كان من المنطقي لمناسبة الذكرى العاشرة لحرب الخليج الثانية ان يغيّر النظام العراقي من خطابه الذي ظل لسنوات طويلة يقوم على لغة العنف والاستفزاز والمؤامرة. ففي هذه الذكرى تكون قد مرّت عشر سنوات على مأساة الشعب العراقي تحت حصار دولي وحشي وظالم. ولا يفيد العزف كثيراً على نغمة مسؤولية الولاياتالمتحدةوبريطانيا عن هذه المأساة. فالقيادة العراقية تعرف قبل غيرها ان التعلّل بمسؤولية الغير عن مأساة الشعب العراقي هو في أحسن الاحوال تخلٍ عن مسؤوليتها هي تجاه شعبها، وفي أسوأها متاجرة بهذه المأساة في سوق الصراعات السياسية. فالولاياتالمتحدة، او بريطانيا، او غيرهما، لا تتحرك في سياساتها الا بدافع المصلحة، وليست معنية الا بشعبها، وليست مسؤولة الا امام هذا الشعب وحده، وليس سواه. ومن ثم كان من المنطقي ان تتحمل القيادة العراقية حجم وحدود المسؤولية نفسها امام شعبها، ومصلحة هذا الشعب بدل الاصرار على احالتها الى الغير. وكان من المنطقي ان يتغيّر الخطاب العراقي في هذه الذكرى تحديداً لأنها شهدت بداية تآكل الحصار الدولي، كما شهدت بداية عودة علاقات العراق مع الكثير من الدول العربية، خصوصاً بعض دول الخليج العربي، بالاضافة الى مصر وسورية. بل ان الاخبار تقول ان العراق طلب من مصر اخيراً محاولة فتح قناة حوار له مع السعودية. كل ذلك يفرض، منطقياً، ان يتغير خطاب النظام العراقي بما يعكس تلك التحولات. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل حصل العكس: المزايدة على مصر وسورية في موضوع الصراع العربي - الاسرائيلي مستمرة، ولغة تهديد الكويت بخرائط جديدة، والمطالبة بعائديتها الى العراق عادت من جديد الى الاعلام العراقي. بل ان شعار تحرير فلسطين التاريخية بكاملها عاد هو الآخر موضوع الرئيس العراقي المفضل يزايد فيه على القيادة الفلسطينية في محاولة للتماهي مع شرعية القضية الفلسطينية. لكن المنطق السياسي شيء والمنطق الامني شيء آخر مختلف تماماً. وتوقع تغييرات في خطاب القيادة العراقية، وفي سلوكها السياسي في ظل الظروف السياسية السائدة حالياً، ينطلق من معطيات المنطق السياسي. والنظام العراقي لا يعترف، ولم يعترف من قبل، بأولوية المنطق السياسي، لأنه مسكون منذ تسلّمه السلطة بالمنطق الامني: امن الرئيس، وامن جهاز الرئاسة، وامن الطبقة الحاكمة، ولا شيء غير ذلك. من هنا ليس غريباً ان يستمر النظام العراقي في خطابه التقليدي، وان يستمر في انتهاج السياسة نفسها التي سار عليها منذ ما يقرب من ثلاثين سنة، وانتهت به وبالعراق وبالمنطقة الى ما انتهت اليه. وفي السياق نفسه ليس غريباً ان يعود النظام العراقي مرة اخرى الى نظرية المؤامرة في تبرير غزوه الكويت في صيف 1990، كما يفعل هذه الايام لمناسبة الذكرى العاشرة ل"ام المعارك الخالدة" كما يحلو للرئيس العراقي ان يسمّيها. ووجه الغرابة حقاً هو ان يتسع منطق القيادة العراقية الامني لفكرة ان تنتهي "ام المعارك الخالدة" الى "حصار ظالم" للشعب، بدلاً من ان تنتهي بالنصر والسؤدد. لكن الغرابة لا تتوقف هنا، فبعد عشر سنوات من الحدث، وبعد عشر سنوات من الحديث والكتابة عن هذا الحدث، لا يجد التلفزيون العراقي ما يقوله الا العودة الى ما قاله الغير من قبل واستخدامه بطريقة باهتة ومبتسرة لصياغة نظرية مؤامرة ساذجة يفترض فيها ان تفسر ما حدث ما بين صيف 1990 وشتاء 1991. الرؤية العراقية هذه، وبعد عشر سنوات من الحدث، تفرض اعادة زيارته مرة اخرى، لا لشيء الا للتعرف على ما تغيّر في الظروف السياسية والامنية للمنطقة بعد كل تلك المدة. وليس هناك افضل من البدء بإعادة الزيارة هنا من هذه الزاوية بالتحديد. وسنلاحظ ان ثبات النظام العراقي على خطاب يعكس طبيعته، يترافق معه ثبات دول الخليج نفسها على رؤيتها لمسألة أمنها وأمن المنطقة التي تنتمي اليها. مأزق "الرؤية العراقية" الذي لا يمكن القيادة في بغداد تجاوزه هو ان القول بفكرة المؤامرة يقتضي مواجهة ثلاث حقائق تتجاهلها تماماً: الحقيقة الاولى، ان الذي فجّر الازمة، وفرض خيار الحرب هو النظام العراقي. والثانية، ان تدمير القوة العسكرية العراقية كان هدفاً معلناً وليس سرياً. اما الحقيقة الثالثة فهي ان الدول التي شاركت في التحالف الدولي ضد العراق تجاوز عددها الثلاثين. فهل كانت كل هذه الدول اطرافاً في المؤامرة؟ طبيعة المؤامرة تقتضي ان تبقى سرية. لكن ان تشترك اكثر من ثلاثين دولة عربية واسلامية وغربية وآسيوية في مؤامرة وعلى هذا المستوى الدولي والمكشوف فلا يعني الا شيئاً واحداً: لم تكن هناك مؤامرة، وانما صراعات مصالح ونفوذ. لم يحدّثنا العراقيون، مثلاً، عن مؤامرة محددة، وذات خصوصية في علاقتها باحداث الازمة التي سبقت الحرب، والدور المحدد والواضح للكويت فيها. كل ما تستند الحملة العراقية اليه هو القول بأن هدف الولاياتالمتحدة في حرب الخليج الثانية كان ضرب القوة العراقية التي تنامت اثناء حرب الخليج الاولى وبعدها. وهذا صحيح، لكن متى تم تبني هذا الهدف بحيث اصبح هدفاً عملياً ومباشراً، وموجهاً للسياسة الاميركية في تعاملها مع الازمة؟ اذا قيل ان هذا التبني تم قبل غزو الكويت، وضمن مخطط تآمري مسبق، فلماذا، اذن، اقدمت القيادة العراقية على غزو الكويت، مقدمة بذلك كل المبررات السياسية والقانونية لضرب قوة العراق وتدميرها؟ هل كانت هذه القيادة على علم او معرفة بمثل هذه المؤامرة؟ ان كانت تعرف بالمؤامرة فمرة اخرى لماذا قامت بالغزو بما يمهد الطريق لتنفيذ هذه المؤامرة؟ كانت القيادة العراقية تبرر الغزو بأنه استجابة لانقلاب حدث في الكويت. لكن الغريب ان عملية الغزو سبقت فكرة الانقلاب الذي لم يحدث لا قبل الغزو ولا بعده. ثم قالت هذه القيادة ان الغزو كان محاولة لاجهاض عدوان متوقع على العراق، فاذا بالغزو يصبح اغبى مصيدة عرفتها الصراعات السياسية في التاريخ الحديث، لم يجهض الغزو اي عدوان، بل تحول الى ارضية متينة للاعداد لضرب العراق علناً، اعداد استمر لستة اشهر، وعلى مرأى من القيادة العراقية نفسها. واذا كانت القيادة العراقية لم تعرف بالمؤامرة التي تدعيها، فلماذا اقدمت على مغامرة لا تعرف ما قبلها، ولا تستطيع تقدير ما بعدها؟ بل لماذا اصرّت هذه القيادة بعد الغزو على عدم الانسحاب، وعلى المواجهة العسكرية، على رغم انه كانت لديها ستة اشهر لتقدير ردود الفعل العربية والدولية على ما قامت به، ولمعرفة ابعاد "المؤامرة" المزعومة واهدافها؟ ثم بعد تدمير القوة العراقية تأتي قيادة العراق وتشتكي من انه كانت هناك "مؤامرة" لتحقيق ذلك! والادهى ان هذه القيادة ما زالت تعتبر ان ما حصل لم يكن الا انتصاراً باهراً في "ام المعارك"! فاذا كان ما حصل هو انتصار بالفعل، فليس هناك، اذن، مبرر للشكوى والتظلّم، وليس هناك ما يبرر القول بأنه كانت هناك مؤامرة ابتداءً. لكن خطاب المؤامرة لا يمكنه تفادي التناقض. وبما انه خطاب عنف في جوهره، فهو، وبحكم طبيعته، لا يأبه بالتناقض ابداً. الحقيقة التي لا مفر منها ان القيادة العراقية تعرف قبل غيرها انه لم تكن هناك مؤامرة. كانت هناك عملية غزو بشعة اعادت رسم خارطة المنطقة بما يضرب مصالح دول كثيرة اقليمية ودولية وليس فقط مصالح الولاياتالمتحدة. وانما مصر والسعودية وسورية ايضاً، وهي دول وقفت بحزم ضد الغزو، فهل كانت هذه الدول العربية ايضاً اطرافاً في المؤامرة على العراق؟ كان من الطبيعي ان ترد تلك الدول على الغزو دفاعاً عن مصالحها وكان من الطبيعي كذلك ان يستهدف رد الفعل هذا ضرب القوة العراقية، لأن هذه القوة، وهي تحت قيادة مغامرة، كانت المصدر الاساسي الذي هدد تلك المصالح. ولا يجوز التعلّل هنا بأن ضرب قوة العراق يخدم الطرف الصهيوني في المنطقة. فهذا صحيح، لكن المسؤول عن هذه النتيجة المحزنة هو الطرف الذي قاد المنطقة اليها بإرادته وخياره. وفي الوقت نفسه لا يجوز استخدام ظروف ومتطلبات الصراع العربي مع اسرائيل من قبل اي طرف عربي غطاءً لفرض ارادته وبطشه على دول وشعوب عربية اخرى. في هذا الاطار كان ضرب القوة العراقية هدفاً معلناً، وليس هدفاً سرياً، يقتضي نسج مؤامرة لتحقيقه، بل ان الرئيس الاميركي في حينه، جورج بوش، وقبل بدء الحرب بأسبوع قال ما نصّه: "ان انسحاب العراق الكامل من الكويت، ومن دون اية شروط، سيجعل المؤسسة العسكرية العراقية بمنأى عن التدمير". جاء ذلك في رسالته الى الرئيس صدام حسين التي قرأها وزير خارجية العراق طارق عزيز ورفض تسلّمها من نظيره الاميركي جيمس بيكر اثناء لقائهما في جنيف. بعبارة اخرى، ان عدم الانسحاب سيؤدي حتماً الى تدمير القوة العسكرية العراقية، هكذا علناً وعلى مرأى من الجميع. واذا كانت المصلحة في النفط وفي تدمير القوة العراقية، هما الدافع وراء قيادة الولاياتالمتحدة حرب تحرير الكويت، فماذا كانت مصلحة العراق من وراء غزوه الكويت، ومن وراء اصراره على "المنازلة التاريخية"؟ لم يكن هناك من مصلحة الا نفط الكويت والفوائض المالية للكويت التي كانت تُقدّر حينها بمئة بليون دولار اميركي. ثم بعد ذلك بسط الهيمنة السياسية على نفط الخليج. نعم، كان ينبغي ان يكون الرد العسكري على الغزو العراقي عربياً، وما كان ينبغي الاعتماد في ذلك على الولاياتالمتحدة، او على غيرها من الدول الاجنبية. والأكثر منطقية من هذه الزاوية هو ان تتحمل دول مجلس التعاون الخليجي نفسها مسؤولية ذلك الرد العسكري، خصوصاً السعودية باعتبارها اكبر دول المجلس، واحدى اكبر الدول الثلاث في المنطقة. ودول مجلس التعاون، وخصوصاً السعودية، كانت المستهدفة مباشرة بغزو الكويت. لكن الكل يعرف ان دول مجلس التعاون لم تكن تملك القوة العسكرية لمواجهة ذلك الغزو. وهذا هو السبب الرئيسي الذي أغرى القيادة العراقية بالتورط في مغامرتها. لكن الدول العربية الاخرى، والمعنية مباشرة بمضاعفات الغزو، لم تكن هي الاخرى قادرة من الناحية السياسية - وليس العسكرية - على الغزو ايضاً. فدول مثل السعودية ومصر وسورية، وقد اتفقت على ضرورة انهاء الاحتلال العراقي للكويت، كانت قادرة عسكرياً على تحقيق ذلك، وان كان سيأخذ فترة زمنية اطول. لكن عامل الارادة السياسية، وعامل الثقة لم يكونا متوفرين بما يكفي للقيام بمثل هذه المهمة. وهذه الثغرة في النظام الاقليمي العربي اغرت هي الاخرى القيادة العراقية بالاندفاع نحو المغامرة. والارجح ان الرئيس صدام حسين، ومن خبرته الطويلة مع السياسة العربية، كان مقتنعاً بأن الدول العربية لا تملك المعطيات السياسية الكافية لمواجهته عسكرياً في الكويت. اذن، مأخذ الاعتماد على الولاياتالمتحدة لتحرير الكويت مأخذ شرعي من حيث المبدأ، لكن توظيفه مبرراً للجوء الى السلاح في حل الخلافات العربية، ومبرراً للغزو يجعل منه مبدأ فاسداً كلياً. ولعل الرئيس العراقي يتذكر انه اول من قال بذلك في عام 1980 فيما اسماه آنذاك ب"اعلان العمل القومي" والذي يحرّم في احد بنوده اللجوء الى السلاح في حلّ الخلافات العربية. ان الشرعية الوحيدة لهذا المأخذ تنبع من ضرورة ان تتولى الدول، والمقصود هنا تحديداً السعودية ودول الخليج، المسؤولية الاساسية لحماية امنها بنفسها. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون ان يتغيّر المفهوم الامني لهذه الدول. هل تغيّر شيء من ذلك؟ بل هل تغيّر شيء في المشهد السياسي العربي بعد "أم المعارك"؟ هذا يتطلّب مقالاً آخر. * كاتب سعودي.