حان الوقت مرة اخرى، آخذين في الاعتبار انهيار حكومة نتانياهو بسبب اتفاق السلام في "واي"، للتساؤل اذا كانت عملية السلام برمتها التي بدأت في اوسلو في 1993 تمثل الاداة السليمة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وأتبنى وجهة النظر القائلة بأن عملية السلام أدت في الواقع الى تأجيل المصالحة الحقيقية التي يجب ان تتم اذا كان لحرب المئة سنة بين الصهيونية والشعب الفلسطيني ان تنتهي. لقد مهّد اتفاق اوسلو للانفصال، لكن لا يمكن للسلام الحقيقي ان يتحقق الاّ بدولة اسرائيلية - فلسطينية ثنائية القومية. ليس من السهل تخيّل هذا الامر. فالخطاب الصهيوني - الاسرائيلي والخطاب الفلسطيني متضادان ويتعذر التوفيق بينهما. يقول الاسرائيليون انهم خاضوا حرب تحرير وهكذا احرزوا الاستقلال، فيما يقول الفلسطينيون ان مجتمعهم دُمّر وشُرّد معظم السكان. وفي الواقع، كان هذا التضارب واضحاً تماماً بالفعل لأجيال عدة من الزعماء والمفكرين الصهاينة الاوائل، كما كان كذلك بالطبع لجميع الفلسطينيين. يقول المؤرخ الاسرائيلي البارز زيف ستيرنهل في كتابه الاخير "خرافات تأسيس اسرائيل" ان "الصهيونية لم تكن تجهل وجود العرب في فلسطين. فحتى الشخصيات الصهيونية التي لم تزر البلاد ابداً كانت تعرف انها ليست خالية من السكان. في الوقت نفسه، لم تتمكن الحركة الصهيونية في الخارج او الرواد الذين بدأوا بالاستيطان في البلاد من صوغ سياسة تجاه الحركة الوطنية الفلسطينية. ولم يكن السبب الحقيقي وراء ذلك يرجع الى افتقار لفهم المشكلة بل الى ادراك واضح للتناقضات التي لا يمكن تجاوزها بين الاهداف الاساسية للطرفين. فاذا كان المثقفون والزعماء الصهاينة تجاهلوا المعضلة العربية فإن ذلك يرجع بشكل اساسي الى كونهم ادركوا ان لا حل لهذه المشكلة ضمن طريقة التفكير الصهيونية". كان موقف بن غوريون، على سبيل المثال، يتسم دائماً بالوضوح. قال في 1944 "ليس هناك في التاريخ مثال على شعب يقول نوافق على ان نتخلى عن بلادنا، دعوا شعباً آخر يأتي ويستوطن هنا ويفوقنا عدداً". ولم يكن لدى زعيم صهيوني آخر، هو بيرل كاتزنلسون، أي اوهام ايضاً بشأن استحالة التغلب على التعارض بين اهداف الصهاينة والفلسطينيين. وكان دعاة الدولة الثنائية القومية مثل مارتن بوبر وجوداه ماغنس وحنة اريندت يدركون تماماً كيف سيكون عليه الصدام، اذا وقع فعلاً، كما حدث بالطبع. كان العرب الفلسطينيون، بحكم تفوقهم العددي الهائل على اليهود، يرفضون دائماً خلال الفترة التي اعقبت اعلان بلفور في 1917 والانتداب البريطاني أي شىء من شأنه ان يهدد هيمنتهم. وليس من الانصاف عند إستعادة الماضي الانتقاص من الفلسطينيين لعدم قبولهم التقسيم في 1947. فحتى 1948، لم يكن الصهاينة يسيطرون الاّ على حوالي 7 في المئة من الارض. تساءل العرب عندما قُدّم قرار التقسيم لماذا ينبغي ان نتنازل عن 55 في المئة من فلسطين لليهود الذين كانوا اقلية في فلسطين؟ لم يسلّم اعلان بلفور او الانتداب اطلاقاً بشكل محدد بأن للفلسطينيين حقوقاً سياسية، مقابل الحقوق المدنية والدينية، في فلسطين. لذا كانت فكرة عدم المساواة بين اليهود والعرب متأصلة منذ البدء في سياسة بريطانيا، وفي سياسة اسرائيل والولايات المتحدة في ما بعد. يبدو النزاع مستعصياً على الحل لأنه صراع على الارض ذاتها بين شعبين يؤمنان بأن لهما حقاً شرعياً فيها ويأمل كل منهما بأن يتخلى الطرف الآخر عنها عاجلاً او آجلاً او يرحل. انتصر احد الطرفين في الحرب، وخسر الآخر، لكن النزاع لا يزال قائماً على أشدّه. نحن الفلسطينيين نتساءل لماذا يحق ليهودي ولد في وارسو او نيويورك ان يستوطن هناك وفقاً ل "قانون العودة" الاسرائيلي، بينما لا يحق ذلك لنا نحن، الشعب الذي عاش هناك طوال قرون. وتفاقمت القضية بعد 1967. فأدت سنين من الاحتلال العسكري الى نشوء مشاعر سخط ومهانة وعداوة لدى الطرف الاضعف. ويؤخذ على اتفاق اوسلو انه لم يفعل شيئاً لتغيير الوضع. وجرى تحويل عرفات والعدد المتضائل من انصاره الى عناصر تتولى حماية أمن اسرائيل، فيما اُجبر الفلسطينيون على تحمل المهانة الناجمة عن "المواطن" المريعة والمبعثرة التي لا تؤلف سوى حوالي 9 في المئة من الضفة الغربية و 60 في المئة من غزة. طلب منا اتفاق اوسلو ان ننسى ونتنكر للتاريخ الذي يروي ما فقدناه، اذ شُرّدنا على ايدي الشعب ذاته الذي علّم الجميع اهمية عدم نسيان الماضي. هكذا، نحن ضحايا للضحايا، ولاجئون شُرّدوا على ايدي لاجئين. كان المبرر لوجود اسرائيل هو دائماً انه ينبغي ان يكون هناك بلد منفصل، ملاذ، لليهود حصراً. وكان اتفاق اوسلو ذاته يستند الى مبدأ الفصل بين اليهود والآخرين، كما اعتاد اسحق رابين ان يكرر بلا كلل. ومع ذلك، على امتداد الخمسين سنة الماضية، وبشكل خاص منذ ان زُرعت المستوطنات الاسرائيلية للمرة الاولى في الاراضي المحتلة في 1967، اصبحت حياة اليهود متشابكة أكثر فأكثر مع حياة غير اليهود. وتزامنت المساعي المبذولة للفصل، على نحو متناقض ظاهرياً، مع المساعي لانتزاع مزيد ومزيد من الاراضي، ما كان يعني بدوره ان اسرائيل ضمت اليها اعداداً متزايدة من الفلسطينيين. في اسرائيل ذاتها يبلغ عدد الفلسطينيين حوالي مليون، اي 20 في المئة تقريباً من السكان. وفي غزةوالقدسالشرقيةوالضفة الغربية، حيث تنتشر المستوطنات بكثافة اكبر، هناك ما يقرب من 5،2 مليون فلسطيني آخرين. واقامت اسرائيل نظاماً كاملاً من الطرق "الالتفافية"، التي صُمّمت لتلتف حول البلدات والقرى الفلسطينية، كي تؤمن ربط المستوطنات وتحاشي العرب. لكن صغر مساحة فلسطين الاصلية، والتداخل الكبير بين الاسرائيليين والفلسطينيين، رغم انعدام التكافؤ والتنافر بينهما، يبلغان حداً يتعذر معة ببساطة حدوث او تحقيق هذا الفصل التام. ويقدّر انه بحلول السنة 2010 سيكون هناك تكافؤ ديموغرافي. كيف ستكون الحال عندئذ؟ من الواضح ان نظاماً يمنح امتيازات لليهود الاسرائيليين لن يرضي اولئك الذين يريدون دولة عبرية متجانسة كلياً او اولئك الذين يعيشون هناك ولكنهم ليسوا يهوداً. فبالنسبة الى المجموعة الاولى يمثل الفلسطينيون عقبة ينبغي التخلص منها بطريقة ما، وبالنسبة الى المجموعة الثانية يعني الوجود كفلسطينيين في دولة عبرية انهم يشعرون بسخط دائم بسبب مكانتهم الادنى منزلة. لكن الفلسطينيين في اسرائىل لا يريدون ان يرحلوا، اذ يقولون انهم موجودون بالفعل في بلادهم ويرفضون أي حديث عن الانضمام الى دولة فلسطينية منفصلة، اذا ظهرت هذه