تكبد الفلسطينيون في ثلاثة شهور من عمر الانتفاضة خسائر بشرية عزيزة لا تعوض ولا تقدر بثمن، تعادل تقريباً ثلث تضحياتهم في انتفاضتهم السابقة التي استمرت سبع سنين، ولحقت بهم خسائر اقتصادية كبيرة طاولت جميع فئات المجتمع، باستثناء فئة الموظفين. هذه الخسائر يصعب تعويضها في مدى زمني قصير من دون مساعدات خارجية كبيرة ومن دون تحمل الرأسماليين الفلسطينيين مسؤولياتهم الوطنية، اذ أصبح معظم العمال وصغار المزارعين يعانون فقراً حقيقياً ويحصلون على قوت يومهم من التجار ديناً أو مما يقدمه الميسورون والجمعيات الخيرية في سياق التضامن الاجتماعي والصدقات. ويردد المتظاهرون في مسيراتهم دعوات التضامن الاجتماعي: "يا رمضان جايي عيد/ لا تنسو أهل الشهيد. في جريح في شهيد/ علينا واجب بالتأكيد/ قسماً قسماً ما ننسى أهلك يا شهيد". بالمقابل حصد الفلسطينيون في زمن الانتفاضة ثماراً كثيرة ثمينة بعضها نضج وقطفوه، وبعضها الآخر لم ينضج بعد. اقتنع الناس في الضفة والقطاع: فقراء وأغنياء، عمالاً وأرباب عمل، حزبيين ومستقلين، بأن "الانتفاضة" هي الخيار الوحيد الباقي لحماية حقوقهم الوطنية والإنسانية وانتزاع حريتهم واستقلالهم وطرد الاحتلال من أرضهم وإقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع. فهم مستعدون لتحمل الصعوبات، ويخشون تسرع المفاوض الفلسطيني في قطف ثمار انتفاضتهم قبل نضوجها. ويستذكرون بقلق مرونة المفاوض الفلسطيني وقلة صبره في المرحلة الانتقالية، ويحملونه مسؤولية تبديد حقوق مهمة حصلوا عليها في الاتفاقات، وبخاصة تنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب، وتنظيم عودة النازحين إلى أرضهم وممتلكاتهم... الخ. وأول ثمار الانتفاضة الناضجة هو استعادة الوحدة الوطنية بعد التصدع الكبير الذي أصابها اثر توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. فالانتفاضة وما رافقها من تحركات في صفوف اللاجئين أزالت خطر انقسام الشعب بين داخل وخارج. وفي زمنها تراجعت نغمة لاجئين ومواطنين، عائدين ومقيمين، كذلك الانقسامية التي طبعت مرحلة تشكيل السلطة الوطنية في العام 1994، ودخول قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى المدن الفلسطينية واسنادها معظم الوظائف الحساسة الى الكوادر العائدة. وتأكد اللاجئون والنازحون، في الداخل والخارج، أن عملية السلام لم تقف على قدميها على حسابهم، كما روّج بعض القوى السياسية، وان حقوقهم لم تندثر ولا تزال محفوظة. وانخرط الجميع في بوتقة النضال ضد الاحتلال، باستثناء "أنصار الثنائية الفلسطينية - الإسرائيلية"، الذين خفتت أصواتهم وتراجعت نشاطاتهم وغابوا عن الظهور في الشوارع أثناء التظاهرات ولم يعودوا يتصدرون الأخبار. ويردد ناس الانتفاضة في مسيراتهم، رجالاً ونساء وأطفالاً، حزبيين ومستقلين: "وحدة وحدة وطنية/ وحدة إسلام ومسيحية"، و"وحدة وحدة وطنية/ حماس وقوى وطنية/ هي الرد على الهمجية". صحيح ان اللاجئين والنازحين وغالبية الفلسطينيين فقدوا ثقتهم بقدرة عملية السلام الجارية، وحدها، على استرداد كل حقوقهم التاريخية، ويعتبرون استمرار المفاوضات عبثية، خصوصاً بعد انحياز الراعي الأميركي، وتلاعب القيادة الإسرائيلية بالاتفاقات واستهتارها بتواريخ تنفيذ التزاماتها، وإصرارها