رغم أن قلبي ينفطر حزناً وأنا أرى على الشاشة الصغيرة مواكب تشييع شهدائنا في فلسطين إلى مثواهم الأخير وقد لفهم العلم الفلسطيني الحبيب وسط هتافات "الله أكبر"، ورغم مشاهدتي فرق "مغول" القرن ال 21 وهم يدمرون ويخربون المنازل والمساجد والكنائس ويقطعون أشجار "البيارات" بواسطة البلدوزرات والجرافات فتثور نفسي وانتفض كراهية وغضباً. أقول رغم كل ذلك فإن يقيني يزداد يوماً بعد يوم بأن العدو يعيش في يأس من الحاضر ورعب من المستقبل وأن الله يضع الغشاوة على بصائرهم وأنهم ينتحرون بطريقة "الهاراكيري" HARA-KIRI أو السوبوكو SEPPOKU ولكن في خسة ونذالة لا تشبه أبداً نبل وفروسية "وشياكة" الساموراي - وهم الطبقة العسكرية أيام عصر الاقطاع في اليابان - حينما كانوا يقومون بذلك بأن يشقوا بطونهم بسيوف قصيرة في سبيل اغراض يعتقدون في نبلها وسموها تستحق منهم بذل أرواحهم بسخاء! يدفعني إلى هذا اليقين الخطأ القاتل في استراتيجيتهم الحالية باستخدامهم القوة ووسائل العدوان كأسلوب وحيد لممارستهم السياسة، فوسط ما يقومون به الآن من أفعال إجرامية لمواجهة انتفاضة الأقصى يصرح ايهود باراك بأن "علاقة إسرائيل مع الفلسطينيين لم تكن يوماً علاقة زواج عن حب، وهو ما يدعونا إلى البحث عن طريقة انفصال عضوي باتمام طلاق متحضر من خلال اتفاقية السلام ما يمكّن كلانا من العيش داخل دولته". والشيء الغريب أن يصدر هذا القول من جنرال وصل إلى أعلى الرتب والمناصب في جيش الدفاع الإسرائيلي والمفروض فيه أن تكون له نظرة استراتيجية شاملة للأمور، فهو يتحدث عن طلاق لزواج لم يتم، وبذلك يقفز من فوق القضية الأساسية فيصبح أمامها وهي قابعة خلفه تهدد مصيره، ولو طال الزمن. فمفهوم استخدام القوة لدى الجنرال مفهوم خاطئ وكذلك مفهومه للسلام، فالقوة في مفهومه تقتل وتبطش وتخرب، والسلام في رأيه قطيعة وخصام! إطار خاطئ لمفاهيم خاطئة لا تنتهي إلا باستراتيجيات خاطئة تؤدي إلى الهلاك لأن الخطأ التكتيكي يسهل تصحيحه أما الاستراتيجية الخاطئة فتؤدي إلى الهاوية لأنها في حالتنا هذه تهتم بالتأمين الذاتي ولا تتعامل مع الأمن القومي. تأمين ذاتي لدولة تريد أن تعيش خلف جدران فاصلة تقطع علاقتها مع الجيران خائفة منهم حذرة من التعامل معهم، وهذا عكس الأمن القومي الذي يجعل إسرائيل تعيش بحدود مفتوحة لعلاقات طبيعية تصل بينها وبين الجيران، ولكن ماذا نقول في مفاهيم "الغيتو" المتأصلة فيهم أباً عن جد؟! إذا كان الجنرال يعتقد أنه باستراتيجية الفصل التي ينفذونها حتى وهم يتبادلون الحكم في لعبة السلطة تمكنه من أن يفر بالغنيمة وينتهي الأمر، فإن الفلسطينيين حريصون على عدم فك الاشتباك لأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، وأن استغلال النجاح أهم من تحقيقه، والسلام لا يكون سلاماً إلا بنزع الفتائل التي أدت إلى الصراع. فالمسألة ليست زواجاً أو طلاقاً لأنها تعني أخطر من ذلك، تعني حقوقاً تاريخية ورثناها عن الآباء والأجداد، كما تعني مقدسات غالية ثابتة ورثناها عن الأنبياء مدونة في الكتب المقدسة، فهي بذلك تعاليم إلهية لا يتجاهلها بشر. ولنترك ايهود باراك يعالج قضية الصراع العربي - الإسرائيلي