في كل اجتماعاته الداخلية واتصالاته الاقليمية والدولية يحمّل ايهود باراك السلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات مسؤولية تفجير "العنف الجاري في المناطق" وضمنها ما يتم في الأراضي الخاضعة لسيطرة القوات الاسرائيلية. ويرفض رئيس الوزراء الاسرائيلي الاعتراف بأن تلاعبه بالاتفاقات ومحاولة إذلال القيادة الفلسطينية وفرض مفهومه للتسوية، وتطاوله على الأماكن الفلسطينية المقدسة، هي التي فجرت هذه الأحداث العنيفة، ودفعت الشعب الفلسطيني الى الخروج من زاوية اليأس والقنوط من عملية السلام، والنزول للشوارع، والقيام بدور مباشر في تحقيق تطلعاته نحو الخلاص من الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال، واسناد سلطته في رفضها الخضوع للشروط المذلة. ويعتقد باراك ان رئيس السلطة الفلسطينية قادر على وقف "العنف" اذا أراد، ومتى شاء، ويطالب العالم مساعدته في الضغط على عرفات، وحمله على اصدار أوامره بإعادة الأوضاع الى ما كانت عليه قبل انفجار الانتفاضة في 29/9/2000. وبدلاً من البحث عن حلول سياسية واقعية للأزمة، والإقرار بأن واقعاً جديداً قد نشأ بعد خمسين يوماً من الصدامات الدموية، يصر باراك وأركانه العسكريين ومستشاريه السياسيين على إعادة عقارب الزمن الى الوراء، ويتمسكون بحلول أمنية للأزمة، وبمقولة اسرائيلية قديمة خلاصتها: الفلسطينيون يقبلون غداً ما يرفضوه اليوم شرط إظهار الحزم في وجوههم وعدم تدخل آخرين في حل الخلاف معهم، ويستخدمون القوة وسيلة إقناع. ويشترط باراك وقف "العنف" أو خفضه قبل العودة الى طاولة المفاوضات واستئناف المحادثات حول مقترحاته "السخية"، التي قدمها في كامب ديفيد، بشأن قضايا الحل النهائي. ويرفض، في الوقت ذاته، اصدار أوامره للجيش الاسرائيلي بوقف عمليات القتل التي يمارسها بدم بارد، والانسحاب الى مواقعه القديمة التي كان يتمركز فيها قبل الأحداث. ويغلق الأبواب أمام الاستعانة بقوات دولية، أبسط المقترحات التي ربما تساعد في تهدئة الأوضاع، وتسهل على القيادة الفلسطينية اقناع شعبها بأن تضحياته لم تذهب هدراً، وتعوضه عن تضحياته البشرية الغالية وخسائره المادية الجسيمة، وتهيئ المناخ لإعادة عملية السلام الى مسارها الصحيح. الى ذلك، يقف الراعي الأميركي عاجزاً عن التأثير في الأحداث، وبدلاً من تقدم ادارة الرئيس كلينتون، في نهاية عهدها، بمبادرات سياسية منصفة تستند الى قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتلزم باراك تنفيذ الاتفاقات التي وقعها، نرى هذه الادارة لا تبذل الجهد المطلوب لإعادة باراك الى جادة السلام، وتساوي بين القاتل والضحية، وتعرقل اجراء تحقيق دولي في الجرائم التي ارتكبها بحق المدنيين الفلسطينيين. كما تعارض ارسال قوات دولية لمراقبة الأوضاع في الضفة والقطاع. وبعد لقائه الأخير بالرئيس كلينتون عاد باراك وهو أكثر حماساً للمضي قدماً في مواقفه غير المنطقية التي طرحها في كامب ديفيد. وامتنع كلينتون عن اتخاذ موقف متوازن، وأيّد طلب باراك وقف العنف اولاً، وصمت على مواقفه واجراءاته العسكرية والاقتصادية ضد السلطة الفلسطينية. وتفرغ كلينتون بعد الانتخابات الأميركية للضغط على عرفات لوقف العنف أو خفض مستواه... تارة عبر الهاتف، وأخرى غير مباشرة عبر