كان احد الشعارات التي رددها الرئيس الاميركي بيل كلينتون ان وجه حكومته هو "وجه اميركا" في اشارة الى تنوع الاصول العرقية والقومية فيها، والى اضطلاع بعض الشخصيات النسائية بحقائبها الوزارية. وكان في هذا الشعار غمز يقارب التصريح من قناة الحزب الجمهوري، الذي يتهمه خصومه من الديموقراطيين والتقدميين بأنه حزب الرجال الاثرياء البيض. ولم ينفع الجمهوريين، في مؤتمرهم العام الصيف الماضي، استعراضهم التنوع الموعود في حكومتهم، عبر تتالي الخطباء "العرقيين"، اذ حصل مرشحهم للرئاسة على ما لا يتجاوز 10 في المئة من الافارقة الاميركيين، وعلى نسب متدنية، بالمقارنة مع التوقعات، من اصوات الاقليات الاخرى والنساء. وفي هذه النتائج، دون شك، حافز للرئيس المنتخب جورج بوش، لتصحيح الخلل في التأييد الشعبي عبر ابراز الجانب التعددي للحزب الجمهوري. فجاءت تشكيلته الحكومية متنوعة، من حيث الانتماءات العرقية وبروز الوجوه النسائية فيها، بقدر لم يسبق له مثيل. وعلى رغم بعض الاصوات المشككة، فإن بوش الذي يعتز بسجله في حاكمية تكساس، حيث تمكن من حشد التأييد في صفوف الاقليات، ينفذ في اختياراته هذه وعداً انتخابياً. اما التشكيك بنواياه، فقد تراوح بين الاشارة الى ان التنوع المزعوم واجهة تعددية تخفي آحادية في المواقف المحافظة، وان النفوذ الفعلي ليس للوزراء بل لطواقمهم، وهذه ذات صبغة جمهورية تقليدية، وان الامر لا يتعدى المناورة الدعائية الهادفة الى تمتين التحكم الجمهوري بالكونغرس في العام 2002، او حتى ان معيار الاختيار لم يكن التعددية والكفاءة بل مستوى الخدمة التي اداها الوزير العتيد للرئيس المنتخب في معركته. ويندرج اختيار سبنسر ابراهام وزيراً للطاقة، وفق الرأي الناقد، في هذا الاطار الاخير. ذلك ان ابراهام، والذي تجمعه ببوش صداقة شخصية، بذل جهوداً مشهودة في ولايته ميشيغن لصالح المرشح الرئاسي الجمهوري. وفي حين ان جهوده، وجهود غيره، في هذه الولاية قد اثمرت كسباً لبوش بأصوات مندوبيها الانتخابيين، فإن ابراهام نفسه لم يتمكن من الفوز مجدداً بمقعده في مجلس الشيوخ عنها. فجاء اختياره لوزارة الطاقة مكافأة وتعويضاً. وسبنسر ابراهام من مواليد 1953. ولد في بلدة ايست لانسينغ في ولاية ميشيغن، ونشأ فيها. ودرس في جامعة الولاية وتخرج منها عام 1974، قبل ان يتوجه الى جامعة هارفارد العريقة لنيل شهادة الحقوق عام 1978. وطوال عقد الثمانينات، مارس ابراهام المحاماة في كل من العاصمة واشنطن وولايته ميشيغن، بالاضافة الى النشاط السياسي ضمن الحزب الجمهوري، اذ تولى منذ 1983 منصب المدير المسؤول عن الحزب للولاية المذكورة. وكان اول بروزه النسبي على المستوى السياسي الوطني في 1990، حين اختاره نائب الرئيس حينذاك دان كوايل، لموقع قيادي في طاقمه الخاص. ثم حين شارك في تولي ادارة اللجنة الحزبية الجمهورية لدعم المرشحين الجمهوريين للكونغرس بين 1990و 1992. وعند تولي كلينتون الرئاسة عام 1992، عاد ابراهام الى العمل الخاص، قبل ان يفوز عام 1994 بمعقد في مجلس الشيوخ في الكونغرس عن ولاية ميشيغن. ولكنه، رغم تواصله مع الاوساط