هذه هي المقالة الاولى ضمن سلسلة حول الدور الذي اُسيىء فهمه واُسيىء تقديره للصهيونية الاميركية في قضية فلسطين. وحسب ما أرى فإن دور الجماعات والانشطة الصهيونية في الولاياتالمتحدة لم تعالج بصورة كافية خلال مرحلة "عملية السلام"، وهو اهمال اجد انه مدهش تماماً آخذاً في الاعتبار ان السياسة الفلسطينية تمثلت اساساً بالقاء مصيرنا كشعب في احضان الولاياتالمتحدة من دون اي ادراك استراتيجي للطريقة التي تخضع بها السياسة الاميركية عملياً للهيمنة، إن لم يكن للسيطرة كاملة، من جانب اقلية صغيرة تبدو مواقفها من السلام في الشرق الاوسط بشكل ما اكثر تطرفاً حتى من تلك التي تتبناها كتلة ليكود في اسرائىل. دعوني اقدم مثالاً بسيطاً. قبل شهر اوفدت صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية احد كتاب اعمدتها البارزين، آري شافيشت، ليمضي بضعة ايام في التحدث معي. ونُشر ملخص جيد لهذه المحادثة الطويلة كمقابلة بصيغة سؤال وجواب في ملحق الصحيفة الصادر في 18 آب اغسطس الماضي، من دون ان تُحذف مقاطع منها او تخضع للرقابة. وقد عبّرت عن وجهات نظري بصراحة تامة مع تأكيد كبير على حق العودة واحداث العام 1948 ومسؤولية اسرائيل عن هذا كله. اثار استغرابي ان تُعرض آرائي كما عبّرت عنها بالضبط، من دون ادنى تحريف من جانب شافيت الذي كانت اسئلته دائماً كيّسة وغير استفزازية. بعد اسبوع على نشر المقالة جاء رد عليها من ميرون بنفنيستي، النائب السابق لرئيس بلدية القدس تيدي كوليك. اتسم الرد بطابع شخصي مثير للاشمئزاز، وكان يطفح بالاهانات وتشويه السمعة ضدي وضد عائلتي. لكنه لم ينكر ابداً ان هناك شعباً فلسطينياً، او اننا شُرّدنا في 1948. لقد قال في الواقع، نحن قهرناهم، ولماذا ينبغي ان نشعر بالذنب؟ بعثت برد على بنفنيستي نشرته "هآرتس" بعد ذلك باسبوع: ما كتبته نُشر ايضاً من دون حذف. ذكّرت القراء الاسرائيليين بان بنفنيستي كان مسؤولاً عن تدمير والارجح انه كان على معرفة بقتل عدد من الفلسطينيين حارة المغاربة في 1967 التي فقد فيها مئات عدة من الفلسطينيين منازلهم تحت جنازير البلدوزرات الاسرائيلية. لكنني لم اكن بحاجة الى تذكير بنفنيستي او قراء "هآرتس" بأننا كشعب موجودون ويمكن على الاقل ان نناقش حقنا في العودة. فهذا امر مفروغ منه. توجد هنا نقطتان. الاولى هي ان المقابلة كلها ما كان يمكن ان تظهر في أي صحيفة اميركية، وقطعاً ليس في أي صحيفة اميركية - يهودية. ولو كانت هناك مقابلة فإن الاسئلة الموجهة اليّ كانت ستكون عدائية ومتغطرسة ومهينة، مثلاً، لماذا كنت متورطاً في الارهاب، ولماذا ترفض الاعتراف باسرائيل، ولماذا كان الحاج امين نازياً، وهلم جراً. النقطة الثانية هي ان صهيونياً اسرائيلياً يمينياً مثل بنفنيستي، مهما كان يمقتني او يمقت آرائي، لن ينكر ان هناك شعباً فلسطينياً اُجبر على الرحيل في 1948. لكن صهيونياً اميركياً سيظل يقول انه لم يكن هناك اي احتلال او، كما زعم جون بيترز في كتاب صدر