الوسطاء. ويتناسى هو وأركانه ان ليس بمقدور القيادة الفلسطينية مجتمعة القفز عن قرارات القمتين العربية والاسلامية، والتخلي، إكراماً لسيد البيت الأبيض، عن الاسناد السياسي والمعنوي والمادي التي قدمتهما لشعب فلسطين. وليس بمقدور عرفات القفز فوق جثث 250 شهيداً الى غرف المفاوضات، قبل طمأنة أهلهم في المدن والقرى ان تضحياتهم لم تذهب هدراً، وطمأنة قرابة 8000 جريح ان دماءهم لم تنزف سدى، وحصوله على ضمانات مقنعة للناس انهم لن يظلوا تحت احتلال ساعة رحيله مجهولة. وبصرف النظر عن موقف الرئيس كلينتون ونواياه الطيبة ؟ فتمسك باراك "بوقف العنف" أولاً، يعني انه يرغب ببقاء الأوضاع على ما هي عليه فترة أطول، يسعى خلالها الى زعزعة أوضاع السلطة الفلسطينية ووضعها في مواجهة شعبها، وتجريد المفاوض الفلسطيني، قبل دخول غرف المفاوضات، من كل أوراق القوة، الاقليمية والدولية، التي وضعتها الانتفاضة بيده. ويبدو ان تواصل الانتفاضة أكثر من ستة أسابيع لم ترفع موقف راعي عملية السلام وقادة حزب العمل والجنرال "الذكي" باراك، الى مستوى الادراك بأن محاولتهم مكشوفة وبائسة، وهدفهم لن يتحقق لأنه يقوم على القوة والاكراه. الى ذلك، يتحدى باراك العرب والمسلمين ويستخف بقراراتهم المعتدلة، ويوجه، يومياً، للفلسطينيين، قيادة وشعباً، التهديد تلو التهديد، ويذكرهم، على مسمع من العالم، بأن جيش الدفاع الاسرائيلي لم يستخدم الا جزءاً يسيراً من طاقاته القتالية. وينسى باراك مقولة رابين الشهيرة ان لا حل عسكرياً للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي المزمن، وان الأعمال الحربية تؤجج نيران الصراع في المنطقة، وتغذي التطرف عند الطرفين، وتعمق الحقد والكراهية بين الشعبين، خصوصاً ان قائده، رابين، جرّب، قبل أكثر من سبع سنوات، وقف الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بقوة السلاح، وتكسير العظام، وفشل. وبادر، وجلس مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية "القيادة العليا لتلك الانتفاضة" وتوصل معها الى اتفاق أوسلو، وتوقفت الانتفاضة تلقائياً ومن دون طلب أو أوامر من أحد. ويسجل لباراك زعيم حزب العمل تفوقه بامتياز على نتانياهو زعيم ليكود في تخريب معظم علاقات اسرائيل الاقليمية والدولية التي بنتها خلال فترة السلام، كما نجح بتفوق في إعادة منطقة الشرق الأوسط الى ما كانت عليه قبل عشر سنوات، حيث كان أطراف الصراع يتباهون بطريقة استعراضية بقدراتهم العسكرية وعملياتهم القتالية. ونسي السيد الجنرال انه خلع بذلته العسكرية، وان قتاله الطويل والمرير ضد الفلسطينيين، وضمنها فترة رئاسته للأركان، وعملياته الخاصة الناجحة ضد قيادتهم في بيروت وتونس، لم تنسهم حقوقهم المغتصبة، ولم تضعف تصميمهم على انتزاعها مهما غلت التضحيات. لا شك في أن رفض باراك الإقرار بالمستجدات الفلسطينية والاقليمية التي أحدثتها الانتفاضة يعكس رغبة في استمرار الأزمة مع الفلسطينيين الى ما بعد انتهاء ولاية الرئيس كلينتون، كحد أدنى. كما ان رفض باراك التسليم بأن اقتراحه تقاسم السيادة في منطقة الحرم القدسي الشريف سقط في أول أيام الانتفاضة، مع الضحايا الذين حصدهم رصاص جيشه في ساحة المسجد الأقصى، ورفضه الاعتراف بأن فكرة بقاء المستوطنات على أرض