تقدمت ست وأربعون دولة بأفلامها الى أكاديمية العلوم والفنون السينمائية أملاً بالوصول الى الترشيحات النهائية التي تنحصر بالأفلام الخمسة الأكثر نيلاً لإعجاب أعضاء الأكاديمية، مقدمة لاختيار واحد منها لجائزة أفضل فيلم أجنبي. بعض هذه الأفلام شوهد أخيراً في مهرجان "بالم سبرينغز الدولي" الذي يقام شرق هوليوود، على بعد أربع ساعات بالسيارة. وبعضها الآخر في عروض خصصت لأعضاء "جمعية المراسلين الأجانب" وهؤلاء كانوا اختاروا خمسة من نحو 35 فيلماً قدم اليهم، وأقاموا حفلتهم في 21 كانون الثاني يناير الجاري، منتخبين أحدها كأفضل فيلم أجنبي. هناك دولتان عربيتان بين تلك المتقدمة الآن للأوسكارات: الجزائر عبر الفيلم الجديد لرشيد بوشارب "سنغال الصغير"، وهو انتاج فرنسي أكثر مما هو جزائري، لكنه مقدم باسم الجزائر لأن لفرنسا فيلمها الخاص للمناسبة "دم الآخرين" لآنييس جاوي. صوّر بوشارب جزءاً كبيراً من فيلمه الجديد في نيويورك. فبطله سنغالي عجوز يصل آتياً من فرنسا الى حي هارلم في نيويورك باحثاً عن قريب له. فتطالعه مظاهر العنصرية التي لم يكن احتك بها من قبل. بالنسبة الى من لم يشاهد الفيلم بعد، انما عليه أن يأتي على ذكره، يبدو الموضوع كما لو كان قائماً على افتراضات غير واضحة. كيف يمكن حي هارلم أن يشهد احتكاكات عنصرية اذا كان معظم سكانه من السود؟ وما حجم الاستثناء الذي تقوم عليه القصة وأهميته. الفيلم العربي الآخر هو المغربي "علي زوا" لنبيل عيوش، المخرج الشاب الذي قدّم، قبل عامين، فيلمه الأول "مكتوب". جهد لا بأس معه تعرض لنيات أكبر حجماً من القدرات، لكن "علي زوا" يتحاشى الوقوع في تلك المطبات ويقدم سرداً ذكياً لحال ثلاثة أولاد مراهقين من الدار البيضاء في بيئة هامشية تتناحر فيها عصابات الشوارع. على عكس الفيلم الجزائري، جال "علي زوا" على مهرجانات كثيرة. عرض أولاً في برلين ثم في سندانس ومونتريال حيث نال جائزة من لجنة تحكيم خاصة، وفي بلجيكا نال بطله سعيد طغماوي جائزة أفضل ممثل. طفولة مهدورة هناك طفولة مهدورة أيضاً في الفيلم الايراني "زمن الجياد المترنحة" من اخراج بهمن قبادي الذي يبدو أكثر أهلاً للوصول الى مستوى الترشيحات الأخيرة من الكثير من الأفلام الأخرى. هنا نقطع الحدود الايرانية - العراقية مع أطفال قرى كردية يشتركون مع الكبار في تهريب العجلات، من أجل قتات من العيش. الصبي الذي يقود البطولة نزهد اختيار - ديني يحاول تأمين الدواء لشقيقه المقعد، تساعده أخته الصغيرة أمانة اختيار - ديني التي ترضى بالزواج ممن لا تعرف، فقط اذا ما اصطحبت شقيقها المقعد معها. لكن العائلة الأخرى، وفي مشهد من أفضل ما في الفيلم، تنتزعها من رغباتها وتفرض عليها الانفصال عن شقيقيها اللذين يقفان عند سفح هضبة ثلجية يودعانها بعيون تحتوي مقداراً لا يمكن "تمثيله" من الحب والمعاناة. حين ترى "زمن الجياد المترنحة"، وفيه من المضامين أكثر مما يتسع المجال هنا لذكره، لا بد من أن تدرك السبب الذي يجعل السينما الايرانية تحصد الجوائز العالمية يمنة ويسرة. انها، في نطاق هامش محدود من الحرية، تقدم مواضيع شائكة بأساليب تصوير مبدعة وبكثير من النقد الحاد، لما يعتري حياة الايرانيين أكراداً أم فرساً من مغبة العيش. شيء تتحايل عليه الأفلام العربية من دون جدوى، فإذا بها لا تنتقد