في 1948 بعنوان "منذ زمن سحيق" وقد اختفى الآن وكاد يطويه النسيان فاز بكل الجوائز اليهودية عندما ظهر في اميركا، لم يكن هناك اي فلسطينيين يعيشون في فلسطين قبل 1948. سيعترف كل اسرائيلي من دون تردد، وهو يعرف تماماً، بان اسرائيل بكاملها كانت في ما مضى فلسطين، اي كما قال موشي دايان علناً في 1976 ان كل بلدة او قرية اسرائيلية كان لها يوماً اسم عربي. ويقول بنفنيستي بشكل صريح "نحن" انتصرنا، ثم ماذا؟ لماذا ينبغي ان نشعر بالذنب بشأن الانتصار؟ اما الخطاب الصهيوني الاميركي فإنه ليس صادقاً بشكل صريح على هذا النحو اطلاقاً. فهو يجب ان يلف دائماً ويتحدث عن جعل الصحراء تُزهر، وعن ديموقراطية اسرائيل، وغيرها، متحاشياً كلياً الحقائق الاساسية عن 1948 التي عاشها فعلاً كل اسرائيلي. بالنسبة الى الاميركي تمثل هذه في الاغلب تخيلات، او اساطير، وليست وقائع. ويبلغ مدى ابتعاد انصار اسرائيل الاميركيين عن الواقع، وانغماسهم في تناقضات الشعور بالذنب الذي تولده حياة الشتات فماذا يعني ان يكون المرء صهيونياً ولا يهاجر الى اسرائيل؟ ونزعة الغرور باعتبارهم الاقلية الاكثر نجاحاً والاكثر نفوذاً في الولاياتالمتحدة، حداً يجعل ما يظهر في معظم الاحيان مزيجاً مرعباً من ممارسة العنف بالنيابة عن آخرين ضد العرب وخوفاً وكرهاً عميقين لهم، وهو نتيجة لعدم وجود اي تماس مباشر ودائم مع العرب بخلاف اليهود الاسرائيليين. لا يمثل العرب اذاً بالنسبة الى الصهيوني الاميركي اشخاصاً حقيقيين بل تخيلات عن كل شيىء تقريباً يمكن تبشيعه وازدراؤه، وبالأخص الارهاب ومناهضة السامية. تسلمت اخيراً رسالة من احد طلبتي القدامى، ممن اُتيحت لهم فرصة الاستفادة من ارقى تعليم متوافر في الولاياتالمتحدة، يسألني فيها رغم كل شيىء بصدق وكياسة لماذا اسمح كفلسطيني لنازي مثل الحاج امين ان يستمر في تحديد اجندتي السياسية. وقال مجادلاً "قبل الحاج امين لم تكن القدس مهمة بالنسبة الى العرب. ولانه كان شريراً تماماً فقد جعل منها قضية مهمة للعرب لاحباط التطلعات الصهيونية التي اعتبرت القدس دائماً مهمة". لا يمثل هذا منطق شخص عاش مع العرب ويعرف شيئاً ملموساً عنهم. انه منطق شخص يتكلم بخطاب منظم وتحركه ايديولوجية لا تعتبر العرب سوى دالاّت سلبية، يجسدون مشاعر عنفية مناهضة للسامية، ولذا ينبغي محاربتهم والتخلص منهم اذا امكن ذلك. ولم يكن محض صدفة ان يكون الدكتور باروخ غولدشتاين، الذي قتل بصورة مروعة 29 فلسطينياً كانوا يصلون بخشوع في الحرم الابراهيمي في الخليل، اميركياً، كما كان الحاخام مائير كاهانا. وبدلاً من اعتبار كاهانا وغولدشتاين حالتين شاذتين تشكلان احراجاً لاتباعهما، يُنظر اليهما في الوقت الحاضر بتبجيل من جانب آخرين على شاكلتيهما. كما ان كثرة من المستوطنين المتطرفين اليمينيين الاكثر تعصباً الذين يجثمون على اراض فلسطينية، ويتحدثون بقسوة عن "ارض اسرائيل" باعتبارها عائدة لهم، ويكرهون ويتجاهلون المالكين والمقيمين الفلسطينيين