في عام 1992 صدر في دمشق كتاب محمد كامل الخطيب المجتمع المدني والعلمنة. وسوى ذلك، لم يعد القول في المجتمع المدني أن يكون شعاراً سياسياً، يتلامع باطراد في بعض النشرات السياسية المعارضة، حتى شرع بعض المثقفين يفصّلون القول في السنتين الأخيرتين. ومن اللافت هنا ان اتحاد الكتّاب في سورية كان قد أصدر عام 1997 كتاب المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي للكاتب التونسي توفيق المديني في قرابة تسعمئة صفحة من القطع الكبير، وفيه فصل خاص بسورية، لكنه يتوقف عند فترة الوحدة السورية المصرية 1958 - 1961. وقد تلت كتاب المديني دراسة بوعلي ياسين المثقفون العرب من سلطة الدولة الى المجتمع المدني، والتي نشرتها مجلة عالم الفكر الكويتية في العدد الثالث لعام 1999. لقد طبعت المحاولة النظرية والتاريخية لياسين والخطيب والمديني أغلب جهود الآخرين الى عهد قريب، ابتدأت فيه هذه الجهود بتدقيق القول في الحال السورية، عبر مقالات ومحاضرات وندوات، ربما كان أكبرها دوياً ما أرسله طيب تيزيني في الدولة الأمنية، مما توازى أخيراً مع حراك ثقافي مطرد باطراد رحابة الصدر الرسمي، وعبّر عن نفسه في تواتر المنتديات الثقافية غير الرسمية، وانشغالها بمواضيع الاصلاح والديموقراطية والعقلانية والحق، وسوى ذلك مما يتصل مباشرة أو مواربة بالمجتمع المدني، وهو ما باتت الصحف الرسمية تفسح لوجهات النظر فيه ومن آخر الأمثلة ثلاثية جمال الدين الخضور في جريدة تشرين. في هذا الذي بات خضمّاً يبدو وكأن المثقف السوري تائق الى الخروج من الهامش، محمّلاً بإرث باهظ ومتناقض، منه درس الفصل بين المثقف والسياسي الحاكم والمعارض، ومنه درس غرامشي، ومنه الغبطة بإشغال خشبة المسرح شبه الخالية من الفاعلية الاجتماعية السياسية التي لم يعد يكفي فيها الصوت الرسمي ولا أصداء سواه. وفي هذا الخضم تقوم أيضاً التنابذات والتواطؤات، وتستدعي الذاكرة ما سمّى به الشاعر والناقد وفيق خنيسة بعضهم منذ ربع قرن أباطرة المثقفين أو ما ينعت به المخرج هيثم حقي أحد عتاة المثقفين المعارضين حاخام اليسار... ومن خارج الخضمّ يتراوح الأمر بين الترحيب والتبني والتهدئة والارتباك، وصولاً الى المعارضة الصريحة لهذا الذي يتدافع مثقفون الى اقترافه، كما بدا في موقف رئيس اتحاد الكتّاب علي عقلة عرسان، من بيان ال99، في ما نشرت جريدة الوطن السعودية، إذ رأى انه لم يكن البيان ليصدر من داخل دمشق لولا الانفتاح الآن، وان رئيس الجمهورية سبق أصحاب البيان الى ما طالبوا به، وانهم ركبوا الموجة. ومن المعلوم ان بين الموقعين على البيان عدداً من أعضاء اتحاد الكتّاب. ولعل السؤال الأول هنا هو عن الانغلاق الذي كان إذاً، وما فعل الاتحاد إزاءه، فضلاً عن المفارقة بين الاتحاد وبين عدد من كبار المثقفين السوريين، كذلك عن المفارقة في لجوء رئاسة الاتحاد أخيراً الى التعيين فيما بدلت من ادارات الفروع في المحافظات، بينما كانت تلجأ من قبل الى الاستئناس غير الملزم برأي الأعضاء، وكان المأمول أن يتطور ذلك الى الانتخاب، على الأقل اقتداء بحزب البعث الذي يتقفاه - بدرجات - الاتحاد وسواه من المنظمات الشعبية، ايديولوجياً، وتنظيمياً. وعلى أية حال يظل قول رئيس الاتحاد أهون بما لا يقاس مما وصم به الشاعر فايز خضور والمتفرغ في الاتحاد في الجريدة السعودية نفسها، كل من وقّع على البيان: مهرجون وعملاء ودعاة تطبيع ومدللون وسوى ذلك مما وصم به أيضاً تركي صقر وعماد فوزي شعيبي أصحاب البيان، فهل للمرء أن يذكّر بما قاله فايز خضور نفسه في السفير 23-4-1997: "كنا في دمشق يقام علينا الحد من قبل خراتيت المدرسة التقليدية، لأننا عمل في الحداثة، حتى وصل بهؤلاء الوهم اننا عملاء للاستعمار والامبريالية وموظفون لتهديم التراث". أتراه الوهم نفسه يحكم اليوم من كان ضحيته بالأمس؟ على رغم ذلك كله، بدأت تلوح تباشير إثراء الحياة الثقافية والانتاج الثقافي، ومنها مثلاً انطلاق مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في دمشق، بإصداره العدد الأول من مجلته الفصلية دراسات استراتيجية. ومن المتوقع أن يشغل الحياة الثقافية السورية قريباً قانون المطبوعات وقانون حماية حقوق المؤلف، وأمر الصحافة الحزبية التي شُرّعت أخيراً لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، إذ تدفع بالأسئلة عن المثقف الحزبي، المثقف المستقل والصحافة الحزبية، الرقابة الحزبية من قبل أو من بعد الرقابة الرسمية... لقد اختلف الكثير في زمن قصير. ومع تقدير ما تحقق حق قدره، يحفل كل يوم بجديد وبتعقيد، فها هو عدد من المثقفين، بين السجناء السياسيين الذين أفرج عنهم بالأمس القريب أو بأمسه، يدلون بدلوهم أو يخرجون بما اكتنزوا من السجن أو يتعرّفون الى واقع جديد ويكابدون قولاً مضى وقولاً جديداً. وها هو عدد آخر من المثقفين، طال غيابهم القسري عن الوطن، مع ان مؤلفاتهم ولوحاتهم حاضرة فيه. ولئن كان القول يظل ناقصاً بغياب أولاء، فمن المؤكد السماح بعودة من يشاء منهم، سيكون عنصراً جديداً في الحياة الثقافية، فهل سيطول انتظارنا للقاء يوسف عبدلكي وبشار العيسى وصبحي حديدي ومحيي الدين اللاذقاني وسواهم، فيزداد الخضم خضمّاً بالحوار وبالاختلاف بين ومع الجميع؟ * كاتب سوري.