تنحدر الحركة الناصرية في سورية على مختلف ألوان طيفها السياسي من المنظمات الوحدوية "الناصرية" التي تشكلت بعيد الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 ايلول سبتمبر 1962. اذ لم تتكشف الحركة الناصرية في سورية عن قوتها كحركة شعبوية "مليونية" للفئات الوسطى، لا سيما المدينية منها، الا في مواجهة الانفصال. فقد حكم الانقسام القطبي الحاد ما بين الوحدويين والانفصاليين سائر الانقسامات الاخرى في سورية. وفي سياق هذا الانقسام تحولت حركة القوميين العرب مثلاً من اخوية نخبوية مغلقة لم يتجاوز عدد اعضائها صبيحة الانفصال خمسين عضواً الى منظمة جماهيرية تمتلك في الشركة الخماسية وحدها في دمشق 1300 عضو من اصل 1800 عامل، كما تحولت المجموعة البعثية الوحدوية التي اسست فور وقوع الانفصال ما سيسمى بپ"حركة الوحدويين الاشتراكيين" من خمسين عضواً الى 30.000 عضو في تموز يوليو 1963. كانت الناصرية حركة شعبية تامة ادخلت العامة في سورية لأول مرة بهذا الثقل والاتساع الى قلب الفعل السياسي. الا ان اخفاق حركة 18 تموز 1963 التي قام بها الضباط الناصريون، كرّس القطيعة الدامية ما بين الناصريين والبعثين، وأخذ الناصريون بدءا من ذلك يصفون سلطة البعث كامتداد للانفصال، وبعد اقل من اسبوع على ذلك اطلق عبدالناصر دعوته الشهيرة لتشكيل الحركة العربية الواحدة. كان الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية ترجمة لتلك الحركة. وانعقد مؤتمره التأسيسي الأول في بيروت ما بين 14 و18 تموز 1964، في الذكرى السنوية الأولى لاعدام ضباط حركة تموز، وأسفر عن اعلان اربع منظمات وحدوية ناصرية عن حل نفسها واندماجها في اطار الاتحاد الاشتراكي. وهي حركة القوميين العرب وحركة الوحدويين الاشتراكيين والجبهة العربية المتحدة والاتحاد الاشتراكي العربي الذي اسسه عبدالله جسومة وحسن اسماعيل تيمناً بالاتحاد الاشتراكي في مصر. الا ان التناقضات الحادة عصفت بالاتحاد الوليد منذ تأسيسه، فانسحبت منه حتى تموز 1966 منظمتان اساسيتان هما حركة الوحدويين الاشتراكيين وحركة القوميين العرب التي لم تحل تنظيمها قط، وتحول الاتحاد الى نوع من حزب - مصفاة يمر به منتسبون كثيرون. أربكت سياسة عبدالناصر في وحدة الصف والعمل العربي المشترك عبر مؤتمرات القمة الناصريين السوريين، اذ انطوت هذه السياسة على اعتراف ضمني بسلطة البعث في الوقت الذي كانت استراتيجية الاتحاد تعتبرها امتداداً للانفصال وتقوم على اسقاطها. وتفاقم هذا الارباك اثر نكسة حزيران يونيو 1967، وتبادل السفراء ما بين القاهرةودمشق، اذ تبنت سياسة عبدالناصر اولوية ازالة آثار العدوان على الوحدة التي كانت رؤيته لآفاقها اوسع بكثير من فورية الناصريين السوريين. وأدى احتدام القراءات والتقويمات المختلفة في ظل ذلك الارتباك الى انشطار عمودي في الاتحاد الاشتراكي العربي ما بين الجناح الذي يقوده الدكتور جمال الأتاسي والذي حمل اسم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي وبين الجناح الذي يقوده اللواء السابق محمد الجراح، والذي حافظ على اسم الاتحاد الاشتراكي العربي دون الحزب. وتمركزت موضوعات الخلاف حول تحويل الأتاسي الاتحاد الى حزب طليعي يقترب من لاهوت الثورة اليساري الجديد، ويتبنى بعض المنظورات الماركسية، وطرحه صيغة الجبهة الوطنية التقدمية ما بين الناصريين والشيوعيين والبعثيين كطريق لتحقيق الحركة العربية الواحدة، في حين اصرّ فريق الجراح على الشكل الشعبوي للاتحاد، ورفض