الشعبية في ولايته، ورغم ادائه الجيد في مجلس الشيوخ، لم يتمكن من الفوز مجدداً في الانتخابات التي جرت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وقد يعود سقوطه في هذه الانتخابات امام منافسته الديموقراطية ديبي ستابيناو بالدرجة الاولى الى خسارته المعركة الاعلامية. فلا شك ان ابراهام يلتزم بصراحة وقناعة واصرار الخط المحافظ الاقتصادي، اي انه يحبذ انسحاب الدولة من دور الرعاية الى دور العناية في المواضيع الاقتصادية واستطراداً الصحية. وانطلاقاً من هذه القناعة تقدم باقتراحات لم يتم العمل بها تنقل العناية الطبية بالمسنين من القطاع العام الى مؤسسات القطاع الخاص. وقد استفادت ستابيناو، وهي يومها من ممثلي ولاية ميشيغن في مجلس النواب، من مواقفه المحافظة لتشن حملة شعبوية شددت فيها على معاناة المسنين في سعيهم الى الحصول على الدواء، بما في ذلك عبور الحدود الى كندا حيث الاسعار افضل. وعلى رغم ان الارصدة الانتخابية التي كانت في حوزة ابراهام قاربت ضعف ما كان لدى ستابيناو، فإن تركيزها على هذه المسألة الحساسة، واعتمادها على سجل خدمتها في مجلس النواب، قد جعلا منها منافسة خطيرة له. الا ان ابراهام ما كان ليخسر معركته الانتخابية لولا تدخل طرف ثالث، هو جمعية نافذة معادية للهجرة تعمل باسم "الاتحاد من اجل اصلاح الهجرة الاميركية". فقد كان ابراهام، في اطار مسؤولياته في مجلس الشيوخ، قد ترأس اللجنة الفرعية المعنية بموضوع الهجرة. وقد عمل من موقعه هذا لتليين اجواء التصلب شبه الاعتباطي التي تنتشر في بعض ارجاء المجتمع الاميركي وبعض اوساط الكونغرس ازاء هذا الموضوع. اذ شهدت الاعوام الماضية تشدداً تشريعياً يهدف الى فرض اطر صارمة للتحكم بالهجرة الوافدة الى الولاياتالمتحدة، الشرعي منها وغير الشرعي. والنتيجة الاولية لهذه الاطر، بالاضافة الى ما يمكن تصنيفه تجاوزاً فادحاً لحقوق الانسان مثل السجن او الترحيل على اساس ادلة سرية لا يحق للمتهم الاطلاع عليها، هي نزع صلاحية الحكم عن الحالات الخاصة من السلطات القضائية والزامها التقيد بجدول عقوبات غير قابلة للنقض. والواقع ان ابراهام انتهج اسلوباً تلطيفياً وحسب ازاء هذا التيار الجارف. الا ان "الاتحاد" المذكور انقض عليه خلال العام الماضي بشكل جارح عبر سلسلة من الاعلانات الدعائية التي تستثير المشاعر الانعزالية الكامنة في بعض الاوساط الاميركية. وعلى رغم تجنب "الاتحاد" الاشارة الواضحة الى اصول ابراهام اللبنانية، فإن الدعاية المعادية له طرحت تكراراً سؤال "من المستفيد؟" من مسعاه الى "تقويض" ضبط الهجرة. وتراوحت الاجوبة التي نشط "الاتحاد" بإيحائها ضمناً بين التحفيز الطبقي والتعبئة العنصرية. وعلى رغم تنصل ستابيناو من "الاتحاد" وحملته الدعائية، فإنها استفادت دون شك من الاذى الذي لحق بأبراهام، لا سيما وان اسلوب عمله تميز بالصمت. ولم ينفعه تدخل جون ماكين، الذي كان قد نافس بوش للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، تأييداً له، فخسر امام ستابيناو بفارق ضئيل. وكما جون آشكروفت قبله، كاد ابراهام ان يطوي صفحة