تقطر الشِعرُ، طوال القرن العشرين، تجارب حتى انه كان يضطر الى ان يستجيب لكل المتطلبات... ولكن بطريقته هو، فلم يصبح ايقاعها، بل استبقها، كما تنبأ رامبو. عانى الشعر كل الكوارث، الحروب والطوباويات... مرّ بكل الاكتشافات اللغوية، العلمية والشكلية، بل حتى شهد بيانات موته... لكنه ظل يتراءى وكأنه رحالة يبحث بلا كلل عن الحقيقة التي يقال انها اخفيت في بئر. فهو، آتياً من أفواه الذين كان يُنظر اليهم كمستسلمين، فرديين، مرضى ومنعزلين، لم يتوان عن ملاحقة الأفكار حتى المتاريس منبّهاً اياها من الايديولوجيات، من اضغاث الأحلام، من الوقوع في مطب الشعارات البراقة. أمس، كشّرَ الحلم الشيوعي عن وجهه الكابوسي المميت، استبدلت الحروب الشمولية بحروب محلية مسيطر عليها عالمياً. انحسر الخطاب الفلسفي، انتصرت وسائل الإعلام في بهدلة اللغة، تحول البشر الى مجرد متفرجين على مشهد بؤسهم وتفاهة حياتهم، فليكن. فهذا لن يحرك في الشعر ساكناً. إذ هو أول من كان يعلم ان هذا الانهيار الشامل لجدران تخفي وراءها جدراناً، حاصل. وإلا كيف سنفسر النزعة التشاؤمية السارية في جسد الشعر منذ عشرات السنين. اليوم: على شبكية مع عدو بلا وجه: آلاف الضحايا يتكدسون مشهداً غرضه افراغ الأعين من قدرة النظر الاستشفافية، التطلعية نحو مسافات حلمية أبعد: انها حرب المستقبل الباردة حيث المكتوب ينتظم وفق قوانين الانترنت، والمعاش تحت بُؤر مسيري العالم نحو الهلاك. ومع هذا فإن الشعر لا يزال هو، أي ذلك المجهول البلا حدود" الفالت من كل رقابة ساكناً مخيلة البشر، وكأن شيئاً لم يحصل. لكن، شيئاً ما حدث فعلاً: تخلص الشعر من كل ما يريد ان يضعه في خدمة أغراضه. ذلك لأن الشعر، بفضل كل التجريبات الطليعية التي اجتازها، تعلّم: 1 - أن الشاعر ليس بريئاً في علاقاته باللغة. فهو ينثر مفرداتها على عراء الصفحة، يفكك التركيبة الاجتماعية التي ترتكز عليها اللغة. وهو بتشريب الصورة بالفكرة ومن ثم غربلة هذه الفكرة بغربال الوجدانية القلقة، يستنطق ذاكرة اللغة، فينجلي تاريخ الواقع كله وبخاصة ماضي الشاعر نفسه. 2 - ألا ينسى أنه تركيبة الإنسان، تختلط فيه الأجناس، وكل يحافظ فيه الى الأبد على نواته الكوسموبوليتية. 3 - أنه فعلٌ لغوي، ولأنه "شكل من أشكال ترائي اللغة"، فتصميمه يضمن للتعبير اقامة كونية. 4 - وبما انه كلام موجه الى لا أحد، الى قارئ مستقبلاً، فإنه دائماً في مكان ما، في قبلة، في صرخة طفل، في لافتة، أو في شارع خلفي: إذ يكفي ان يأتي الليل فتنهض كلمة رجل ينام امرأة تغادر فراشها والعالم قصيدة.