مطلقاً، أو تتسلى بنقد مسائل تبقيها عمومية وهلامية مثل العولمة أو الفساد السياسي أو ما شابه من تطرقات لم تعد تثير أحداً. الى ذلك، ليس منها فيلم يدور عن الواقع بمفردات الواقع، كما هي الحال ليس فقط مع "زمن الجياد المترنحة"، بل أيضاً مع أفلام مثل "الدائرة" لجعفر باناهي و"الألواح السود" لسميرة مخملباف، وعشرات الأفلام الأخرى التي أنتجها سينمائيون ايرانيون في السنوات العشر الأخيرة. المخرج يقرر الى عالم مختلفة، ينقلنا الفيلم النروجي "الرجل الصغير الغريب"، لشتاين لايكانجر: قصة صبي صغير المقصود بالعنوان يعيش في بلدة غير بعيدة من العاصمة في ثلاثينات القرن العشرين، ولديه أسئلة حثيثة عن الحياة والموت والدين. مكوّنات الفيلم الفكرية ليست جديدة ولا تجد دعماً ممثلاً في قصة حقيقية، ما يبقيه استعراضاً لحالات غير مثيرة أو حتى مهمة. العنصر الوحيد المجدي هو تصويره بالتضامن مع تصميم مناظر وملابس تولد جواً حيوياً مشبعاً. الفيلم الكندي "مايلستروم" لدنيس فيلينوف يتحلى أيضاً بصورة منعشة في إطار فانتازي خلاب يشبه إطار فيلم المخرج السابق "32 من أغسطس". ولكن تحت سطح تلك الفانتازيا المطبقة اجتماعياً ضحالة فكرية ملحوظة. قصة الفتاة التي تملك مؤسسة للأزياء، لكنها لا تعرف كيف تديرها ورثتها عن أمها مرمية لدينا كواقع حال من دون أي ظرف أو ملابسات. كما في فيلمه السابق، علينا قبول ما يقدمه المخرج على الشاشة لمجرد أنه قرر أن ذلك غريب ومثير. لكن المشاهد يلتقط بعض المضامين الشخصية المثارة بمقدار من الاهتمام، خصوصاً في النصف الثاني من الفيلم مع تصوير الوضع الذي تنحدر اليه بطلة الفيلم ماري جوزيه كروز. لقاءات قصصية مشكلات اجتماعية من نوع آخر يطرحها الفيلم المكسيكي "الحب عهر". هذا الفيلم لمخرج شاب لافت هو اليخاندرو غونزاليس ايناريتو الذي يتعامل مع ثلاث قصص تلتقي جميعاً في حادث سيارة. يبدأ بالحادث ثم يعود الى الوراء مقدماً كل قصة على نحو منفصل: الشاب الذي يحاول الوصول الى الثروة النسبية طبعاً عبر طرق غير مشروعة، بينها اشراك كلبه القاتل في مباريات كلاب، ويحاول الهرب مع زوجة أخيه التي يحبها عندما تلاحقه سيارة عصابة اخرى ما يسبب الحادث. احدى ضحايا ذلك الحادث ممثلة اعلانات جميلة كانت في سيارة أخرى ولها علاقة لها بالعالم التحتي الأول. انها نجمة تفقد بريق حياتها في لحظة واحدة، وتخرج من المستشفى مقعدة ربما الى الأبد. الرجل الذي يحبها يترك زوجته من أجلها، لكنها لم تعد المرأة التي أحب. لديهما كلب صغير يختفي ذات يوم في حفرة في الأرض فتزداد حياة الاثنين تعاسة. القصة الثالثة عن قاتل يعيش في المدينة متسكعاً. هو الذي يأوي اليه الكلب القاتل في القصة الأولى إذ كان يمر في مكان الحادث حين وقوعه. يأخذه الى بيته ليكتشف لاحقاً أنه قتل كل كلابه الأخرى، وفي الوقت نفسه يخطط لقتل رجل تنفيذاً لطلب شقيق ذلك الرجل. كل هذه القصص وطريقة تفرعها من حادث واحد، مثيرة للاهتمام، لكنها لا تنشئ فيلماً قوياً متماسكاً كما يفترض. كذلك فإن تغيير أسلوب التصوير من قصة الى أخرى الأولى ذات نمط شبه تسجيلي/ واقعي والأخرى مؤسسة هوليوودياً الخ... لا يساعد في سد الفجوات القائمة بين تلك القصص. على رغم ذلك، خطف الفيلم جائزتي أفضل فيلم وأفضل مخرج من مهرجان طوكيو، وجوائز عدة في