على الاستخفاف بالطرف الفلسطيني كشريك في عملية السلام ومحاولة اذلاله أمام جمهوره وأمام العالم. إلا أن آمالهم انتعشت في زمن الانتفاضة، خصوصاً أن قضيتهم عادت تتصدر واجهة الأحداث وباتت محوراً رئيسياً في المفاوضات والتحركات الاقليمية والدولية. ويردد المتظاهرون في مسيراتهم: "يا مفاوض يا وزير/ لا تستهتر بالجماهير. يا مفاوض يا وزير/ الحساب كبير كبير/ من الشهداء والجماهير". وأياً تكن مواقف المعارضة من المشاركة في السلطة الوطنية، بشقيها التشريعي والتنفيذي، فالانتفاضة طهّرت علاقة الطرفين من شوائبها وحلّت بعض عقدها المستعصية، وجسّرت الى حد كبير علاقة السلطة مع الشارع وقوى المعارضة بمختلف اتجاهاتها وميولها السياسية والعقائدية. وحررت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من تهمة الرضوخ للضغوط الأميركية والخضوع للشروط الإسرائيلية والتفريط بالحقوق الوطنية، التي لبستها ابان المرحلة الانتقالية الطويلة، وتأكد أهل الانتفاضة، بعد فشل قمة كامب ديفيد الثلاثية ومشاركة مؤسسات السلطة في الانتفاضة، من أن القوى المتنفذة في السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية غير مستعدة للتفريط بالحقوق الفلسطينية الأساسية التي أكدتها قرارات الشرعية الدولية. وان اتفاق أوسلو وكل اتفاقات وتفاهمات السلام التي تمت في المرحلة الانتقالية لم تبدد حقوقهم. و"قيود أوسلو" لم تمنع قيادة السلطة من الدخول في مواجهة مكشوفة مع القيادتين الإسرائيلية والأميركية دفاعاً عن هذه الحقوق الوطنية. صحيح أن خلافات أطراف النظام السياسي الفلسطيني، الجوهرية، حول عملية السلام وحول الاتفاقات التي انبثقت عنها لا تزال قائمة، إلا أن الانتفاضة والمواجهات اليومية والتضحيات المشتركة، أزالت بعض المفاهيم غير الديموقراطية التي حالت لسنوات دون توحد قوى الحركة الوطنية والإسلامية حول ما يتفق عليه في النضال ضد الاحتلال واستمرار الحوار حول بقية القضايا فيها. وجمدت الأحزاب والحركات السياسية المتدينة والعلمانية مظاهر خلافاتها السياسية والحزبية النافرة، واستعاد بعضها روحه الكفاحية في الحقلين السياسي والاجتماعي وبرز نشاطه الميداني ضد الاحتلال وأدواته. وإذا كانت أجهزة الأمن الفلسطينية لم تدخل رسمياً، حتى الآن، في معركة عسكرية مباشرة ومكشوفة مع قوات الاحتلال والمستوطنين، فالناس في الانتفاضة يسجلون لهذه الأجهزة سهرها على أمن المناطق الوطنية وحمايتها من عبث المستوطنين والمستعربين، ويطالبون بضرب العملاء بيد من حديد بعد أن ثبت تورط بعضهم في اغتيال عدد من نشطاء الحركة الوطنية. ويعتبرون مواقف القيادتين السياسية والأمنية الإسرائيليتين من قادة وكوادر الأجهزة الأمنية، عدوانية وخطيرة، ويعتبرون ارتكابها مجازر وحشية ضد عدد منهم واتهامهم بالتورط في أعمال قتالية مباشرة ضد المستوطنين وضد أهداف عسكرية إسرائيلية في الضفة والقطاع وتسهيل قيام أطراف فلسطينية أخرى بمثل هذه الأعمال... الخ، شهادة من العدو على الدور الفاعل الذي تقوم به هذه الأجهزة في الانتفاضة. وأظن ان تحرك ناس الانتفاضة في مسيرات ضخمة لحماية مراكز أجهزة الأمن في رام الله وقطاع غزة من القصف المدفعي الإسرائيلي وغارات الطيران، يبين مستوى تطور علاقة الطرفين في زمن الانتفاضة. وفي