في فرنسا، يبدو ان كل شيء لم يقل بعد عن حرب الجزائر. ما زالت الأسئلة تطرح والتاريخ ينبش في بحث صعب عن الحقائق. حقائق يطالب البعض بها ويحاول البعض الآخر تناسي اوجاعها وفظائعها. قضية شائكة وحساسة، وموضوع خلاف عميق بين الفرنسيين لا يزال النقاش فيه يثير الجدل. تبدو الجزائر لكل هؤلاء الذين مرّوا على ارضها مرتع الذكريات، ومكاناً ارتبطوا به. فما بين الفرنسيين الذين حاربوا، والجزائريين الذين انضموا اليهم ويدعون بالحركيين، وجماعة الأقدام السود، وهم الفرنسيون الذين ولدوا في الجزائر وأجبروا على مغادرتها مع الجيش الفرنسي بعد ان خيّروا حينها بين "الحقيبة" او "التابوت" وغير هؤلاء من الذين قضوا سنوات هناك كموظفين تابعين للدولة الفرنسية، بين كل اولئك، الكثير مما يجمع وما يفرّق. ما الذي دفع الحركيين الى الانضمام الى الجيش الفرنسي؟ يتساءل احد الضباط الفرنسيين في كتاب صدر اخيراً، أكانوا مجبرين من جانب الفرنسيين ام ان عدم رغبتهم في الانضمام الى جبهة التحرير هي الدافع؟ يعيش الحركيون، ومنذ قدومهم الى فرنسا، على هامش المجتمع الفرنسي. فبعد معاملتهم كخونة، والمذابح التي تعرضوا لها تحت انظار الجيش الفرنسي، كما يقولون، من جانب جبهة التحرير الوطنية، تم ترحيلهم بعد الاستقلال عام 1962 "ووضعهم" في احياء خارج المدن والقرى الفرنسية، إذ لم يسمح لهم بالاندماج مع محيطهم. فعاشوا في عزلة الى اليوم، حتى ان عدداً منهم لا يتكلم الفرنسية. وفي ايلول سبتمبر الماضي، قرر بعضهم رفع دعوى قضائية على الدولة الفرنسية واتهامها بارتكاب "جريمة ضد الانسانية" لمعاملتها السيئة لهم، وللتهميش الذي تعرضوا له، وما زالوا، وبسبب تناسي الخدمات والتضحيات التي قدموها لفرنسا ... لقد عبّر الحركيون عن رغبتهم في نيل الاحترام والمكانة في هذا البلد الذي اختاروه، ولعله السبب الذي جعل الرئيس الفرنسي جاك شيراك يخصص الخامس والعشرين من ايلول الماضي يوماً تكريمياً لهم. فتم استقبالهم وعلّق الأوسمة على صدور بعضهم، ما اعتبر بداية اعتراف بهم ونوعاً من ردّ الدَين "للأبناء الذين لم تعرف فرنسا انقاذهم". وردّ الدَين، يأتي كذلك من اطراف اخرى، ونحو جهات اخرى. ففي هذا الموسم الأدبي الفرنسي، الذي تكثر فيه المطبوعات، يلفت انتباهنا خلال تجوالنا في المكتبات كثرة وتنوّع الكتب المصوّرة والوثائقية، التاريخية والأدبية والتي تحكي فظائع حرب الجزائر ومآسيها، والقمع الذي لقيه الجزائريون على يد الجيش الفرنسي، والحركيون على يد الجبهة، ومعاناة الأقدام السود بعد العودة ... تبدو المعاناة والمرارة في كل هذه الكتب المصفوفة وتبدو الرغبة في قول الحقائق وما لم يقل بعد والسعي الى المعرفة وتحليل ما جرى، هو الهدف الذي يسعى نحوه الفرنسيون الذي لا يكتفي البعض منهم بما يصله من معلومات، وإنما يبقى في بحث مستمر عن الحقيقة، وعن مسؤوليته، يشاركهم في ذلك ايضاً الجزائريون. جيل شاب، يسهم الآن بدوره في تحرياته. كما هي الحال بالنسبة الى الكثير مما نشر وينشر عن "التعذيب والجيش خلال حرب الجزائر". كتبت مؤرخة شابة تدعى رافائيل برانش: "ثمة حقيقة اخرى وراء الجنرال اوساريس الذي قام بتصفية بن مهدي، وهي الجنود الصغار ممن لا رتبة لهم، اولئك الذين كانوا يقبعون في الظل، والذين قاموا بتصفية الجزائريين العاديين القابعين مثلهم في الظل". فخلف الكبار الذين يغتالون الكبار كان الصغار يقومون بالعمل نفسه ولكن الضحية كانت من الجزائريين الذين لا اسماء كبرى