العمل العام، الى ان جاءت دعوة صديقه بوش له لتولي منصب وزير الطاقة. والواقع ان ابراهام، من موقع التزامه الخط المحافظ الاقتصادي، سبق ان شارك بتقديم مشروع قانون يهدف الى الغاء وزارة الطاقة ونقل مهامها الى وزارة الخارجية، مع تشكيل وكالة تسوية لبرامج الطاقة تتولى سائر المهام الادارية المتعلقة بالموضوع. ويرى البعض بالتالي في اختياره وزيراً للطاقة مفارقة. ويذهب البعض الآخر الى اعتبارها دليلاً على نفاق بوش الذي يحاول الظهور بمظهر المعتدل الساعي الى التزام الوسط فيما هو عند اقصى المحافظة. والواقع ان مشروع قانون الالغاء الذي شارك فيه ابراهام من موقع المعارضة، قد يعبر بالفعل عن قناعته المبدئية. لكنه أبدى في ممارسته السياسية في مجلس الشيوخ قدراً فائقاً من الليونة والعمل على انتهاج الحلول الوسطى. وليس ما يشير الى انه، في موقع المسؤولية في السلطة الحكومية، سوف يغلّب المواقف العقائدية على الاعتبارات العملية. بل انه، في كلمته الاولى بعد اختياره لمنصب الوزير، قد اشار الى الخطوط العريضة لجدول اعماله من تأمين الكميات الاستهلاكية المطلوبة، وضبط الاسعار، وصولاً الى تطوير التقنيات الحديثة الكفيلة بخفض الاعتماد على الاستيراد، وضمان امن المنشآت، بما لا يختلف عن اولويات الحكومة الحالية. وقد يواجه ابراهام بعض المعارضة في جلسات تثبيته في منصبه الوزاري، لكن مسألة اقتراحه الغاء وزارة الطاقة قد تكون العذر لهذه المعارضة، لا جوهرها. يبقى ان سبنسر ابراهام لبناني الأصل، وهذه الاشارة في اطار الحياة السياسيةالاميركية لا تتجاوز الطابع الاستدراكي، نظرا لتنوع الاصول وتشعبها. وقد ابدى تكراراً اعتزازه بأصوله اللبنانية. ويُشهد له ان سجل تصويته في مجلس الشيوخ جاء متفقاً في معظم الاحوال مع مواقف الجالية العربية الاميركية، من دون ان يبتعد عن الخط الحزبي الجمهوري او النهج المحافظ. فهو لم يجرفه المدّ الاعلامي الذي يجعل من الضحية في فلسطين موضع النقد والنقض والتنديد والتهديد، ويجعل من اسرائيل القدوة والمثال والضحية التي تستحق كل دعم. فحين جرى استدارجه اعلامياً الى موقف محايد يدينه ذلك ان الإقرار بالحق الاسرائيلي في المجتمع والفكر الاميركيين يكاد ان يكون واجباً وإغفال المجاهرة بالتأييد لاسرائيل برهان عن سقوط اخلاقي فانه لم يتردد في التأكيد على ضرورة الكيل بمكيال واحد. ويذكر عرضياً ان منافسته يومذاك ديبي ستابيناو التزمت بدورها موقفاً حيادياً معتدلاً. لكن لا شك ان الوزن الانتخابي للمواطنين العرب الاميركيين في ميشيغين ساهم بتحييد المعركة الانتخابية في زمن كان المرشحون في معظم الولايات يستميتون في اعلان ولائهم للصديقة الضحية اسرائيل. على ان ابراهام يبقى في نهاية المطاف اميركياً اولاً. فهو، كما دونا شلالا وزيرة الصحة في حكومة الرئيس بيل كلينتون وهي ايضاً لبنانية الاصل، يبقى ملتزماً بمواقف حكومته مهما ابتعدت عن رغبات الجالية التي تعود اصوله اليها. بل انه عرضة للرقابة والتمحيص من الاوساط التي قد ترى في الاصل العربي موضعاً للريبة بقدر لا بد ان يلزمه المزيد من الحرص والتحفظ.