بعد انتهاء عرض الفيلم الايطالي "بلاسيدو روزيتو"، لاحظ المخرج باسكال شيميكا ان الجمهور في دورة مهرجان البندقية الاخيرة، وقف مصفقاً لخمس دقائق للشريط. وقال: "الاستقبال الذي ووجه به الفيلم كان حاراً لم أتوقع مثله". بعد يويمن، وقبل عرض فيلم ايطالي آخر هو "الخطوات المئة"، تحدث المنتج فابريزيو موسكا قائلاً: "نال الفيلم ترحيباً حاراً جداً من الجمهور والنقاد الايطاليين على حد سواء". ولاحقاً الى مأدبة عشاء على شرف الفيلم، تحدث المخرج ماركو توليو جيوردانا بما يفيد الكلام نفسه. اذا كان كل من هؤلاء صادقاً، ولا يمكننا ادعاء غير ذلك، فإن ترحيب الجمهور والنقاد بالفيلمين خلال المهرجان الايطالي الأول، ليس العامل المشترك الوحيد بينهما. والمثير للاهتمام ان النقد الايطالي يكون عادة قاسياً بالنسبة الى ما تقدمه السينما الايطالية من عروض رسمية في مهرجان البندقية، نادراً ما يعجبه العجب. اما ان يعجبه العجب مرتين معاً على هذا النحو، فما هذا الا دلالة واعدة، خصوصاً اذا ارتبطت بموضوعي هذين الفيلمين. فالعوامل المشتركة فيهما تقع تحت مظلة الموضوع: كلاهما مقتبس عن حدثين واقعيين. كلاهما عن المافيا. كلاهما عن الشيوعية ومناهضتها المافيا. كلاهما عن قتل المافيا البطل الشيوعي في ظرفين متشابهيم والتحقيق وما آل اليه مصير المجرمين بعد ذلك. الفارق بين القصتين نحو خمسة عشر عاماً... واسم البلدة والشخصيات. موضوع متجدد الموضوع المافيوي في السينما الايطالية لم يهدأ مذ فتحه فرنشيسكو روزي، بين آخرين، في سلسلة من الافلام السود والبيض في الستينات، فيها "هيمنة على المدينة" 1963. وهناك مشهد من هذا الفيلم يعرض داخل فيلم "الخطوات المئة" استشهاداً على ضلوع السينما في تناول معضلة ايطاليا الاساسية عبر الاجيال، ونوعاً من التحية من المخرج جيوردانو للمخرج روزي. وهناك ما يستوجب التحية، فجيوردانو لا يحاول جديداً عندما يعتمد ممثلين أما جدداً تماماً واما غير معروفين الا قليلاً. ولكاميرا ذات منهج واقعي. فروزي فعل ذلك من قبل، وكان بين الفاعلين في الحركة الواقعية الايطالية. لكن المقارنة لن تكون لمصلحة جيوردانو، وإن كان الفيلم يحتوي حسنات اكيدة خارج نطاقها. حياة شخصية بعد مدة، تقلص فيها ذلك الاهتمام، عاد فاشتد بفعل افلام متلاحقة عدة، مطلع التسعينات اهمها - وافضلها بين ما شاهدت - فيلم للألمانية مرغريت فون تروتا بعنوان "الصمت الطويل" 1993، تحدث عن القاضي ماركو كونافا ادى الدور جاك بيرين الذي كان ممن تمت تصفيتهم، عندما تصدى للجريمة المنظمة مطلع التسعينات. عن كتابة جيدة لفيليس لويداديو، قدمت فون تروتا عملاً يسبر غور حياة القاضي الشخصية الموازية لحياته العملية، ونقلت احاسيس زوجة ادت الشخصية كارلا غرافينا تدرك أن عواقب وخيمة تنتظر زوجها، وبالتالي هي، لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً للحيلولة دون وقوع ذلك. "الخطوات المئة" يأتي عقب اهتمام زائد متبلور منذ ذلك الحين على شاشة التلفزيون مسلسلات ايطالية وفرنسية / ايطالية متعددة وفي الافلام. وهو عرض في مسابقة مهرجان البندقية، والآن يعرض على لفيف نقاد "جمعية مراسلي الصحافة الاجنبية" في هوليوود، وعلى أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية بغية الفوز الغولدن غلوب، من الجمعية، او بالأوسكار من الأكاديمية. تنطلق الأحداث