لهم. ومن هؤلاء الضحايا ربما، انطلقت المؤرخة تبحث في ارشيف الجيش الفرنسي. الكيفية التي عمل بها، تعليماته، طريقة استدعائه للجنود، وكيف كان يدربهم على مهنة ليست في الأصل مهنتهم بتحويلهم الى جلاّدين ومدمّرين، ليس للآخرين فقط، بل لأنفسهم ايضاً. وتأتي شهادة حية موثّقة من زوجين عايشا تلك الفترة وحاولا بشتى السبل عام 1956 تقديم ما جمعاه من وثائق وشهادات لمنظمة الأممالمتحدة لإثبات ان السياسة العامة لفرنسا في الجزائر، "كانت انتهاكاً صريحاً لميثاق الأممالمتحدة". في شهادتهما الدليل الى قيام الفرنسيين بالتعذيب والقمع والاغتصاب والسرقة والاغتيال، وذلك منذ بدء الخلاف. ويوردان رسالة من موفدين جزائريين بعد ثلاثة اسابيع من بدء العصيان المسلح في 1954 الى فرنسوا ميتران، الذي كان آنذاك وزيراً للداخلية، يرجوانه فيها "وقف القمع حتى لا تدوم سيطرة العنف". وكتاب "الجزائر 1956 الكتاب الأبيض حول القمع" لم يقدر لصاحبيه دنيز وروبرت بارات نشره في حياتهما. فالزوج تعرّض للاعتقال في 1960 فيما تعرضت الزوجة الى سلسلة من التحقيقات العنيفة. وبعد محاولات لم تكلل بالنجاح قامت بها دنيز بارات لنشر الكتاب بعد وفاة زوجها، تركت لأولادها المهمة فقاموا بالنشر بعد مرور خمس سنوات على وفاة والدتهم، وإثر تصريحات الجنرال اوساريس عما ارتكبه الجيش الفرنسي في الجزائر، تلك التصريحات التي كان لها وقع الصدمة ليس فقط على ابناء بارات، وإنما على الكثيرين غيرهم، ممن صعقوا لعدم إبداء الجنرال ندمه لما قام به من عمليات تعذيب. وكان ذلك التصريح هو الحافز الذي دفعهم الى افراغ كل صناديق والديهم، وقراءة ما فيها من وثائق "لنضع امام التاريخ كلمات الأبوين من داخل قبريهما" كما قال باتريس بارات الإبن الذي قام بنشر الكتاب، مضيفاً ان الكتاب ليس فقط لذكرى والديه، بل لأن الاكتفاء بالتوقف عند تصريحات اوساريس سيكون لا معنى له "فالحاجة الى القول والرغبة في المعرفة تأخذ في هذه اللحظات كل ملامح الظاهرة الجماعية". تكتب مجلة "ماريان" الفرنسية: "ليست فقط صناديق باتريس بارات وملفات الجيش هي التي تفتح، بل كل البلد يستيقظ على ماضيه". وها هو فيلم اندريه غازوت عن الجنرال الفرنسي لابولارديير الذي تجرأ على التمرد على جيشه، يلقى استقبالاً في كل ارجاء فرنسا. يدور به مخرجه، وفي كل عرض يسهم الحاضرون من هؤلاء الذين شاركوا في المأساة ليضيفوا شهاداتهم. هذا الفيلم الوثائقي قوطع من جانب كل القنوات الفرنسية وهناك اكثر من اربعين فيلماً صوّر عن الجزائر. فرنسيو الجزائر منذ 1830 وحتى اليوم هم صفحة ممزقة من التاريخ، كما تقول المؤلفة جانين لورو. ان الولادة على مرتفعات تيبازا وليس في سانت اتيان في فرنسا "لهو ضربة من الحظ تلقيناها بكل امتنان" ويشعر بها كل من ولد وعاش على هذه الأرض الرائعة من الفرنسيين، الى حين حدوث "المأساة" التي تمثلت في مغادرتهم. اعتبر فرنسيو الجزائر، انه جرى التخلي عنهم من كل الاطراف. لقد أحسّوا بالأسى لفقدانهم ما كانوا يعتبرونه بلدهم. وأجبروا على الرحيل ليجابهوا فرنسيي فرنسا الذين قابلوهم بمشاعر العداء. ويشارك ضابط سابق من الوحدات الخاصة للجيش الجزائري حبيب سويدية بشهادته، محاولاً في كتابه "الحرب القذرة" كسر جدار الصمت، وإبراز احدى المحرمات وهي "طريقة عمل الجيش من الداخل". فأورد ما شاهده من فظائع ارتكبت امامه من جانب الجيش وسجّلها يوماً بيوم، كما يقول منذ 1992. وقرر بعدها المغادرة الى فرنسا والعيش فيها.