الذين يحيطون بهم، ولدوا هم ايضاً في اميركا. ويبدو المشهد مرعباً عندما تراهم يسيرون في شوارع الخليل كما لو كانت هذه المدينة العربية كلها ملكاً لهم، ويفاقم ذلك ما يظهرونه من استخفاف وازدراء سافرين ضد الغالبية العربية. الفت الانتباه الى هذا كله لتثبيت نقطة اساسية واحدة. عندما اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية في اعقاب حرب الخليج القرار الاستراتيجي - الذي كان بلدان عربيان رئيسيان حسماه قبل المنظمة - بالعمل مع الحكومة الاميركية واذا امكن مع اللوبي النافذ الذي يتحكم بمناقشة سياسات الشرق الاوسط، فإنها اقدمت على هذه الخطوة كما فعل البلدان العربيان قبلها بالاستناد الى جهل هائل وافتراضات خاطئة على نحو استثنائي تماماً. كانت الفكرة، كما اوضحها لي ديبلوماسي مصري كبير بعد 1967 بوقت قصير، هي ان يتم الاستسلام عملياً ويقال اننا لن نواصل الكفاح بعد الآن. نحن الآن مستعدون لأن نقبل اسرائيل ونقبل ايضاً دور الولاياتالمتحدة المقرر في مستقبلنا. كانت هناك اسباب موضوعية وراء وجهة نظر كهذه في ذلك الحين، كما هي الحال الآن، مثل التساؤل عن جدوى مواصلة المعركة كما فعل العرب تاريخياً اذا كان ذلك سيؤدي الى هزيمة اخرى وحتى كارثة. لكنني اعتقد بقوة انها كانت سياسة خاطئة ان يُلقى بسياسة العرب ببساطة في احضان الولاياتالمتحدة، وفي احضان المنظمات الصهيونية الرئيسية ايضاً لان الاخيرة تمارس نفوذاً كبيراً في كل مكان في الولاياتالمتحدة، معلنين في الواقع اننا لن نقاتلكم، دعونا ننضم اليكم، لكن رجاءً احسنوا معاملتنا. كان الامل هو اننا اذا تنازلنا وقلنا نحن لسنا اعداءكم سنصبح كعرب اصدقاءهم. المشكلة تكمن في التفاوت في القوة الذي ظل قائماً. فمن وجهة نظر الاقوى، اي تأثير سيطرأ على استراتيجيتك اذا كان خصمك الاضعف يقرّ بعجزه ويقول ليس هناك شيىء آخر اقاتل من اجله، خذني، اريد ان اكون حليفاً لك، حاول فحسب ان تفهمني بشكل افضل وربما ستكون عندئذ اكثر انصافاً؟ احدى الوسائل المفيدة للاجابة على هذا السؤال بطريقة عملية وملموسة هي ان نلقي نظرة على آخر تطورات الاحداث في السباق الانتخابي على مقعد ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ، حيث تتنافس هيلاري كلينتون مع الجمهوري ريك لازيو على المقعد الذي يشغله حالياً الديموقراطي دانييل باتريك موينيهان الذي سيتقاعد من منصبه. فقد اعلنت هيلاري العام الماضي انها تؤيد اقامة دولة فلسطينية، وخلال زيارة رسمية الى غزة مع زوجها عانقت سهى عرفات. إلاّ انها منذ دخول السباق الانتخابي في نيويورك بزّت حتى اكثر الصهاينة يمينيةً في حماسها لاسرائيل ومعارضتها لفلسطين، بل ذهبت الى حد تأييد نقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس و ما هو اكثر تطرفاً تأييد تخفيف الحكم الصادر بحق جوناثان بولارد، الجاسوس الاسرائيلي الذي دين بالتجسس ضد الولاياتالمتحدة ويقضي الآن حكماً بالسجن مدى الحياة. وقد حاول خصومها