عشاق الأغنية العربية الأصيلة سيتذكرون، لزمن طويل مقبل، اسم الموسيقار الراحل بليغ حمدي وفنه، خصوصاً انهم في ليل أغنية الفيديو كليب الراهنة، يفتقدون بدراً يمكن أن يبدّد الظلمة، أو على الأقل شيئاً منها. التنوع الغني هو من دون شك صفة فن بليغ حمدي الأساس، وقد تنقل خلاله الفنان الراحل بأغنياته بين أصوات كثيرة، امتدت لتشمل معظم الخارطة الغنائية ولم تقف عند ذلك، بل حققت تنوعاً آخر أكثر أهمية، هو ذلك الذي يتعلق بالأغاني نفسها. فبليغ حمدي الذي قدم طويلاً الأغنية العاطفية الرومانسية، لم ينسَ في تجربته الطويلة أن يقدم الأغنية الشعبية التي اعتاد المستمع أن يسمعها بلحنها الأصلي - الفولكلوري - لكن الفنان الراحل قدمها في قالب لحني جديد، كما فعل في الأغاني التي أداها عبدالحلم حافظ وتعاون فيها مع الشاعر البارز عبدالرحمن الأبنودي. إنه تنوع عكس في استمرار رغبة بليغ حمدي في تقديم أغانٍ تواكب تطور الذوق الشعبي، وما يعكسه حضور الزمن من تأثير في العواطف وشكل التعبير الانساني عنها. يذكر المستمعون العرب الأغنيات الثماني التي قدمها بليغ حمدي لسيدة الغناء العربي أم كلثوم بدءاً من أواسط الستينات، وحملت نكهة موسيقية جديدة لم يعتدها مستمعو المطربة الكبيرة، وهي أغان لا تزال حاضرة بقوة في وعي الناس ووجدانهم، لأنها جمعت رصانة اللحن الكلثومي وجديته، الى التجديد بما حمله من رشاقة نقلت أغنية أم كلثوم مسافة واسعة الى الأمام، فتميزت ألحان بليغ حمدي لأم كلثوم عن تلك التي حققها ملحنها الأثير رياض السنباطي، أو حتى تلك التي وضعها محمد عبدالوهاب. صحيح أن بليغ حمدي كان الأصغر سناً بين من لحنوا ل"كوكب الشرق"، إلا أن الصحيح أيضاً انه وصل الى محطة أم كلثوم بعدما قدم ألحاناً متميزة بأصوات عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وشادية وغيرهم. أما تجربته المهمة الثالثة فكانت من دون شك في رحلته الغنائية المشتركة مع وردة، إذ استطاع إعادة اكتشاف صوتها من جديد، فقدم اليها ألحاناً تجديدية، وإن انطلقت من نقطة تطريب ذات صلة عميقة بكل ما في الوجدان الشعبي من مشاعر موروثة، أعاد الراحل مناوشتها بجمل لحنية ذات إيقاعات تجمع برشاقة مشاعر الحزن الى الموسيقى الراقصة بنجاح لم يحققه قبله أي ملحن آخر. بليغ حمدي لم يلحن - على ما أذكر - قصائد بالفصحى، باستثناء تلك الأدعية الدينية التي شداها الشيخ سيد النقشبندي، وهو كذلك لم يقدم كثيراً من الأغاني الوطنية الصاخبة، ومع ذلك فإن حزنه الغاضب، أو غضبه الحزين، حقق في ليل الهزيمة الحزيرانية واحدة من أجمل ما قدم الراحل عبدالحليم حافظ من أغنيات وطنية ومن أكثرها عمقاً وملامسة للروح، ونعني "موال النهار" التي كتبها في الأيام الأولى للنكسة الشاعر عبدالرحمن الأبنودي. في "موال النهار" استطاع بليغ حمدي أن يقدم لحناً تعبيرياً ينطلق من المعنى ومن المناخ الشعري، ليحقق بدوره مناخاً موسيقياً لا يداعب المشاعر السطحية للمستمع بمقدار ما يغوص معه في محاولة بعث الإرادة التي زعزعتها ظلمة النكسة - الهزيمة. تلاميذ بليغ حمدي من الملحنين يمتدون في مساحة واسعة من مساحات الغناء العربي، حائرين قلقين، بين ملامح تجديد أصيلة تركها الراحل الكبير، وغناء "فضائي" مسكون بالصور المتلاحقة من كاميرات تشبه المدافع الرشاشة. ومع ذلك فثمة من لا يزال منهم قابضاً على جمرة الابداع الأصيل ينقلها بين اليدين ويورثها مثل شعلة الأولمب، لمن يأتي بعده من مبدعين. نتذكر بليغ حمدي اليوم، فنتذكر تراثاً ضخماً وغنياً من أغنيات الحب الجميلة في زمان يعصف به الجفاف، نتذكره فنعيد الاعتبار، في استمرار، الى الأغنية الأصيلة، ونشعر بالحنين الجارف الى كل ما في الحياة من دفء وحميمية.