في الوقت الذي يتأرجح فيه الوضع الفلسطيني بين المواجهة مع الاحتلال والتسوية السياسية معه، لم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك في التلويح والتهديد بالحرب التي تنتظر المنطقة في حال فشل عملية التسوية مع الفلسطينيين. واذا كان ليس من المستغرب على جنرال ان يفكر بهذه العقلية في ظل تنامي المواجهات الفلسطينية - الإسرائيلية وما تثيره من تداعيات وتأثيرات على الجانب العربي، فإنه لا يمكن التهوين من هذه التصريحات التي جاءت بعد إجراء عملي اتخذه باراك منذ حوالى ثلاثة أشهر ويتمثل بإعطاء تعليمات لقادة الجيش بالاستعداد لخوض حرب اقليمية! ان أحد أهداف باراك من وراء إطلاق هذه التصريحات في الاعلام وعدم قصرها على تعليمات توجه لقادة أركان حربه، هو تخويف الشارع الإسرائيلي من مغبة عدم تأييد مواقفه من عملية التسوية ودفع هذا الشارع نحو تغيير توجهاته التي تجنح نحو انتخاب منافسه الليكودي آرييل شارون حسبما تشير اليه استطلاعات الرأي، وذلك عبر الاشارة غير المباشرة الى أن انتخاب شارون يعني انهاء عملية التسوية مع السلطة الفلسطينية والحرب مع الدول العربية، وهي النتائج التي لا يرغب بها الصهاينة بحسب فهم باراك، حيث سبق له ان انتقد تدني الروح المعنوية لدى الإسرائيليين بسبب سياسات ما سماه باليسار العفن في محاضرة ألقاها في كبار قادة الجيش في 25 تشرين الأول اكتوبر الماضي ونقلت اجزاء مطولة منها مجلة نتيف اليمينية. كما تؤكد الاستطلاعات وآخرها ما نشرته صحيفة معاريف العبرية بتاريخ 21/12/2000 ان 8.75 في المئة من الصهاينة يتخوفون من حرب مع احدى الدول العربية، وأن 7.87 منهم يخشون حرب استتراف في داخل الضفة الغربية، وأن 7.86 يخشون الى حد كبير من عمليات التفجير في مناطق ال 1948. ولكن محاولات باراك الضرب على وتر الخوف لدى الصهاينة شكلت فقط المدلولات النفسية والإعلامية لتصريحاته الأخيرة، بينما يظل الإطار العملي لها هو الأهم والذي تبدى في شكله الأولي من خلال لجوء قوات الاحتلال الى الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة انتفاضة الأقصى وتقصد ايقاع اصابات قاتلة في صفوف المنتفضين للحيلولة دون استمرارهم في مقاومة الاحتلال، وبالتالي وقف التفاعل الجماهيري العربي مع الانتفاضة والحيلولة دون اشتعال الجبهة اللبنانية التي يعتقد باراك وأركان حربه انها ستكون شرارة الحرب المتوقعة مع الدول العربية. وعلى رغم المبالغة التي قد ينطوي عليها التخويف من حرب في المنطقة، وذلك بسبب عدم رغبة جميع الأطراف المعنية بها وعدم سعيهم لها واستمرار تعويلهم على امكان نجاح عملية التسوية في تفكيك عناصر الصراع العربي - الصهيوني، الا ان امكانيات فشل هذه العملية التي تزايدت بعد انتفاضة الأقصى واستمرار القمع الإسرائيلي للفلسطينيين بما يشمل احتمال توجيه ضربة قاضية للسلطة الفلسطينية والتضحية بدورها الضابط لمناطق الحكم الذاتي وما يعنيه كل ذلك من ازدياد عوامل تسعير الصراع في المنطقة العربية وعلى الأخص في الجبهة اللبنانية من قبل حزب الله واللاجئين الفلسطينيين الذين لن يتم حل قضيتهم، قد يؤدي هذا كله الى اندلاع مواجهات بين الكيان الصهيوني من جهة ولبنان وسورية من جهة أخرى، حيث يلوح الصهاينة بضرب القوات السورية المتواجدة في لبنان في إطار أي تصعيد على لبنان