اي اقتراب من الماركسية، بل كان اقرب الى الميول الاسلامية، ولم يستطع ان يتصور اي جبهة خارج المنظمات الناصرية. من هنا كان حزب الاتحاد الاشتراكي العربي احد الاطراف الأساسية في صياغة لجنة ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية بعيد الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970. في حين استبعدت تلك الاطراف الاتحاد الاشتراكي العربي الجراح من اللجنة ولم توافق على تمثيله بحكم فيتو الأتاسي، فتطور تنظيم الجراح بشكل مستقل، وشارك في اضطرابات 1973 مع الكتلة الراديكالية الاخوانية ضد مشروع الدستور، وتحالف مع العقيد معمر القذافي، وحاول ان يقوم بانقلاب عسكري، وتلاشى نهائياً كتنظيم في اواخر السبعينات. اما اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الأتاسي فصوتت بأغلبية صوت واحد على ميثاق الجبهة، ثم اعلنت في المؤتمر الخامس عام 1973 عن انسحابها من الجبهة، من دون ان يعني ذلك عدم تعاونها مع البعث، وكان الاعتراض المعلن تنظيمياً اكثر منه سياسياً، ويتصل بصيغة العلاقة ما بين اطراف الجبهة وليس بالموقف السياسي من السلطة. من هنا انشقت في هذا المؤتمر كتلة فوزي الكيالي، وقررت استمرار العمل في اطار الجبهة، فأصبح هناك حزبان يحملان اسم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي. ومن الناحية العملية استجاب الدكتور الأتاسي الأمين العام لحزب الاتحاد رغبة الرئيس حافظ الأسد بعدم وضع عوائق امام الفريق الذي قرر الاستمرار في الجبهة. الا ان حزب الأتاسي واجه في هذا المؤتمر بشكل واضح كتلة طليعية متماسكة وديناميكية في هيئات الاتحاد بما في ذلك لجنته المركزية على رأسها رجا الناصر ومخلص الصيادي، وشكلت تنظيماً طليعياً داخل التنظيم حمل اسم "الجهاز السياسي"، وأخذ ينسق قومياً في اطار التنظيم الطليعي الذي يوجهه فتحي الديب في مصر. وضم "الجهاز السياسي" اكثر الكوادر فاعلية وحيوية في الاتحاد، وصوّت ممثلوه السريون في اللجنة المركزية لحزب الاتحاد ضد ميثاق الجبهة والاستمرار بها. ثم اندمج "الجهاز السياسي" مع مجموعات ناصرية اخرى وتحول عام 1978 الى "التنظيم الشعبي الناصري" الذي تم تفكيكه واعتقال كوادره في عام 1980 على خلفية الصراع الضاري ما بين السلطة والاخوان في ازمة الثمانينات. كان حزب الاتحاد الأتاسي قوة تنظيمية وسياسية هائلة، فقد كان له في جامعة حلب وحدها 1200 عضو منظم من اصل 25 ألف طالب، وتمكن في الانتخابات الطلابية من ان يسيطر في بعض الاعوام على جميع اللجان الادارية الطلابية. الا ان خروج كتلتي الكيالي الجبهوية والجهاز السياسي منه اضعفه كثيراً في سياق غياب عبدالناصر، وانقلاب السادات على الناصرية، ونجاح البعث في استيعاب عدد كبير من الناصريين في صفوفه، ومن الناحية الفعلية عقد حزب الاتحاد الأتاسي آخر مؤتمراته في عام 1985، وشغل امينه العام منصب الامين العام للتجمع الوطني الديموقراطي الذي اعلن عنه في آذار 1980 في سورية، وعلى رغم وهنه التنظيمي وتدنيه الى ادنى درجة، فانه حافظ على ركائز قوية تعمل في شكل شخصيات اجتماعية وسياسية محترمة ومهابة في المجتمع السياسي السوري، وتطرح اليوم تحويل اطراف التجمع الى حزب ديموقراطي واحد، يتخلى عن المفهوم اللينيني للتنظيم او للحزب، الا انه نما على هامش الحركة الناصرية بما في ذلك اجنحة الاتحاد الاشتراكي المختلفة وكتله، ومنذ عام 1968 نوع من تنظيم جديد حمل اسم "حركة انصار الطليعة العربية" وتعارف كوادره على التسمي فيما