مهرجانات قبله. "على خفيف" في الأشهر القليلة الأخيرة تنافست افلام ألمانية عدة للوصول الى جائزتي الغولدن غلوب والأوسكار. وفي النهاية أسفرت المنافسة عن فيلمين أساسيين هما "غران باراديزو" و"بلا ملجأ". "غران باراديزو" مغامرة فوق إحدى قمم جبال الألب، أبطالها ثلاثة سجناء اطلقوا بشرط مساعدة شاب مقعد على تحقيق حلمه بالوصول الى قمة "غران باراديزو"، أي حمله الى القمة، وطبيبة نفسية آلت على نفسها تمكين المقعد من تحقيق ذلك الحلم، ومشرف على المساجين وعلى مريضين نفسيين. على عكس المغامرات الاميركية، تبقى القصة مشبعة بمقدار كبير من المبادلات الانسانية بين كل هذه الشخصيات ولو "على خفيف"، أي من دون العمق الذي كان في مقدور المخرج البرتغالي الأصل ميغويل ألكسندر اللجوء اليه، لو اختار. كلف أقل من 4 ملايين دولار في حين ان الفيلم الاميركي الحديث المشابه "حد عمودي" كلف 40 مليوناً، واكتفى بالجانب التشويقي وحده من تلك المغامرة. الفيلم الآخر هو أفضل فيلم تعامل مع وضع ناتج عن انهيار النظام الشيوعي، وبالتالي أحلام المؤمنين به، خرج في السنوات الأخيرة. قصة بالغة الدلالات معالجة بكاميرا أبيض/ أسود جميلة ومعمّقة للدائر من أحداث. انها كما لو كانت العالم عارياً من الخيال والحقيقة معاً، وهو وضع بطلة الفيلم الكاتبة التي تؤديها هالينور إلسنر. أفضل فيلم ألماني في الفيلم حول اسم الكاتبة الى هانا فلاندرز، لكن القصة تدور على الكاتبة الشيوعية غيزلا إلسنر التي انتحرت قبل تسع سنوات بإلقاء نفسها من شرفة عالية. المخرج أوسكار روهلر، هو ابن الكاتبة نفسها وقد حقق قبل ذلك فيلمين مثيرين للاهتمام هما "العد التنازلي لسيلفستر" و"شهوة للحياة". هذا الفيلم أفضل الثلاثة بأشواط. أما الممثلة هالينور إلسنر فلا قرابة لها بإلسنر الأخرى على رغم تشابه اسم العائلة. أحلام الكاتبة ومفاهيمها انهارت مع انهيار الجدار الفاصل بين الألمانيتين. اعتقدت ان انهيار النظام الشيوعي ما كان يجب أن يحدث. أما وقد حدث فقد وجدت نفسها على حافة مستقبل يبدو فارغاً لا وجهة فيه. تترك ميونيخ واعدة نفسها بالإقامة عند صديقها الناشر في برلين، لكنها تكتشف أنه لا يريدها. تلتقي محررة كانت قرأت لها ومعجبة بها، وهذه تقودها الى شقة تتخذ بيت ضيافة، لكنها شقة تقع في مبنى بشع في ضاحية لا تقل بشاعة. تبيت ليلة واحدة وتترك الشقة من دون أمل بالعثور على حل، لكن فتاة تتعرف إليها تأخذها الى عائلتها، ومن هناك تقرر العودة الى ميونيخ، من قبل أن يؤجر صاحب البيت شقتها. في الطريق الى هناك تعرج على صديق قديم تجد فيه نهايات آخر أمانيها، ثم تدخل مستشفى بسبب حال صحية طارئة، ومن إحدى نوافذ ذلك المستشفى ترمي نفسها في الفضاء الفاصل بينها وبين الأرض. الرحلة، كما النهاية، رمزيتان للرحلة التي في البال: امرأة مؤمنة بالمبدأ الشيوعي تكتشف أن الحياة كلها تتبخر سريعاً أمامها، وليس لديها من معين يساعدها على التحوّل والقبول او التغيير. فيلم آسر بصرف النظر عن موقع المرء منا والمخرج يتعامل مع حال إنسانية أولاً، وبمعالجة فنية رائعة في مفرداتها التعبيرية. تيتو المجنون واليهود الضحايا والموضوع الشيوعي متطرق اليه في أفلام أخرى عدة، سواء على صعيد المقارنة بين الوضع قبل التحولات الشهيرة وبعدها، او من خلال تناول مواضيع دارت