السجال الدائر في لبنان استلهم مصطلحات الحرب الأهلية، وثمة من يعتقد ان الحرب عائدة لا محالة، لكنها لن تعود. الظروف تغيرت. هناك مشاكل سياسية واقتصادية ينبغي أن تعالج ببرنامج وطني يساهم فيه الجميع بعيداً عن التشنج الطائفي، لأن الاهمال يفاقمها ويؤثر في معيشة الجميع من كل الطوائف والمذاهب. أظهرت الانتخابات الأخيرة، وهي أجريت بعد "تحرير الجنوب" من الاحتلال الاسرائيلي، ان القضايا السياسية التي حجبها ذلك الاحتلال ودفعها الى منزلة ثانوية لا تزال مطروحة. فالبلد يريد الآن ان يخرج فعلاً من الحرب ومناخاتها، ومهما تهرب أولو الأمر من الحقيقة، فإن تحديد مصير الوجود السوري في لبنان يشكل عنواناً أساسياً ورئيسياً للخروج من الحرب. والبلد يحتاج الى بلورة الوفاق الوطني وتجسيده تعاوناً وتداخلاً بين مختلف الفئات السياسية، ومهما تهرب المعنيون من الحقيقة، فإن الرقم السوري الكبير في المعادلة السياسية يلعب دوراً محورياً في الوفاق سلباً أو ايجاباً. حتى ان أحد السياسيين اللبنانيين يعتبر أن الوفاق لن يحصل إلا إذا كان هناك قرار سوري ب"تسهيله". بعيداً عن أسباب الحرب الأهلية ومسبباتها والأدوار التي لعبتها أطراف قريبة أو بعيدة في اشعالها، يتفق معظم اللبنانيين على القول إن الدور السوري كان حاسماً في انهاء هذه الحرب. وسيكون أمراً مؤسفاً ان يتجدد الانقسام الطائفي حول الوجود السوري، بين تيار مسيحي واسع يطالب بانسحابه وتيار اسلامي يطالب ببقائه. واقع الأمر أن تهاون الحكومات واغراقها رؤوسها في الرمل، تجنباً لمواجهة استحقاق نص عليه اتفاق الطائف بوضوح، هو ما جعل المجتمع يتحرك لطرح مطالبة وابداء موقف. وإذا قيل ان بيان "مجلس المطارنة الموارنة" لا يعبر عن كل الرأي العام المسيحي، فمن البديهي القول ان بيان "دار الافتاء" لم يقم أي وزن أو اعتبار للرأي العام الاسلامي. وإذا وجبت المقارنة سيتبين ان البيان المسيحي أقرب الى التعبير عن الرأي العام اللبناني بكل طوائفه، فحتى لو تباينت التعبيرات فانها لا تبدل جوهر المواقف. يفترض ان يؤخذ مثل هذا البيان على انه فعل سياسي، وأن يكون التعامل معه سياسياً. فهو يعرض للوضع اللبناني برمته وينبه الى المخاطر، ما لا تفعله الحكومات أو لا تجرؤ على فعله، لذلك فإن مقاومته وتسفيهه وحشد الآخرين ضده لا تغير شيئاً في الواقع. فالناس تعيش هذا الواقع وتدفعها معاناتها الى القاء اللوم والمسؤولية على القيادتين اللبنانية السورية معاً. ومن ذلك، تحديداً، ما نشهده من ربط لتدهور الوضع الاقتصادي بعدم اتضاح آفاق الوجود السوري. ولا نجد هذا الربط عند المواطنين العاديين وانما عند الخبراء المختصين أيضاً. ليس مطلوباً الآن ان تستجاب مطالبة لمجرد أن فريقاً من اللبنانيين استطاع ان يجهر بها، لكن واجب الحكم اللبناني والحكم السوري ان يكونا واضحين وصريحين وجديين في الاجابة عن اسئلة اللبنانيين وتوقعاتهم بدل معاملتهم كأنهم سذج وقاصرون. اذا بادر الحكم الى مواجهة المشكلة فإنه يفوت على المجتمع ان يدفعه دفعاً اليها، ولا يجوز ان تستعاد مناخات الحرب أو أن يجد لبنان نفسه في ما يشبه الحرب الأهلية بين المطالبين بانسحاب السوريين والمؤيدين لبقائهم. هناك بداية للمعالجة نجدها في مواقف الرئيس اللبناني، لكنها بداية متكررة وتراوح مكانها ولا تبدو مقبلة على تطوير مضمونها. ومع أنه شدد على الطابع "الموقت" للوجود السوري، إلا أن اشاراته الى استحقاقات تتعلق بالمفاوضات المجمدة والمؤجلة مع اسرائيل أعطت انطباعاً بأن "الموقت" يمتد الى ما بعد انجاز اتفاق سلام سوري - اسرائيلي. هذا موقف يحتاج الى شرح والى اجراءات على الأرض ليصبح مقنعاً ومقبولاً، خصوصاً إذا أريد له أن يساعد في وقف الانهيار الاقتصادي