بفكرة الزواج والطلاق والانفصال الحضاري الى شمعون بيريز الذي يقول في كتابه "الشرق الأوسط الجديد": إن أسباب النزاع الحالي هي اسباب اقتصادية واجتماعية أكثر منها سياسية، وعلينا أن نهتم بالديموقراطية لأن الأمم الديموقراطية لا تدخل في حرب ضد بعضها البعض لأنه اذا احتاج الطائر إلى تصريح من وزير الداخلية كي يحلّق واذا احتاجت السمكة إلى رخصة للسباحة فسنعيش في عالم لا يطير فيه طير ولا تسبح فيه سمكة، وحلُ الصراع الحالي يكمن في تصور "÷يلا" من طابقين يكوّن الطابق الأول التعاون الاقتصادي، أما الطابق الثاني فيتكون من الخلافات السياسية. والكلام ذو بريق ولكن حذار من ابتسامات بيريز لأن بروز أسنان الأسد لا يعني أنه يضحك إذ أنه يعني أن ما فات مات، فالحقوق التاريخية تقود إلى جدل عقيم لا طائل من ورائه. فلا فائدة من خوض مياه النهر مرتين. فحين تدخل النهر تتدفق عليك مياه جديدة لأن الأنهار في جريان دائم، وتدفقها المستديم يخلق وفاقاً جديداً قد يغرق المرء في مياهها، وينطبق الشيء نفسه على التاريخ ولا يوجد شعب في العالم كاليهود يعرف المعاناة الشخصية والعائلية والقومية، فنحن أمة من اللاجئين عرفنا معنى الطرد والإبادة HOLOCAUST وإسرائيل ليست مسؤولة عن واقع أن البلدان العربية لم تستوعب لاجئيها العرب بروح الإيثار والاخاء نفسها التي أبدتها إسرائيل ازاء لاجئي الحرب اليهود!! ولا أتوقع - هذا قول بيريز - أن يتقبل العرب موقفنا من المسائل التاريخية، فلنترك السجالات التاريخية للمؤرخين ولندع السياسيين يصوغون أهدافنا الحالية والمستقبلية، لنتجه إلى بناء شرق أوسط جديد. والأفكار كما نرى لا تعالج قضيتنا الخاصة باسترجاع الحقوق ولكنها تعالج قضيتهم الخاصة بتثبيت الأقدام عن طريق الاقتصاد مع تجاهل الحقوق التاريخية، وهذا ما يجعل الوصول إلى تفاهم مشترك قضية صعبة فجرت انتفاضة الحجارة وما تبعها من مجزرة قانا وانتفاضة الأقصى وما تبعها من مجازر دموية تفرقع حتى الآن وتقودهم إلى هاوية، إذ أنهم لا يعرفون حتى الآن أن السلام العادل هو مفتاح الموقف وأن ارجاع الحقوق التاريخية هو البديل لاتجاههم نحو الانتحار على طريقة "الهاراكيري" وبذلك فإنهم سيغرقون في بحار الدماء التي يصنعونها. وإذا كان ما يزال في الصبر بقية لنترك شمعون بيريز يعالج القضية ببناء "ال÷يلا" ذات الطابقين على أرض هشة من دون أن يكون لها أساس، لنرى ما يفكر فيه بنيامين نتانياهو وهو يحاول أن يجد لبلاده "مكاناً تحت الشمس". ففي رأيه - تماماً كبيريز - أن الدول الديموقراطية هي القادرة على تحقيق السلام، ولذلك فإن سلاماً بين الديموقراطيين الإسرائيليين يستحيل أن يتحقق مع الدكتاتوريات العربية، وأنه إذا كان لنهر الأردن ضفتان، فهذه لنا وتلك أيضاً، وكان هذا القول قبل اتفاقية السلام بين إسرائيل والاردن، وهذا يدل على مدى المبالغة في أقولهم، وعلينا أن نتذكر أن تاريخ "الليكود" مع القضية ربما يكون أفضل من حزب العمل، فقد وقع اتفاقات سلام مع مصر والاردن وذهب الى مؤتمر مدريد وأبقى على علاقاته المستمرة مع بعض البلدان العربية لمدة 15 عاماً، ما يثبت عكس ما ترسخ في الأذهان من أن حزب العمل هو