زمن الانتفاضة ظهرت وحدة الفلسطينيين في إسرائيل كأقلية قومية بأروع صورها، وصنعوا أنبل وأهم ظاهرة عرفها الصراع العربي - الإسرائيلي منذ عام 1948، وظهروا أشد تمسكاً بانتمائهم القومي من أي وقت مضى. وبرهنوا بالملموس انهم جزء حيوي من الجسد الفلسطيني الذي إذا اشتكى عضو منه تداعت لنجدته بقية الأعضاء، وإذا كانت حلول القيادة الإسرائيلية لمعضلة الوجود العربي الكثيف في إسرائيل غير واضحة إلى الآن، فثمار هبتهم بعد زيارة ارييل شارون للمسجد الأقصى أواخر أيلول سبتمبر الماضي بدأت تأتي أكلها، لجهة تحسين أوضاعهم واسناد مواقف القيادة الفلسطينية في المفاوضات. وأدرك الإسرائيليون أن تحرك العرب في إسرائيل تم على خلفية قومية، وان كسب أصواتهم في الانتخابات يتطلب زوال التمييز العنصري الممارس ضدهم، وحل قضية أهلهم اللاجئين حلاً عادلاً، وحصول اخوانهم في الضفة والقطاع على حقوقهم وفي مقدمها إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. ومهما كانت آراء المحللين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين والأجانب في قيمة الوحدة الوطنية كثمرة من ثمار الانتفاضة، أرى أنها تصلح كقاعدة لانطلاقة جديدة نحو تعزيز الديموقراطية كنظام رئيسي ثابت بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في الداخل والخارج. ولعل اعتماد مبدأ "وحدة صراع وحدة" في إطار منظمة التحرير يرسي هذه العلاقة على أسس ديموقراطية أكثر تطوراً ويعطي لكل ذي حق حقه في الاحتفاظ بقناعاته الفكرية ومواقفه السياسية من الأحداث الكبيرة التي تعصف بالقضية الوطنية. والشروع في اعتماد هذه القاعدة وهذا المبدأ الديموقراطي يفرض على الجميع مراجعة الذات والتخلي عن المواقف والأحكام المسبقة، والقيام بنفضة سياسية تنظيمية داخلية واسعة تطهر الأوضاع من رجس المرحلة الماضية وآثامها المتنوعة، خصوصاً الانقسام والترهل النضالي والاستهتار برأي الشارع وتغليب المصالح الذاتية الضيقة، الحزبية والشخصية، على المصالح الوطنية العليا. وإذا كانت هذه القوى - سلطة ومعارضة - لم تعود الناس على نقد الذات والاعتراف بالأخطاء السياسية الصغيرة والكبيرة التي ارتكبتها في سياق النضال، فقد بدأت ترتفع أصوات حزبية وشعبية كثيرة وازنة تطالب بدمقرطة الحياة السياسية والحزبية وتجديدها. وأظن ان منظمة التحرير ومؤسساتها كانت ولا تزال الإطار التنظيمي الأنسب والأصلح لتوحيد جهود وطاقات جميع قوى الشعب في الداخل والخارج في مواجهة الاحتلال. وتجربة سبع سنين من عمر السلطة الوطنية وبدء التفاوض حول قضايا الحل النهائي، خصوصاً قضية اللاجئين، تؤكد أهمية احياء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وازالة كل التحفظات حول العمل تحت راياتها. وفي كل الأحوال، تبقى منجزات الانتفاضة في مجال الوحدة الوطنية ثمرة ثمينة حان وقت قطفها ووضعها على طاولة المفاوضات، وادخالها حساب الربح والخسارة في ميزان أي اتفاق فلسطيني - إسرائيلي جديد. وإذا كان التسرع في قطف بعض الثمار غير الناضجة خسارة، فالتأخر في قطف ثمرة الوحدة الوطنية الناضجة خسارة وطنية كبيرة. فهل ستنهض القوى الوطنية والإسلامية بالمهمة أم ان تحفظ بعضها على المشاركة الضرورية في التحركات السياسية الجارية سيحول دون ذلك؟! * كاتب فلسطيني.