الضفة والقطاع دفنت مع أول شهيد قتله المستوطنون أثناء قطفه زيتونه، يؤدي فقط الى تطوير المصادمات بين الفلاحين الفلسطينيين والمستوطنين. الى ذلك، فإن تخاذل قوى السلام في اسرائيل عن مواجهة باراك، يطلق العنان لعبقريته العسكرية المدمرة للعلاقة بين الشعبين. كما ان دعم الادارة الأميركية لمواقفه المتطرفة، وصمت أوروبا والأمم المتحدة، يغيب الردع الدولي ويسهل له المضي قدماً في طريق العنف. وذلك كله يقود الى شيء واحد، استمرار المفاوضات الدموية الجارية في الضفة والقطاع شهوراً طويلة، وتوفير أسباب اضافية لتمددها، بصيغ مختلفة، الى ميادين جديدة. وأظن ان المفاوضات الجارية بين الحجر الفلسطيني وبندقية المستعمر المحتل ستنتقل في الأيام والأسابيع المقبلة الى مرحلة أشد عنفاً وأكثر دموية. وإذا كان باراك وأركانه ركزوا، في المرحلة الأولى، عملياتهم ضد أهداف مدنية فلسطينية، أفراداً وممتلكات، وتجنبوا الدخول في اشتباكات مباشرة مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ولم تطل رمايات رشاشاتهم ومدافعهم وطائراتهم المراكز القيادية والأمنية والعسكرية الفلسطينية إلا ما ندر، فتصريحاتهم الأخيرة، وممارسات قواتهم في الأيام القليلة الماضية تشير الى انهم سيتجاوزون في المرحلة الثانية ما تجنبوه في الأولى. والمؤشرات على ذلك كثيرة، فبعد تعرض عدد من المستوطنات الاسرائيلية المجاورة للمدن الفلسطينية لرمايات فلسطينية من بنادق خفيفة، أعلن باراك الحرب ضد "التنظيم" حزب السلطة، وشرع في اغتيال واعتقال كوادره وضرب مقراته. وبعد مقتل أربعة من أفراد قواته ومستوطنيه في كمين مسلح، قرب مدينة رام الله وجنوب قطاع غزة، فرض طوقاً أمنياً محكماً، وأغلق مداخل المدن والقرى الفلسطينية، ومنع الحركة على الطرق. وأخيراً شرع قناصته تركيز نيرانهم باتجاه أفراد اجهزة الأمن الفلسطينية، فزاد عدد الشهداء والجرحى من هذه الأجهزة. ولن يعجز باراك عن خلق ذريعة للدخول في معركة عسكرية مكشوفة مع هذه الأجهزة جهازاً بعد جهاز، أو معها كلها دفعة واحدة. وما اتهام عدد من أركانه بعض هذه الأجهزة بالمشاركة في اطلاق النار ضد الجيش والمستوطنين الاسرائيليين وتشجيع منظمة الجهاد الاسلامي على تنفيذ عمليات قتالية ضد اسرائيل، إلا مقدمات أولية هدفها رفع وتيرة الضغط على قيادة السلطة وقادة الأجهزة، وتحضير الأجواء الداخلية والخارجية للدخول في اشتباك معها، ظناً منه أن الصدام المباشر مع السلطة وتفكيك قاعدتها الحزبية واجهزتها الأمنية والعسكرية، يقنع القيادة الفلسطينية بقبول ما لم تقبله بالتي هي أحسن. ويعتقد باراك أن الأعمال الحربية كافية، مع قليل من المال، لإقناع حزب "شاس" بالعودة الى مقاعده في مجلس الوزراء، وبالحد الأدنى تمديد شبكة الامان التي منحته إياها، وتنتهي آخر الشهر الجاري. كما تصلح، أيضاً، لتكون جسراً يربط ما انقطع مع شارون ورفاقه الأشد تطرفاً، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تطيل أمد البقاء في السلطة فترة طويلة. وإذا كان لا خلاف بين الفلسطينيين على الاستمرار في الانتفاضة، فتنظيم أوضاع الجبهة الداخلية وتقليص الخسائر هو السبيل للصمود في مواجهة موجة العنف القوية القادمة. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني