين الماضيين لتقرر مصيرها. فما بال هذا العالم العربي الذي يرفض تقرير المصير؟ أميركا مطالبة بفرز جذري لسياساتها الخاطئة. ومن مصلحتها، ومصلحة العالم، أن تفعل ذلك الآن. إنما أطراف أخرى عليها المساهمة. فقد فات عهد الهروب إلى الأمام.