داخل الزمن الشيوعي الأول. وكنت كتبت عن فيلمين ايطاليين متشابهين في هذا الصدد، هما "الخطوات المئة" لماركو توليو جيوردانا وهو الآن المممثل الرسمي للسينما الايطالية في مسابقة الأوسكار و"بلاسيدو ريتزوتو" لباسكال شيميكا. اليهما تمكن إضافة فيلم كرواتي عنوانه "روح المارشال تيتو" لفينكو بريسان. بعد بداية مثيرة للإهتمام يتخلى الفيلم عن كل تلك المناسبات التي كانت تستطيع حياكة أبعاده الفلسفية، مبقياً في يده خيطاً من الكوميديا الفانتازية لا تكفي لصنع فيلم جيد: اشاعة تقول إن الجنرال تيتو يظهر في بلدة قصية فتنتقل اليها جموع من الناس، معظمهم من قدامى المحاربين والشيوعيين، لكن بطل الفيلم، وهو شرطي بسيط، يكتشف أن الشبح الذي يظهر كتيتو ليس سوى مجنون من المصحة. إلا أن الشيوعيين يستولون على مقادير الحكم في تلك البلدة التي تقع على ساحل جزيرة صغيرة، وفي مشاهد ساخرة يقدمون الآخرين الى الحكم. المخرج بريسان لا تبدو لديه فكرة عما يريد الوصول اليه: سخرية من الأمس ام سخرية من الحاضر ام سخرية من كل شيء. أفضل منه قليلاً كرواتي آخر شوهد من هذا المنطلق هو "الموتى يغنون" لكريستو بابيتش: هناك شاعرية ورقة في هذه الكوميديا عن كرواتي يحاول قبض "بوليصة" تأمين بادعاء الموت، على أمل أن يتم تهريبه في التابوت الى بلدته الواقعة على الحدود الكرواتية - الصربية. بعد معاناة طويلة في سبيل تنفيذ هذه الخطة، يصل الى بلدة تعيش رحى حرب بين أشقاء الأمس. "منقسمين نقع"، للتشيكي يان هربيك: عن تواطؤ بين مسيحي وزوجته لإخفاء يهودي هارب من الملاحقة النازية، ثم تواطؤ بين مسيحي آخر والشيوعيين الذين حرروا الجمهورية لاتهام الأول بأنه متعاون مع النازية. على الشاشة هناك منطق جيد وراء ما يدور ضمن معالجة كوميدية ساخرة مثيرة معظم الوقت، إذ تمر بمراحل وهن متعددة من حين الى آخر. وقصة ذات طابع يهودي آخر في "رونق"، فيلم مجري من المخرج فيريغيز قدروش، تشابه في طابعها الفيلم الذي سبق لإيشتفان زابو أن قدمه في العام الماضي صنشاين، من حيث أنه يلم بعقد كامل من المتغيرات والمنحنيات على عائلة يهودية قبل النظام الشيوعي وخلاله وبعده. هنا اليهود هم الضحايا الأولى للشيوعية بأسرها، اذا صدّقنا ما يذهب اليه الفيلم. مفكرة عاطفية الفيلم الوحيد الذي يصل الى مصاف "بلا ملجأ" من حيث هضمه الحديث عن تلك المتغيرات والرمز الى التحولات في إطار معالجة فنية جيدة وجميلة، هو الروسي "مفكرة زوجته" لمخرج مقل هو ألكسي أوشيتل: قصة كاتب يهيم حباً بسكرتيرته الشابة التي تهيم حبا بصديقتها الجديدة، والكاتب متزوج من امرأة تهيم به حباً على رغم كل شيء. في إطار متشابك من العلاقات الباحثة عن استقرار داخلي مفقود، يستعرض الفيلم الحياة في زمن الثورة البولشيفية. لا يدخل فيها، بل يصوّر جانباً مما عنته تلك الحقبة وعكسته على الكاتب ومحيطه البورجوازي. وعلى صعيد مماثل ومن فيلم روسي آخر، شاهدنا قصة كاتب لا تختلف كثيراً الا في محيطها الزمني وتبعاته. الفيلم هو "حسد الآلهة" لفلاديمير ميتشوف. وهذا كان حقق نصراً تجارياً وفنياً كبيراً قبل نحو ثلاثة عشر عاماً عندما فاز فيلمه "موسكو لا تؤمن بالدموع" بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وحقق جائزة من مهرجان برلين ونجاحاً شعبياً كبيراً في بلد المنشأ.