الذي يعمل وحده من أجل السلام، علماً بأن "شهاب الدين" أسوأ من أخيه. يطالب "بي بي" بإيجاد توازن بين تدخل إسرائيلي أدنى في الشؤون الفلسطينية واجراءات أمنية قصوى ضد الإرهاب باتباع المطاردات الساخنة بواسطة الجيش وضد التهديدات العسكرية، خصوصاً من الشرق، بالاحتفاظ بالسيطرة على غور الاردن وبجبال الضفة الغربية والجولان مع الاحتفاظ بمنشآت عسكرية حيوية في المناطق ذات الاهمية الاستراتيجية، وعلى ذلك فتحقيق الأمن سيسبق تحقيق السلام... وهناك نوعان من السلام: سلام الدول الديموقراطية ويعني حدوداً مفتوحة وتجارة حرة وسياحة وتعاون في كل المجالات والاعتماد على الحوار وتحريم استخدام القوة والسلام مع الدول الديكتاتورية العربية التي تميل الى حل النزاعات الدولية بالطريقة نفسها التي تحل بها تناقضاتها الداخلية، أي باستخدام القوة، ولذلك لا ينفع معها الحلول الوسط أو إعطاء تنازلات، ويكون السلام معها سلام الردع مما يحتاج إلى تنمية القدرة على الاعتماد على الدفاع الذاتي وليس الاعتماد على قوى الغير لأنهم حتى يأتوا لينقذونا لن يجدوا ما ينقذونه، ومن يحرم من حمل السيف سرعان ما ينسى طريقة استخدامه، ويبدأ استعداده النفسي للمقاومة يتلاشى ويضعف، والضعف يغري بالعدوان. واعتماداً على هذه القوة يقول "من يتنازل عن الضفة الغربية والجولان يكون تخلى عن أمن إسرائيل، والحكم الذاتي للفلسطينيين ممكن، أما انشاء الدولة فمستحيل، وكذلك لا تفاوض من أجل القدس الموحدة مثلما لا يجوز التفاوض مع الاميركيين على واشنطن ومع الانكليز على لندن ومع الفرنسيين على باريس". والقوة وحدها هي حجر الزاوية لكل جهد يستهدف كسب حلفاء جدد أو المحافظة على تحالفات قائمة، وفي ظلها على ابناء "سارة" وابناء "هاجر" أن يعملا على تحقيق التعايش الحقيقي. وأحداث العقد الاخير من القرن الماضي أثبتت أن التقلبات في المنطقة ليس سببها إسرائيل، فأمامنا العدوان العراقي على الكويت. واثبتت ايضاً أن اتهام إسرائيل وحدها بطرد العرب غير صحيح، ففي العام 1991 طردت الكويت مواطنيها العرب من أصل فلسطيني. وأظن أن هذا يكفي من أقوال "سنزلا" لأنني لم أعد قادراً على اضافة ولو بعض أسطر أخرى! كلهم يكسب الوقت عن طريق حوار لا ينتهي حتى يبنوا مزيداً من المستعمرات ومن ثم يستحيل تغيير الأمر الواقع. وكما نرى فالفكر واحد سواء كانوا من"الدياسبورا" أو "الصابرا" وسواء كانوا من "الاشكيناز" أو "السفارديم" وسواء كانوا من السياسيين المدنيين أو العسكريين. فالسلام في ظل القوة ورسم الخرائط باستخدام القوة هو الذي يحقق الاستقرار ولا حديث أبداً عن حسن الجوار!!! هم يخشون الحرب، رغم قوتهم، ويخافون من السلام رغم ترسانتهم القوية، وكما استمروا في حرب دائمة لنصف قرن مضى، فإنهم سوف يستمرون في حرب دائمة حتى ينتحروا بيدهم ويصبحوا عبرة في التاريخ كغيرهم من العبر طالما لا يريدون أن يتعلموا من دروس غيرهم وطالما لا يستمعون إلى قول المحاسب العام الاميركي في أحد تقاريره التي قدمها الى البيت الأبيض والكونغرس "انقذوا إسرائيل من نفسها بتوجيهها الى السلام". يقصد السلام العادل وليس سلام الردع. * كاتب، وزير دفاع مصري سابق.