في الستينات.: ببينو لويجي لو كاشيو صبي صغير في بلدة شينيسي. نتعرف الى عمه في تمهيد يصور لنا تعلق الصبي به، حتى اذا قتل الرجل في انفجار سيارة مدبر، تبنى الاشاعات القائلة أن رساماً ينتمي الى الحزب الشيوعي صفاه. يذهب ببينو الى الفنان طالباً منه رسم صورة لعمه، لكن الرسام عوض ذلك يعطيه درسه الأول في الشيوعية. بالإنتقال الى مطلع السبعينات، نتعرف الى ببينو وقد غدا شاباً يتولى وشقيقه الأصغر باولو بريغويا الدعوة الى الشيوعية وحمل لوائها بالنفس نفسه والحجم الداعي الى التصدي للمافيا، ما يثير أعضاء المافيا المحلية، لكنها تمتنع عن تصفيته بسبب احترامها والده لويجي ماريا بوروانو، أفضل ممثلي الفيلم. وهذا يحاول أن يردع إبنه الذي أسس محطة إذاعية لبث دعاياته، لكنه يخفق مرة تلو اخرى، ويعيش أزمة الإنتماء الى عائلتيه: أسرته الصغيرة والعصابة الكبيرة. ولكن، وبعد أحداث تستهلك معظم وقت الفيلم 105 دقائق يموت الأب متحسراً وتصل المقصلة الى ببينو الذي يدهمه ثلاثة اشخاص يلحقون بسيارته ويخطفونه ثم يقتلونه ويصورون العمل على أنه انتحار. المشاهد الأخيرة تصور خروج الشيوعيين الى الشارع في تظاهرة حاشدة تليها تعقيبات الفيلم لما حدث لبعض الشخصيات الرئيسية وكيف انتهى التحقيق بالقبض على الفاعلين ومحاكمتهم. خلال عرضه، يحيط الفيلم بشؤون اخرى عدة الى جانب مأزق الأب حيال وضع ابنه. ببينو مثلاً تبنى النظرية الشيوعية ودعا اليها ثم سمح لنفسه ولرفاقه بمزجها بالافكار التحررية التي انتشرت في الوقت نفسه، تحت ستار مناهضة المجتمع المنظم. مصدر هذه الافكار اوروبيون واميركيون ذهبوا الى هاري كريشنا ودرسوا حياة بوذا، وعادوا يؤمنون بالحرية الكاملة، بما في ذلك العري العام. ويسمح ببينو لرفاقه بالاندماج في هذه الحركة الاجتماعية الفوضوية، لكنه يفيق على حقيقة ان المزج خطير ويأكل من الافكار المبدئية للنظرية الشيوعية التي يدعو اليها، ما يدفعه الى الانفصال عنها ومناداة اصحابه الا ينسوا ان عدوهم الاساسي لا يزال المافيا. هذا فصل يطرحه الفيلم، في عناية، ويصل في نجاح على الصعيد السينمائي، اي من حيث تبلور هذا الخط في صميم طروحات الفيلم الاخرى، وعلى نحو يدعو الى الاهتمام. علاقة أبوية "بلاسيدو ريزوتو" هو الفيلم الايطالي الجديد الثاني عن موضوع المافيا عرض خارج مسابقة البندقية ثم في مهرجان تورنتو والقصة متشابهة ولو أنها تقع في قرية كورليوني وفي مرحلة مباشرة عن كثب، للحرب العالمية الثانية. مرة أخرى، نشهد وقائع قصة تبدأ مع ارتفاع في المد الشيوعي في تلك المنطقة الريفية الفقيرة بعد اندحار الفاشية، لكن هناك ايضاً الارتفاع المقابل للهيمنة المافيوية بلاسيدو مارشيللو مازاريللا يدعو اهل كورليوني الى مناهضة المافيا التي تريد الاستيلاء على الاراضي المهجورة لتشغيل الناس من دون ان يمتلكوا من تلك الاراضي شبراً. طريقته هي ان يستولي الفلاحون على تلك الاراضي بأنفسهم وهو ما يفعلونه في مشهد معبر ما يؤجج الصراع بين الطرفين خصوصاً بين المافيا وبلاسيدو كرأس القيادة المناهضة. في نهاية الفيلم، ايضاً ملاحقة، ثم اختطاف، ثم قتل. هنا ايضاً، في هذه القصة عامل الذاكرة. اذا كان بطل "الخطوات المئة" أثر فيه حادث موت عمه، فإن بطل "بلاسيدو ريتزوتو" أثر فيه وضع أبيه الذي حكمت عليه السلطة بالسجن لاتهامات ملفقة. وكما الفيلم السابق