الجمهوريون احراجها بتصويرها على انها "نصيرة متحمسة للعرب" وبترويج صورة فوتوغرافية تظهر فيها وهي تعانق سهى. وبما ان نيويورك هي قلعة النفوذ الصهيوني فإن اطلاق نعوت مثل "نصيرة متحمسة للعرب" و "صديقة سهى عرفات" يعادل اسوأ اهانة ممكنة. هذا كله على رغم ان عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية هما حليفان معلنان لاميركا، ويتلقيان مساعدات عسكرية ومالية اميركية، ويستفيدان في مجال الامن من الدعم الامني لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي أي". في غضون ذلك، وزع البيت الابيض صورة فوتوغرافية يظهر فيها لازيو وهو يتصافح مع عرفات قبل عامين. واضح ان كل ضربة تستحق الاخرى. الحقيقة التي لا مراء فيها هي ان الخطاب الصهيوني هو خطاب القوة، والعرب في هذا الخطاب هم اهداف للقوة - واهداف محتقرة ايضاً -، وبعدما راهنوا على هذه القوة باعتبارهم خصمها السابق المستسلم لم يعد بامكانهم ان يتوقعوا ابداً ان يكونوا على قدم المساواة معها. ومن هنا المشهد المخزي والمهين لعرفات رمز العداء دائماً وابداً بالنسبة الى عقل الصهيوني وهو يستخدم في سباق محلي تماماً في الولاياتالمتحدة بين خصمين يحاولان ان يبرهنا ايهما اكثر تأييداً لاسرائيل. علماً ان اياً من الاثنين، هيلاري كلينتون وريك لازيو، ليس حتى يهودياً. ما سأناقشه في مقالتي المقبلة هو كيف ان الاستراتيجية السياسية الممكنة الوحيدة تجاه الولاياتالمتحدة، بمقدار ما يتعلق الامر بسياسة العرب والفلسطينيين، ليست اقامة حلف مع الصهاينة او مع السياسة الاميركية بل تنظيم حملة تعبئة جماهيرية موجهة الى السكان الاميركيين لمصلحة حقوق الفلسطينيين الانسانية والمدنية والسياسية. كل الترتيبات الاخرى، سواء اوسلو او كامب ديفيد، مصيرها الفشل لأن الخطاب الرسمي يخضع كلياً، ببساطة، لهيمنة الصهيونية، وما عدا استثناءات فردية لا توجد اي بدائل له. لذا فإن كل ترتيبات السلام التي تتم على اساس تحالف مع الولاياتالمتحدة هي تحالفات تعزز النفوذ الصهيوني بدلاً من التصدي له. ان الاذعان بانبطاح لسياسة شرق اوسطية يتحكم بها الصهاينة، كما فعل العرب على مدى ما يقرب من جيل حتى الآن، لن يحقق الاستقرار في بلادهم او المساواة والعدل في الولاياتالمتحدة. ومع ذلك، تكمن المفارقة في انه يوجد داخل الولاياتالمتحدة كتلة رأي ضخمة مستعدة لاتخاذ موقف نقدي تجاه اسرائيل والسياسة الخارجية للولايات المتحدة على السواء. والمأساة هي ان العرب يعانون الضعف والتشرذم وغياب التنظيم والجهل الى حد يحول دون امكان الاستفادة منها. وسأناقش في مقالتي ايضاً الاسباب التي تكمن وراء ذلك، لأن طموحي هو ان اسعى الى الوصول الى جيل جديد ربما يعاني الحيرة والاحباط معاً بسبب الموقع البائس والمُزدرى الذي توجد فيه الآن ثقافتنا وشعبنا، والاحساس الدائم بالخسارة المثيرة للسخط ولكن المهينة التي نعانيه جميعاً نتيجة ذلك. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.