قبل عام ترجل فارس الشعر في اليمن عبدالله البردوني وسط صدمة اجتاحت الأوساط الأدبية اليمنية والعربية، فالبردوني يعتبر أحد رواد الشعر في اليمن والوطن العربي واستطاع على مدى خمسين عاماً أن يؤسس مدرسة شعرية متفردة حافظت على عمود الشعر التقليدي. في الثلاثين من آب اغسطس عام 1999 فجعت الأوساط الأدبية بغياب شاعر اليمن الرائي الذي تميز بالجرأة والشجاعة ونقده الشديد لحكام اليمن وأئمته الذين أذاقوا الشعب اليمني صنوفاً من الظلم والاستعباد. ولد البردوني في قرية البردون من قبيلة بني حسين ناحية الحدا شرق مدينة ذمار في عام 1929 تقريباً وفقد بصره إثر اصابته بمرض الجدري وهو في الخامسة أو السادسة من عمره. كان والده فلاحاً بسيطاً وأمه تعمل في جمع الحطب. تلقى تعليمه الأول في كتّاب القرية وكانت طفولته صعبة لإصابته بالعمى وهو صغير، بدأ يحب الشعر في الثالثة عشرة ونظمه للمرة الأولى عام 1949 ثم انتقل الى دار العلوم وقد عيِّن فيها بعد سنوات مدرّساً للتاريخ والأدب العربي والتاريخ السياسي. انتخب في بداية السبعينات رئيساً لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين الموحد وشارك في مؤتمرات أدبية ومهرجانات شعرية عدة في كثير من البلدان العربية والأجنبية، له إثنا عشر ديواناً وثماني دراسات أدبية والكثير من الكتب في الأدب والسياسة والفنون الشعبية وكان أول ديوان له حمل عنوان "من أرض بلقيس" وصدر في القاهرة عام 1961. يتذكر الشاعر عبدالعزيز المقالح صديقه الراحل في ذكراه الأولى قائلاً: "كان الغائب الحاضر واحداً من الشعراء اليمنيين القلائل الذين صدقوا في التعبير عن مأساة وطنهم، وصبوا شواظ غضبهم على العهد المباد وكان شعره التعبير الصادق عن مواقفه الوطنية تجاه ذلك العهد البشع الذي أصلاه بوابل من نيران قصائده التي لا تبلى ولا يستطيع الزمن التقليل من فاعليتها وديمومة دلالتها كأن يقول: "أخي نحن شعب أفاقت مناه/ وأفكاره في الكرى تحلمُ/ ودولتنا كل ما عندها / يد تجني وحشىً يهضمُ". أما الشاعر محمد الشرفي فيتحدث عن علاقته بالبردوني ويقول: "كنا نختلف أحياناً بسبب حساسيات أدبية صغيرة لكننا لم نختلف أبداً على مواقف أو مبادئ الثورة والجمهورية والدولة المدنية والحرية والديموقراطية. بدأت أحب شعره وأقرأه وأنا في الرابعة عشرة من العمر على صفحات جريدتي "النصر" و"سبأ" اللتين كانتا تصدران في تعز قبل الثورة وكانت تعجبني في قصائده قوة الشعر وليس موضوع الشعر". كانت قصائد البردوني تعكس في شكل واضح رؤيته الفلسفية الى الحياة والواقع والأشخاص وكانت تعبيراً صادقاً عما يدور حوله، وعما يدور في ذهنه من أسئلة وجودية وفلسفية عميقة. الباحثة آمنة يوسف درست ظاهرة توازي الأضداد في قصيدته "وجه الوجوه المقلوبة" من ديوان "زمان بلا نوعية" وتقول: "كان البردوني الأعمى يتفق مع الشاعر الضرير أبو العلاء المعري الذي كان يوازي بين المتضادات في الواقع الانساني والكوني حيناً وهي رؤية يعد العماء أحد أسباب تكوينها الفلسفي كأن يغوص الشاعر في فضاء أعماقه باحثاً عن الاجابات المستعصية فيقول: "من أين أتيتُ؟ وأين أنا؟ / أأتيت؟ أتى غير مكاني؟/ ماذا عن ساقي يحملني؟ / من عني يسكن جثماني؟". ويتهم الشاعر الزيف الحاصل في الحياة أنه السبب في فقدان بصره قائلاً: "يا وهج الزيف أعد بصري/ يبست عيناك بأجفاني". إنها صورة فنية مبتكرة ومركبة تحفظ للشاعر المبدع تعاليه على فقدان حاسة البصر. ونلمس الشاعر يطالب أيضاً بعودة القيمة للانسان اليمني والعربي وتخليصه من أسر الاستعمار الأجنبي الذي قد يسلبه الهوية والذات الحضارية: عن نهج استعمار الآتي/ صدق، أو قل: ما أغباني/ جلدي من لندن من روما/ وقوامي كوز جهراني". والبردوني من الشعراء الذين تحدثوا عن رأيهم بصراحة في أكثر القضايا حساسية وخصوصاً الحرية والديموقراطية كأن يقول: "الديموقراطية والحرية متلازمتان فليس هناك حرية من دون نظام ديموقراطي. لكن مشكلتنا ان النظام الديموقراطي لا يوجد في النظام السياسي الذي يسير السياسة ويقود القافلة. اننا نتكلم عن الديموقراطية وليس لها ثبوت في من يحكم وفي من سيحكم، الديموقراطية أصبحت كلمة تقال كذلك الحرية". كان البردوني من أوائل من بشروا ببزوغ فجر ثورة جديد يقضي على الحكم الفاسد في اليمن فهو يقول في قصيدة "كلنا في انتظار فجر": "ان خلف الليل فجر نائم/ وغداً يصحو فيجتاح الظلاما". ويقول في قصيدة "بين ليل وفجر": "في هجعة الليل المخيف الشاتي/ والجو يحلم بالصباح الآتي". وهذا الصباح كان ثورة 26 أيلول سبتمبر 1962 الخالدة التي أعادت الأمل بالحياة الى قلوب أهل اليمن.