فرضيتي هي أن المقاربة النفسية لسايكولوجيا الجماهير وزعمائها مفيدة خصوصاً في المجتمعات المتأخرة التي ما زالت مسرحاً للصراعات الإثنية والحروب الدينية، وتالياً المفتوحة على الأكثر الأهواء جموحاً وأشد الغرائز جنوناً. وفي المقابل فقدت هذه المقاربة من أهميتها في المجتمعات الحديثة التي تتراجع فيها الأهواء السياسية امام العقلانية السياسية بما هي قراءة يقظة لموازين القوى وصولاً لتسويات بين ما يريده السياسي وما يستطيعه. في الفضاء العربي الاسلامي ما زال الحاكم الفرد صاحب القرار الذي كثيراً ما يحمل بصمات سايكولوجيته الباتولوجية التي هي من اختصاص الطب النفسي حصراً. أما في العالم الديموقراطي فصناعة القرار تتكفل بها المؤسسات بمساعدة الكومبيوتر. في غياب المقاربة النفسية فأي تفسير عقلاني مُقنع بمعقولية قرارات قرقوش بغداد أو الفظاعات التي اقترفتها الجماهير الصاخبة في لبنان الحرب الطائفية وايران الثورة الاسلامية مثلاً، لهذه القرارات والممارسات السقيمة يحتاج بدوره الى تفسير. النفور من المقاربة النفسية هو مقاومة لا شعورية لمعرفة الذات الجمعية تتخفى تحت ذرائع شتى كاستنقاص المقاربة أو التحليل النفسي نفسه أو طريقة أو موضوع استخدامه. وكما يفزع المرء من تعرية تاريخه الشخصي يفزع أيضاً من إماطة اللثام عن تاريخه الجمعي أي أساطيره وأوهامه الكبرى. تحويل الابطال والحركات ذات الاستثمار الوجداني المكثف من موضوع للتهليل الى موضوع للتحليل تشعر به الذهنيات والنفسيات الهشة كعدوان على مقدساتها اي كل ما تبقى لها بعد أن فقدت كل شيء. لذلك تبدو المقاربة النفسية الخجولة للانتفاضة جرأة على "البطولات الجماهيرية". فما يشير العجب والاعجاب أي يتحدى الفهم لا ينبغي له أن يُدنَّس بالتحليل النفسي خصوصاً. هذا ما قالته نيابة عن الكثيرين منى فياض في ردها عليّ تيارات 14/1/2001: "لماذا لا يتركون صبية الحجارة يرشقون حجارتهم من دون تنظير أو يتركون جانباً التحليل النفسي؟ صمتاً! التحليل ممنوع خوفاً من مفاجآته غير السارة. تماماً مثلما توسل نزار قباني: "أمليحة الشفتين لا تتكلمي/ فأريد أن أحيا على وهم الفم". المقاربة النفسية تنزع تحديداً هذا الوهم الذي هود ائماً لذيذ ودائماً خاصة في السياسة مرير العواقب. كلما اقترب التحليل من المسكوت عنه أي اللامفكر فيه الجنسي، الديني أو السياسي كلما ازدادت المقاومة ضراوة. لكن هذا يدعوني بالأحرى الى التفاول لأنه مؤشر على الاقتراب من الشفاء أي رفع الغطاء عن "النواة السقيمة" كما تقول فرضية سايكولوجيا الاعماق. الاعتراضات على شرعية المقاربة النفسية لسايكولوجيا الجماهير لا تتوافر فيها الشروط الدنيا لبناء موقف معرفي أو سياسي مثل: "ماذا لو أن النظرية النفسية تتعرض للتعديل؟ ماذا لو أنها غير صحيحة؟... ماذا لو أن الأسطورة أوديب نفسها موضوع تساؤل؟ ماذا لو أن التأويل نفسه كان مقلوباً؟". أولاً هذه الامثلة ايديولوجية أي مضللة لأن جواب كل سؤال منها كامن في السؤال نفسه. وثانياً تتجاهل مسلمتين أساسيتين: وظيفة الخطأ في تاريخ العلوم والشروط الابيستيمولوجية المعرفية لتجاوز الفرضيات العلمية: "الحقيقة العلمية هي خطأ يجب تصحيحه" كما يقول مؤرخ العلوم باشلار في كتابه "تكون الفكر العلمي". مسار العلوم هو إذاً مسار تصحيح اخطائها وتصحيح أو تدقيق التصحيح نفسه وهكذا دواليك، الخوف من أن تتكشَّف حقيقة اليوم عن خطأ غدا تعبير عن رُهاب الحقيقة ليس إلا. اما النظرية العلمية فهي نَسَق عقلاني أي منطقي وقابل للمراجعة وظيفته تقديم مفاهيم مفسِّرة للظواهر والأحداث يتجاوز بشرطين ابيستمولوجيين: قدرة الفرضية الجديدة على فهم أفضل، أي 1 أكثر شمولاً، 2 أكثر دقة من النظرية السابقة. وهكذا فالفرضية النظرية تظل مشروعة حتى لحظة تجاوزها وتبقى في مطلق الأحوال مفتوحة لتنافس الأفكار بحثاً عن معرفة موضوعية دائما موعودة ودائماً مفقودة. لعل ذلك هو ما ينفض غبار الكسل الذهني ويجعل الانسانية المفكرة في قلق وتساول متواصلين تطارد بالحذر والشك اليقينيات الراسخة والبديهيات الزائفة. أما الاعتراض عن نقل التحليل النفسي من السايكولوجيا الفردية الى السايكولوجيا الجماعية فقد فنَّده مؤسس التحليل النفسي نفسه في "سايكولوجيا الجماهير وتحليل الأنا": "التعارض، كما يقول، بين السايكولوجيا الفردية وسايكولوجيا الجماهير الذي يبدو لأول وهلة مهماً سرعان ما يفقد الكثير من حدَّته اذا تفحصناه بعمق. قطعاً، الانسان المعزول هو موضوع السايكولوجيا الفردية التي تسعى لمعرفة الطرق التي يحاول بها الأنا تلبية مقاصده الغريزية. لكنه في مسعاه هذا ليس قادراً إلا نادراً - في بعض الظروف الاستثنائية - عن غضِّ الطرف عن علاقات هذا الفرد بالآخرين. يتدخل الآخر بانتظام في الحياة النفسية للفرد بما هو نصير أو خصيم. من هنا فالسايكولوجيا الفردية هي أيضاً بداهة وفي الوقت نفسه سايكولوجيا اجتماعية. بهذا المعنى الموسع لكن المشروع تماماً ... السايكولوجيا الفردية ليست ذات طبيعة تفصلها عن السايكولوجيا الاجتماعية أو سيكولوجيا الجماهير". قدم فرويد في البحث المذكور تحليلاً للتفاعل المعقد بين سايكولوجيا الفرد وسايكولوجيا الجماهير عبر قراءة نقدية لكتاب السوسيولوجي الفرنسي غوستاف لوبون "سايكولوجيا الجماهير" 1895 وكتابي الانكليزيين مك دوغال "جماعة الرأي" 1910 وتروتر "غرائز القطيع في السلم والحرب" 1916. ركَّز لوبون على سايكولوجيا الجماهير الصاخبة، جماهير الثورة الفرنسية. ركَّز دوغال على الجماهير المنظمة والمستقرة كالجيش والكنيسة وركز تروتر على الجمعيات السياسية. ينطلقون جميعاً في تحليل علاقة الفرد بالجماهير من واقعة أساسية: يكابد الفرد المعزول تحت تأسير الجماهير العفوية أو المنظمة تحولات سايكولوجية حاسمة أهمها تصاعد أهوائه وتدني نقديته بفعل الايحاء المتبادل، كما يقول لوبون أو العدوى النفسية كما يرى دوغال الذي يؤكد ملاحظة لوبون: "في الجماهير الذكاء الأدنى يُنزل الذكاء الاعلى الى مستواه" أو كما يقول بوان كاري: "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق". لماذا؟ لأن رفع الكوابح الكابتة للغرائز يُطلق هذه الأخيرة من عمال الصقل لتصول وتجول بكل بداءتها ووحشيتها تسحل وتقتل جماعياً وتستسهل جميع محرماتها السابقة. "المستحيل، يقول لوبون، لا وجود له عند الجماهير التي تفكر بتداعي الخواطر وتنفذ فوراً كل ما يخطر على خاطرها ولو كان القتل. عواطفها في غاية السذاجة والتطرف لا تعرف الشك أو اللايقين ولا التعطش للحقيقة وتطالب بالأوهام" كأنك في لبنان الحرب الأهلية أو ايران الثورة الاسلامية أو غزة المنتفضة، أليس كذلك؟ يعقّب فرويد على هذا التوصيف الدقيق: "هذه الغلبة للحياة التخييلية وللأوهام ... ملحوظة في سايكولوجيا العصابي ... لا يحسب العصابي حساباً للواقع الموضوعي العام بل للواقع النفسي. فأي عرض هيستيري يقوم على فانتازم لا على تجربة معيشة حقاً" مضيفاً: "جميع الأمور التي رسم لها لوبون لوحة رائعة تعطي صورة جلية عن نكوص النشاط النفسي الى طور سابق مثل ذلك الذي لا نستغرب وجوده لدى المتوحشين والأطفال". يفسرو لوبون نكوص الفرد في الجماهير الى طور تخطاه من تطوره النفسي ب"الايحاء المتبادل" وبقسوة دوغال ب"العدوى النفسية"، تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد كما يقول المعري، ويفسِّره تروتر ب"غرائز القطيع". لكن فرويد يرى أن وراء هذه العوامل الثلاثة يكمن عامل محدد هو علاقة حبية محوَّلة من هدفها الجنسي المباشر الى أهداف غير جنسية: العصبية بالمفهوم الخلدوني أي التضامن الأعمى بين جماهير القبيلة والتعلق الأعمى بقائدها. بالضبط يأخذ فرويد على الباحثين الثلاثة إهمالهم دور القائد في الفعل الجماهيري أي اهمالهم للتماهي بينها وبين قائدها الذي هو في الواقع تماه مزدوج: تماهي = اتحاد وجداني كل فرد في الجماهير بكل فرد فيها عبر تماهيهم جميعاً بقائدهم "المُفدّى" الذي يتخذونه مثالاً أعلى لهم. يعرّف فرويد الانسان في الجماهير بأنه "كائن فردي في قطيع يقوده قائد" أي أب اجتماعي مرهوب ومحبوب من قطيع أبنائه. في أوروبا تضاءل هذا التماهي المزدوج. وهو عامل مفسّر لاختفاء العنف الدموي في الحركات الجماهيرية العفوية، اضرابات، تظاهرات، لأن الجماهير فيها اليوم لم تعد جماهير الأمس المتعطشة للدم وذلك أيضاً بفضل اشاعة ثقافة البهجة ورفض التضحية على مذبح الأوهام الكبيرة. أما في المجتمعات التي ما زالت فيها ثقافة الموت أخذاً وعطاءً سائدة فدار لقمان على حالها تتماهى الجماهير بقائدها الى حد الاتحاد الوجداني به فينوِّمها ويقودها حيث شاء. يوم عودة الخميني الى ايران استولت الهيستيريا الجماعية على الجماهير فشاهدت صورته مرسومة على سطح القمر. وحدهم المراسلون الأجانب اعترفوا بانهم لم يستمتعوا بالمشهد. فأي غرابة أن تصدِّق جماهير الأطفال جواز المرور الى الجنة التي زودهم به للزحف على الألغام التي زرعها الجيش العراقي المنسحب؟ لم يقبل الامام إلا تحت ضغط المنظمات الانسانية العالمية تعويض التضحية بالأطفال بالتضحية بالحمير. وكم هو دال الرضوخ الى الانتقال من التضحية بالأطفال الى التضحية بالحمير أي ان الاطفال في لا شعور الامام أدنى منزلة من الحمير! جماهير سادية - مازوشية تتلذذ بالايذاء والتأذي وحكام سايكوباثيون دمويون ويقال لنا مع ذلك: حذار حذار من المقاربة النفسية لهذه المجتمعات النادرة!