الدولة الى الوجود. في غضون ذلك، يصعب اخضاع السكان المسيّسين في غزةوالضفة الغربية بسبب ما فُرض على عرفات من شروط تسلبه القوة. فليس هناك ما يشير الى اضمحلال طموحات هؤلاء الفلسطينيين الى تقرير المصير، وذلك بالضد من الحسابات الاسرائيلية. كما يبدو واضحاً ان الفلسطينيين كعرب يريدون مهما كلف ذلك - وهذه الحقيقة مهمة متى اخذت في الاعتبار معاهدات السلام الفاترة على نحو كئيب بين اسرائيل ومصر وبين اسرائيل والاردن - ان يحتفظوا بهويتهم العربية كجزء من العالم العربي والاسلامي الذي يحيط بهم. تكمن المشكلة، لهذه الاسباب كلها، في ان اعطاء حق تقرير المصير للفلسطينيين في دولة منفصلة شيء غير عملي، كما هي الحال تماماً بالنسبة الى مبدأ الفصل بين سكان عرب من دون سيادة وسكان يهود يتمتعون بها فيما يعيشان تمازجاً ديموغرافياً وترابطاً يتعذر الغاؤه. والسؤال، حسب اعتقادي، ليس كيف يمكن ابتكار وسائل لمواصلة السعي الى الفصل بينهما بل النظر في امكان ان يعيشا معاً على افضل نحو ممكن من العدل والسلام. يمكن وصف الوضع القائم حالياً بانه مأزق محبط، إن لم نقل انه دموي. فالصهاينة داخل اسرائيل وخارجها لن يتخلوا عن رغبتهم في اقامة دولة عبرية منفصلة، ويريد الفلسطينيون الشىء ذاته لانفسهم رغم انهم قبلوا من اتفاق اوسلو أقل من ذلك بكثير. ومع ذلك، في كلا الحالتين، تصطدم فكرة الحصول على دولة "لنا" بالحقائق: باستثناء القيام بحملة تطهير عرقي او تهجير جماعي كما حدث في 1948، لا يمكن التخلص من الفلسطينيين او ان تتحقق رغبة الفلسطينيين في التخلص من الاسرائيليين. ولا يملك أي من الطرفين خياراً عسكرياً ممكناً ضد الطرف الآخر، وهو للأسف ما يفسّر لماذا اختار كلاهما سلاماً يسعى بوضوح الى تحقيق ما عجزت عنه الحرب. كلما استمرت الانماط الحالية للاستيطان الاسرائيلي وفرض القيود على الفلسطينيين وما يبدونه من مقاومة، كلما تضاءل احتمال ان يحصل أي من الطرفين على أمن حقيقي. وكان التعبير عن هوس نتانياهو بالامن بشكل يقصره على إذعان الفلسطينيين لمطالبه يتسم دائماً بسخف واضح. فمن جهة، مارس هو وشارون ضغوطاً متزايدة على الفلسطينيين بدعواتهما الصاخبة للمستوطنين بأن ينتزعوا ما يمكن انتزاعه. ومن جهة اخرى، توقع نتانياهو ان تُكره مثل هذه الوسائل الفلسطينيين على قبول كل ما تفعله اسرائيل، من دون أي خطوات اسرائيلية في المقابل. ويصبح عرفات، مدعوماً من واشنطن، اكثر قمعاً كل يوم. فهو اصدر اخيراً، على سبيل المثال، بالاستناد الى "انظمة الطوارىء العسكرية" التي اصدرتها سلطة الانتداب البريطانية في 1936 ضد الفلسطينيين، مرسوماً لا يكتفي باعتبار التحريض على العنف والنزاع العرقي او الديني جريمة فحسب بل يشمل بذلك ايضاً انتقاد عملية السلام. ليس هناك أي دستور او قانون أساسي فلسطيني. ويرفض عرفات ببساطة القبول بأي قيود على سلطته اخذاً في الاعتبار الدعم الاميركي والاسرائيلي له. فمن يعتقد حقاً ان هذا كله يمكن ان يحقق لاسرائيل الامن والخضوع الدائم للفلسطينيين؟ ينبع العنف والكره والتعصب من الظلم والفقر والاحباط السياسي. وفي الخريف الماضي صادر الجيش الاسرائيلي مئات الفدادين من الاراضي الفلسطينية من قرية ام الفحم التي لا تقع في الضفة الغربية بل داخل اسرائيل. واكد هذا حقيقة ان الفلسطينيين، حتى كمواطنين اسرائيليين، يُعاملون باعتبارهم أدنى منزلة واشبه بفئة دنيا تعيش في ظل نظام تمييز عنصري. في الوقت نفسه، بما ان اسرائيل هي الاخرى لا تملك دستوراً، ولأن الاحزاب الارثوذكسية المتطرفة تستحوذ على مزيد من السلطة السياسية، هناك جماعات وافراد من اليهود الاسرائيليين الذين بدأوا ينتظمون حول فكرة نظام ديموقراطي علماني كامل لكل المواطنين الاسرائيليين. كما يتحدث عضو الكنيست العربي ذو الشخصية الجذابة عن توسيع مفهوم المواطنة كوسيلة لتجاوز المعايير الاتنية والدينية التي تجعل اسرائيل عملياً في الوقت الحاضر دولة غير ديموقراطية بالنسبة الى20 في المئة من سكانها. يمتاز الوضع في الضفة الغربيةوالقدسوغزة بانعدام الاستقرار واختلال كبير في العلاقة لمصلحة احد الطرفين. فالمستوطنون الاسرائيليون حوالي 35 الفاً منهم يستمرون في العيش، تحت حماية الجيش، كأناس لا يخضعون للقوانين المحلية ويتمتعون بامتيازات وحقوق لا يملكها السكان الفلسطينيون. على سبيل المثال، لا يمكن لسكان الضفة الغربية ان يذهبوا الى القدس، وهم لا يزالون يخضعون في 70 في المئة من المنطقة الى القانون العسكري الاسرائيلي، واراضيهم عرضة للمصادرة. وتتحكم اسرائيل بموارد مياه الفلسطينيين وأمنهم، فضلاً عن المخارج والمداخل. وحتى مطار غزة الجديد يخضع لسيطرة اسرائيل الامنية. ولا يحتاج المرء لأن يكون خبيراً كي يدرك ان من شأن هذا الوضع ان يؤدي الى إطالة أمد النزاع بدلاً من الحد منه. يجب هنا ان نواجه الحقيقة، لا أن يجري تجنبها او انكارها. هناك في الوقت الحاضر يهود اسرائيليون يتحدثون بصراحة عن "ما بعد الصهيونية"، بقدر ما يعني ان الصهيونية الكلاسيكية، بعد خمسين عاماً من تاريخ اسرائيل، لم توفر حلاً لوجود الفلسطينيين او لوجود مقصور على اليهود. ولا اجد أي سبيل اخر سوى ان أشرع بالكلام عن اقتسام الارض التي فرضت علينا ان نوجد معاً عليها، اقتسامها بطريقة ديموقراطية فعلاً، بحقوق متكافئة لكل مواطن. لا يمكن ان تكون هناك اي مصالحة الاّ اذا قرر كلا الشعبين ان وجوده هو حقيقة دنيوية وانه ينبغي التعامل معه تبعاً لذلك. لا يعني هذا الانتقاص من حياة اليهود او التخلي عن طموحات العرب الفلسطينيين ووجودهم السياسي. انه، على العكس، يعني تقرير المصير لكلا الشعبين. لكن هذا يعني فعلاً الاستعداد لتخفيف المكانة الخاصة التي يتمتع بها احد الشعبين على حساب الاخر والتقليل من شأنها والتخلي عنها في النهاية. ويتعيّن النظر في "قانون العودة" لليهود وحق العودة للاجئين الفلسطينيين وتشذيبهما معاً. ونحتاج الى نحد من حيث المدى والاستثناء من فكرتين على السواء: فكرة اسرائيل الكبرى باعتبارها الارض التي منحها الله لليهود وفكرة فلسطين باعتبارها ارضاً عربية لا يمكن ان تعزل عن الوطن العربي. ومن المثير للاهتمام ان تاريخ فلسطين الذي يمتد آلاف السنين يقدم ما لا يقل عن سابقتين للتفكير بمثل هذه الصيغ العلمانية والاكثر اعتدالاً. اولاً، كانت فلسطين دائماً ولا تزال مهد حضارات واقوام كثيرة، وسيكون من قبيل التبسيط المفرط ان ننظر اليها باعتبارها يهودية او عربية بشكل اساسي او