ينتقل "بلاسيدو ريزوتو" الى بضع سنوات الى الامام نشاهد فيه بطله وقد صار شاباً هضم فهم المواقف المتعددة على ارض الواقع، ولو أن هذا الفيلم أكثر تعبيراً عن تجاذب القوتين الاجتماعيتين للمصالح الاقتصادية وتأثيرها في حياة كل طرف. لكن "بلاسيدو ريزوتو" يخفق في صياغة الدراما الاجمالية. المخرج باسكال شيميكا يقدم فيلماً ينقسم، غصباً عنه، الى ثلاثة اجزاء: تأسيس الموضوع، ارتكاب الجريمة، ثم فتح التحقيق بأسلوب سينما السبعينات في بعض الافلام الايطالية والمصرية، اذ يتولى ضابط شاب عنيد ونبيل ارتو تودارو التحقيق في الجريمة بحثاً عمن ارتكبها ودوافعها من منطلق البحث عن الحقيقة وإثبات العدالة. ولكن الى ان تبدأ هذه المرحلة، يكون المشاهد، وتبعاً لتركيبة الفيلم غير الذكية، عرف مرتكبي الجريمة وسبق الضابط في فهم ظروفها وقبل ذلك مبرراتها، ما يجعل باقي الفيلم استطرادات ضعيفة الشأن والتأثير. وجهان للاغتصاب ضمن الخطوط الموازية التي يعمل عليها كلا الفيلمين، من المثير ملاحظة اهتمام كل منهما لا برصد قصة واقعية حدثت في المنطقة الايطالية الجنوبية نفسها، وخارج عاصمتها باليرمو، بل باستنباط العامل الاجتماعي المؤدي الى تضارب المصالح بين المافيا والشيوعية. فالعدو هنا، بالنسبة الى الشيوعيين، ليست الامبريالية او الفاشية او الرأسمالية الممثلة بالسلطة ولو ان هناك اتهاماً مبيتاً للسلطة في "الخطوات المئة" بل بالمافيا. والسبب ان بيئة على مثل ذلك الفقر، عليها ان تعتمد احدى نظريتين لمكابدة اوجاع الحياة: العصابة المنظمة التي تستطيع تشغيل بنية تحتية من العمل والاسر، والشيوعية التي تستطيع تشغيل بنية أكبر، لو نجحت في مواجهة المافيا. هاتان النظريتان من التعارض، فلا يمكنهما ان تتوافقا. كذلك، فإن ما يتسرب من كلا الفيلمين هو الموقف الأسروي، اذ ان كلا الأبوين يعارض انتماء ابنه الى خط يخرج عن إرادة المنظمة يرتبط الأب في "الخطوات المئة" بها بعلاقة قربى لبعض كبارها، ويخشاها الأب في "بلاسيدو ريزوتو" لأنه لا يراها مناوئة لشأنه وأمنه الا عندما يقتل ابنه. ايضاً من المثير ملاحظة الموقف الابعد الذي يتراءى في كلا الفيلمين: بطل "بلاسيدو ريتزوتو" يحب جارة تمنعها والدتها من لقائه، تحت ضغط رغبتها في تزويجها من قريب اعرج عضو المافيا. وعندما تفشل تسمح للقريب باغتصاب ابنتها جيويا سبازياني في مشهد مؤلم الوقع، وهو فعل يراد به اغتصاب بلاسيدو نفسه انتقاماً منه وتشنيعاً به وبحبه. في "الخطوات المئة" يُحيِّد دور المرأة باستثناء دور الأم التي تؤمن عميقاً بمنهج ابنها، ويركز عليها الفيلم كخط درامي ثان بعد وفاة الاب. غياب دور المرأة، حبيبة او خليلة، شبه الكلي يمكن اعتباره من عيوب الفيلم، الا اذا كان ببينو، في الواقع، لم يجد وقتاً للحب فعلاً. في نهاية "الخطوات المئة" تقف الام منتصرة في شكل ما. أحد أقاربها يسألها ناهراً: "أين هم اصدقاء ببينو؟ لم يظهروا في تأبينه". وما يكاد ينطق بذلك، حتى تتناهى من بعيد أصوات التظاهرة الكبيرة المقبلة. تقف الأم الى جانب النافذة. وتقول: "ها هم اصدقاء ابني". نهاية "بلاسيدو روزيتو" تختلف، من حيث الوقائع. لكنها تنشد ايضاً الاحتفاء بالقتيل كشهيد قضية. فالمحقق يقبض على الفاعلين. العدالة هنا تتم، من طريق الدولة التي نراها معادية في البداية، وحيادية في الوسط، وايجابية الدور في النهاية.