مع فلسطينالمحتلة. ولا تستبعد التكهنات الصهيونية تدخل ايران والعراق لدعم سورية في حالة استهدافها من قبل القوات الصهيونية بما يشمل استخدام الصواريخ بعيدة المدى ضد المدن والتجمعات الإسرائيلية اضافة الى تدخل مصر بشكل أو بآخر لحماية السلطة الفلسطينية من العدوان الإسرائيلي أو على الأقل تأمين المأوى والحماية للقيادة الفلسطينية وتشجيع عمليات المقاومة الشعبية ضد الكيان الصهيوني. ان هذا السيناريو الذي يطرحه العسكريون الصهاينة بصرف النظر عن احتمالات حدوثه وتطوره يؤكد من جديد ان عملية التسوية التي انطلقت منذ أكثر من عشر سنوات لم تؤسس لسلام حقيقي يقوم على التعايش بين العرب والصهاينة لأنها لم تستطع ان تقدم معالجة حقيقية لتفكيك عوامل الصراع في المنطقة وعلى الأخص انهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية. تماماً كما انها لم تنجح في زحزحة تمسك العرب بحقوقهم واصرارهم على انتزاعها من الصهاينة بكل الوسائل المتاحة، هذا فضلاً عن رفض الشارع العربي لأية خطوات تطبيع مع العدو حتى ولو بعد انهاء احتلاله للأراضي العربية. ولم تكن الاستعدادات الصهيونية للحرب والتلويح بها إلا احدى المؤشرات على العقلية الصهيونية التي ترى ان أي سلام مع العرب يجب ان يقوم على تكريس الهيمنة والتفوق الصهيوني العسكري على محيطه العربي بما يؤهله لفرض شروطه في عملية التسوية، حيث عبّر الصهاينة عن هذه العقلية في ميدان المفاوضات كما في ميدان المواجهات ولم تختلف مواقفهم هذه سواء في الفترات التي حكم فيها العمل أو الليكود. ولئن حاول الصهاينة التلويح بالخسائر التي قد يتكبدها العرب في حالة اشتعال حرب في المنطقة في محاولة للضغط عليهم للقبول بما هو مطروح من حلول سلمية هزيلة، فإن الوقائع تشير إلى أن هذا التلويح قد لا يحقق النتيجة المطلوبة. فمن ناحية لا يستطيع القادة العرب الموافقة على حلول تبقي للصهاينة أي شكل من أشكال السيادة الصهيونية على القدس ولا تتيح للاجئين الفلسطينيين العودة الى ديارهم وبيوتهم التي هجروا منها لأن نتائج ذلك قد تكون سلبية جداً على هذه الأنظمة. ومن زاوية اخرى وهي المتعلقة بموضوع الحرب، فإن امتلاك بعض الدول العربية لصواريخ بعيدة المدى يشكل توازن رعب مع الأسلحة النووية التي يمتلكها الصهاينة مما يجعل العدو نفسه في خانة الخوف والتحسب من نشوب الحرب ويدفعه الى العمل على عدم اندلاعها. وما يعزز ذلك تراجع القدرة الردعية لجيش العدو بسبب الترهل الذي يمنعه من الاستفادة القصوى من قوات احتياطه التي تمثل ثلثي قواته المقاتلة، وهو ما دعى مجلة نتيف الصهيونية الى وصف المعطيات القائلة بأن الكيان الصهيوني يستطيع تجنيد جيش احتياط قوامه 400 ألف رجل بأنه سخافة تامة! ويضاف الى ذلك حالة الاستنزاف التي تعاني منها هذه القوات بسبب استمرار الانتفاضة التي أدت - اضافة الى الهزيمة المنكرة التي لحقت بها في جنوبلبنان - الى تدني معنويات الجيش والجمهور الإسرائيلي بعد ان نجحت الانتفاضة في ايقاع خسائر مهمة في أوساط الجيش في المناطق المحتلة عام 1967 والمدنيين في الأراضي المحتلة عام 1948. وما بين الاستخدام الاعلامي والاستعداد العملي له على الأرض، يبقى سيناريو الحرب في المنطقة احتمالاً قائماً بصرف النظر عن الطريقة التي قد تندلع بها هذه الحرب. * كاتب فلسطيني.