على وجه الحصر. فوجود اليهود فيها، رغم قِدَمه، ليس الوجود الرئيسي بأية حال. ومن الاقوام الاخرى التي اقامت فيها الكنعانيون والمؤابيون واليبوسيون والفلستينيون في العصور القديمة، والرومان والعثمانيون والبيزنطيون والصليبيون في العصور الحديثة. تمتاز فلسطين بتعدد الثقافات وتعدد القوميات وتعدد الديانات. وليس هناك اي مبرر تاريخي للتجانس، مثلما لا يوجد مثل هذا التبرير لافكار غامضة عن النقاء القومي او الاتني والديني في الوقت الحاضر. ثانياً، خلال الفترة بين الحربين العالميتين، جادلت مجموعة صغيرة ولكن مهمة من المفكرين اليهود جوداه ماغنس وبوبر واريندت واخرين وحرّضت على اقامة دولة ثنائية القومية. وتغلب على جهودهم طبعاً منطق الصهيوينة، لكن الفكرة لا تزال حية في الوقت الحاضر هنا وهناك وسط افراد يهود وعرب محبطين جراء عيوب الحاضر ومصائبه. ويقوم جوهر هذه الرؤية على التعايش والاقتسام باشكال تقتضي استعداداً مبدعاً وجريئاً ونظرياً لتجاوز المأزق المجدب للادعاء والرفض. واعتقد انه حالما يجري الاعتراف الاولي بالآخر كطرف مكافىء، لن يصبح الطريق الى امام ممكناً فحسب بل جذاباً. لكن القيام بالخطوة الاولى أمر بالغ الصعوبة. فاليهود الاسرائيليون معزولون عن واقع الفلسطينيين، ويقول معظمهم انه في الحقيقة لا يعنيهم. واتذكر، عندما انتقلت بالسيارة للمرة الاولى من رام الله الى داخل اسرائيل، كيف بدا لي ذلك اشبه بالانتقال مباشرة من بنغلادش الى جنوب كاليفورنيا. ومع ذلك فإن الواقع ليس ابداً قريباً الى هذا الحد. يجد ابناء جيلي من الفلسطينيين، الذين يعانون حتى الآن اثار الصدمة الناجمة عن فقدان كل شىء في 1948، انه يكاد يكون من المستحيل ان يقبلوا باستيلاء شعب اخر على منازلهم ومزارعهم. ولا أرى انه يمكن بأي طريقة تجنب حقيقة انه جرى في 1948 تشريد شعب من قبل شعب آخر، مقترفاً بذلك ظلماً خطيراً. ولا تتيح دراسة تاريخ الفلسطينيين واليهود معاً اعطاء مأساة المحرقة وما حدث للفلسطينيين في وقت لاحق مداهما الكامل فحسب بل ستكشف ايضاً كيف انه في سياق الحياة المتداخلة للاسرائيليين والفلسطينيين منذ 1948، تحمل احد الشعبين، الفلسطينيون، قسطاً غير متكافىء من الالم والخسارة. لا تمثل مثل هذه الصياغة اي مشكلة بالنسبة الى الاسرائىليين المتدينين واليمينيين. فهم يقولون: نعم، انتصرنا، لكن هذا ما ينبغي ان يكون عليه الحال. هذه الارض هي ارض اسرائيل وليست لأحد سواها. سمعت هذه الكلمات من جندي اسرائيلي يحرس بلدوزراً كان يقوم بتخريب حقل فلسطيني في الضفة الغربية بينما كان مالكه يراقب عاجزاً بهدف توسيع طريق التفافي. لكنهم ليسوا الاسرائيليين الوحيدين. فهناك اخرون، ممن يريدون السلام كنتيجة للمصالحة، مستاؤون من الهيمنة المتزايدة للاحزاب الدينية على الحياة في اسرائىل ومن جور اتفاق اوسلو ومشاعر الاحباط الناجمة عنه على السواء. ويشارك كثيرون من امثال هؤلاء الاسرائيليين بنشاط في تظاهرات ضد العمليات التي تنفذها حكومتهم بمصادرة اراضي الفلسطينيين وهدم منازلهم. هكذا، يتحسس المرء استعداداً سليماً للبحث عن السلام في مكان اخر بدلاً من انتزاع الاراضي والتفجيرات الانتحارية. يعتبر بعض الفلسطينيين، لانهم الطرف