بينهم ب "حركة الاعداد القومي". وتشكل هذا التنظيم اول ما تشكل في مدينة حلب، مسترشداً ببيان "طارق" الذي كتبه عصمت سيف الدولة وبمنهجه. وكان تنظيماً قومياً الا انه لامر مركزي يقوم على ما سمي بنظام "كتائب الانصار" المزدوجة تنظيمياً وتألفت كل كتيبة من 120 عضواً وتحددت مهمتها بالعمل لتشكيل الحركة العربية الواحدة، وانجاز اداتها في الموعد الذي حدده عبدالناصر لذلك. وعملت "حركة الانصار" بمعزل تام عن الاجهزة الناصرية، وفتحت حواراً قصيرا مع القذافي، الا انها تلاشت كلياً كبنية تنظيمية في اواخر الثمانينات، وقد اتهمها حزب الاتحاد بالازدواجية والطفيلية وتخريب الحركة الناصرية. اما حزب الاتحاد الاشتراكي الجبهوي فقد تلخص تطوره منذ انشقاقه عام 1973 بانقساماته المتتالية، وتدهور قوته التنظيمية والسياسية وواجه في ازمة الثمانينات مأزقاً حاداً، نتج عن اتهام امينه العام فوزي الكيالي بالتعاطي مع الاسلاميين. ورفض امينه العام الجديد في تلك الفترة وهو انور حمادة الذي كان احد قادة انشقاق 1953 - 1954 في جماعة الاخوان المسلمين وذا الصلة بعبدالناصر التوقيع على مرسوم حل النقابات المهنية والعلمية، ولم يؤد قسم الوزارة. واستمر التخبط التنظيمي في الاتحاد الى عام 1985 حين تدخل حزب البعث ممثلاً بأمينه العام المساعد، واشرف على عقد مؤتمر عام توحيدي لحزب الاتحاد الجبهوي انتخب فيه صفوان قدسي اميناً عاماً، وهو ينحدر في اصوله من حركة القوميين العرب، الا انه لم يصل فيها الى اكثر من عضو رابطة، غير ان حزب قدسي واجه انشقاقات حادة لم تتوقف حتى اليوم، ونزيفاً هائلاً في حجم العضوية، وشكل ما تبقى من كتله المحدودة التي يقدر احد اعضاء المكتب السياسي مجموع اعضائها المسجلين بألف عضو، تنظيمات او كتلاً تحمل اسم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي نفسه، او اسم حزب الاتحاد - المكتب السياسي او لجنة القواعد او الحزب الاشتراكي العربي الناصري، او حزب التجمع العربي الديموقراطي. واخذت الانشقاقات والتصدعات كلها شكل هجوم عات على الامين العام صفوان قدسي، ونشر المنشقون بيانات ورسائل علنية بهذا الصدد تنزع عنه الشرعية، وتوجه له اقذع الاتهامات واكثرها عامية وابتذالاً، ما دهور سمعة الحزب، وحوله في منظور كثير من اعضائه الى مجرد شبح متماوت للحركة الناصرية يضم متعيشين من "السياسة". وانتقلت حرب المنشورات الى داخل تنظيم ناصري آخر صغير ممثل في الجبهة الوطنية التقدمية، هو الحزب الوحدوي الاشتراكي الديموقراطي احمد الأسعد، اذ طالبت منشورات باسم لجنة قواعد الحزب بسحب الثقة من الأمين العام، ووجهت له اقذع الاتهامات على غرار الاتهامات الموجهة الى قدسي. وقد انشق هذا التنظيم عام 1974 عن حزب الوحدويين الاشتراكيين فايز اسماعيل، الذي كان له ماض زاه، اذ وصل عدد اعضائه في حلب وحدها عام 1965 الى 6000 عضو، وكان له وزن في النقابات والطلاب. فقدت الحركة الناصرية في سورية ألقها كحركة حزبية او منظمة، وآلت الى مصائر هامشية، في حين ان التيار الناصري الذي تستمد تلك الحركة شرعيتها من تمثيله، والتعبير المؤسسي عنه، ما يزال احد التيارات الأساسية في الفكر السياسي السوري، ويمثل جزءاً حميمياً من ذاكرة السوريين وتاريخهم وحيويتهم وتطلعاتهم على رغم نهاية "الحقبة الناصرية" وتحولها الى حقبة منجزة ومضيّعة في التاريخ العربي الحديث. وفي ذلك تواجه الحركة الناصرية في سورية عجزها البنيوي الراهن عن التعبير المؤسسي عن ذلك التيار. * كاتب سوري