منذ الحداثة إحتد الصراع بين المعقول واللامعقول في المجال العلمي فهل سيحتد أيضاً في القرن القادم في الميدان السياسي حيث لا يكاد يلمع العقل الا بغيابه؟ استبعد اللامعقول من العلم لأنه اتضح أن الكون كله من المتناهي في الصغر الى المتناهي في الكبر فالمتناهي في التعقيد يخضع لقوانين رياضية، أي لعلاقات ضرورية بين الظواهر تتكرر بانتظام مما يمكننا من التنبؤ بالأحداث الطبيعية أي بكيفية اندراجها في شبكة المعادلات الرياضية الكونية. تاريخ العلم هو إذن تاريخ انجازات العقل المتعقِّل للعالم المعقول. حتى الصدفة ليست في نظر العلم، بشيء من التبسيط، الا قانوناً لم يكتشف بعد. لكن العقل الذي يبدو في العلم سيّد الكون "ليس سيداً في بيته"، أي لدى الانسان نفسه كما لاحظ ذلك فرويد عند اكتشافه لقارة اللاشعور المظلمة. فما الذي جعل الانسان العقلاني في العلم لامعقولاً في الحياة؟ العصاب تجيب فرضية التحليل النفسي. كيف؟ بالعصاب يسترقّ اللاشعور الشعور أي تسيطر الغرائز والأهواء التي تشكل الاساس العتيق للشخصية النفسية على العقل فيتوارى أمام جبروتها. اقترح فرويد التحليل النفسي كأداة للانعتاق من هذا الاسترقاق ذي النتائج الكارثية في الحياة الفردية والاجتماعية. تحرير العقل من سطوة اللامعقول لا يعني سحق الشعور للاشعور وتحويل الانسان الى كومبيوتر لا يتقن الا الحساب المنطقي بل يعني فقط وحصراً غربلة الرغبات، التخييلات والغرائز التي يجوز البوح بها أو تحقيقها لفرزها من تلك التي ينبغي أن تظل حبيسة لأن التعبير عنها، ناهيك عن تحقيقها، كفيل بتحويل المجتمع الى جبهة لحرب الجميع ضد الجميع. استقلال الشعور عن استعمار اللاشعور يعني أيضاً ان الآخر - هذا الأنا الذي ليس أنا والمكمِّل مع ذلك لأنا - لا يعود مجرد وسيلة لتحقيق رغباتنا بل يغدو بدوره انساناً مستقلا عنا يفكر بنفسه ويختار قيمه ونمط حياته بعيداً عن وصايتنا الأبوية. تحرير الابداعية الذهنية يساعد الانسان على الانتقال من الارتكاس Rژflexe اللاشعوري الى التفكير وعندئذ يكتسب القدرة على لجم غرائزه العدوانية وبدائيته الدموية فلا يعود يستحلّ قسوة الانسان على الانسان وقتل الانسان للانسان. للاقتراب من هذا الهدف نادى فرويد بتعميم "الثورة البيداغوجية" الكفيلة بتحرير الآباء من عصابهم لتأهيلهم "لتربية أبنائهم على غير شاكلتهم" كما قال علي ابن أبي طالب. مثل هذه الأجيال لن تكون فريسة للعصاب ولن تنتهك حقوق الانسان ولن تسمح بانتهاكها. في هذا السيناريو المتفائل يمكن الانتقال من الفرد المستقل نفسياً عن لاشعوره البدائي الى المجتمع المستقل ذهنياً ومؤسساتياً عن لاشعوره الجمعي، أي عن نرجسيته الاثنية أو الدينية التي تبرر له إذلال وقتل الأفراد والجماعات المنتمين الى اثنيات وديانات "ثانوية". يستقل المجتمع عن اثنيته المركزية عندما يستنكف من التعبير عنه قولاً وفعلاً حتى لا يظهر فيه أمثال ستالين وهتلر والخميني والترابي وأحمد ياسين وعوفاديا يوسف ومن على شاكلتهم ممن هم على غرار الاله التوراتي "ملوك" الا اذا شربت الدم في جماجم ضحاياها، أو على الاقل تقل صدقيتهم وانقياد الجموع الهاذية لهم.