الاضعف، الخاسر، ان التخلي عن استعادة كاملة لفلسطين العربية يعني التخلي عن تاريخهم بالذات. لكن معظم الاخرين، خصوصاً من جيل اولادي، ينظرون بشك الى من يكبرونهم سناً ويتطلعون بطريقة غير مألوفة اكثر الى المستقبل، تتجاوز النزاع والخسارة التي لا تنتهي. وواضح ان المؤسستين الحاكمتين في كلا الجانبين مشدودتان الى تيارات الفكر والصيغ السياسية "البراغماتية" الراهنة لدرجة يجعلها لا تجرأ على اي شىء اكثر مخاطرة، لكن بعض الاخرين فلسطينيين واسرائيليين بدأ بصوغ بدائل جذرية للواقع القائم. انه يرفض قبول القيود التي فرضها اتفاق اوسلو، التي اسماها احد الباحثين الاسرائيليين ب "سلام مع فلسطينيين"، فيما يبلغني اخرون ان الصراع الحقيقي يدور على حقوق متكافئة للعرب واليهود، وليس إقامة كيان فلسطيني منفصل يكون بالضرورة تابعاً وضعيفاً. تكون البداية بتطوير شىء مفقود كلياً من الواقعين الاسرائيلي والفلسطيني على السواء في الوقت الحاضر: فكرة وممارسة المواطنة، بدل الانتماء الاتني او العرقي، باعتبارهما الاداة الرئيسية للتعايش. ففي الدولة الحديثة يُعتبر كل افرادها مواطنين بحكم وجودهم وتقاسم الحقوق والواجبات. المواطنة اذاً تعطي اليهودي الاسرائىلي والعربي الفلسطيني الحق في ان يتمتعا بذات الامتيازات والموارد. هكذا يصبح وجود دستور ووثيقة للحقوق امراً ضرورياً لتجاوز نقطة البدء في النزاع، لان كل جماعة سيكون لها حق تقرير المصير ذاته، اي الحق في ان تمارس حياتها بطريقتها اليهودية او الفلسطينية الخاصة، وقد يكون ذلك في كانتونات فيديرالية، مع عاصمة مشتركة في القدس، وتكافؤ في ما يتعلق بالارض، وحقوق علمانية وقضائية ثابتة. ولاينبغي لأي من الطرفين ان يكون رهينة بأيدي المتطرفين الدينيين. ومع ذلك، فان مشاعر الاحساس بالاضطهاد والمعاناة متأصلة لدرجة انه يكاد يكون من المستحيل القيام بمبادرات سياسية تشد اليهود والعرب الى ذات المبادىء العامة للمساواة المدنية فيما يجري تجنب المخاطر التي تنجم عن وضع طرف في مواجهة مع الطرف الاخر. ويحتاج المثقفون الفلسطينيون الى ان يعبّروا للاسرائيليين عن قضيتهم بشكل مباشر في المنتديات العامة والجامعات ووسائل الاعلام. ويكمن التحدي ازاء المجتمع المدني وداخله على السواء، فقد ظل لوقت طويل خاضعاً لنزعة قومية تطورت الى عقبة بوجه المصالحة. بالاضافة الى ذلك، يعيق انحطاط الخطاب - كما يجسّده تبادل الاتهامات بين عرفات ونتانياهو فيما تهدّد حقوق الفلسطينيين مخاوف "امنية" مغالى فيها - نشوء أي منظور اوسع افقاً واكثر تسامحاً. تبدو البدائل بسيطة على نحو مزعج: اما ان تستمر الحرب الى جانب الكلفة المرهقة لعملية السلام الجارية او ان يجري السعي الحثيث الى سبيل للخلاص، يقوم على السلام والمساواة كما جرى في جنوب افريقيا بعد انتهاء نظام التمييز العنصري، رغم العقبات الكثيرة. فحالما نسلّم بأن الفلسطينيين والاسرائيليين باقون هناك، لا بد ان يكون الاستنتاج اللائق هو الحاجة الى تعايش سلمي ومصالحة حقيقية. تقرير المصير فعلاً. وللأسف، لا يتضاءل الظلم ونزعة العدوان من تلقاء ذاتهما: يتعين الهجوم عليهما من قبل كل الاطراف المعنية. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.