شاركت مهرجانات بعلبك في التكريم العالمي في ذكرى مرور 250 عاماً على وفاة الموسيقار جوهان سباستيان باخ 1685 - 1759 بتخصيصها أمسية كاملة لموسيقى باخ بعزف "فرقة أكاديمية فرانزليسز" المجرية. جاءت الأمسية بعد أقل من أسبوع من تخصيص "قناة التلفزيون الأوروبية" يوماً كاملاً لإحياء ذكرى الموسيقار الذي ولد في إيزبنناخ بثورينجيا الألمانية وتوفي بعد 27 عاماً من ترؤسه فرقة كنيسة القديس توماس في لايبزيغ. ومن المعروف أن العام الحالي شهد سلسلة مهرجانات واحتفالات عالمية شملت دولاً عدة، احتفاء بمن ظل مرجعاً أعلى للموسيقى الكلاسيكية على مدار قرنين من الزمن. جاءت بعلبك الى "تحيّتها" هذه بجمهور شاع في رؤوسه المشيب وفي ألسنته التعدد اللغوي، وساد تخالط في الهيئات والسحن ما عبر عن تمازج في خطوط الزواج وأعراقه وتلك أمور، اضافة الى الحضور الديبلوماسي الغربي اللافت، مألوفة في مستويات معينة من النسيج الاجتماعي اللبناني. ارتسمت ملابس الجمع في تقارب ضؤل فيه الارتجال والنفرة والتطرف وما يميّز ذوق الشباب. ومالت الألوان الى هدأة كلاسيكية لم تبدُ بعيدة عن روائح العطر التي ساعد في فوحها هواء صيفي جاف تردد في جنبات باحة معبد باخوس التي تحوطها جدران شاهقة ما يجعلها مساحة حبيسة. استمعوا "كمن على رؤوسهم الطير" ولم يخطئ، سوى نفر نادر منهم ومرة واحدة، الفارق بين التوقف العابر خلال الحركات الموسيقية ونهاية المقطوعات، ما حدث عن الإلمام بالموسيقى وأصول استماعها التي أرسيت تدريجياً منذ عصر الباروك Baroque والذي يعتبر باخ ذروته ونقيضه في الوقت نفسه. وفي عصر الباروك، شيدت دور الأوبرا، فشهدت مدينة البندقية مثلاً وحدها بناء منها، لتشرع الفنون "المثقفة" في الدخول الى عصور الترفيه Entertainment متنازعة مع الكرنفال، سيد الترفيه في القرون الوسطى. لاحقاً، ستلائم دور الأوبرا جيداً نهوض مشاريع الحداثة التي ستدخلها الى منعطف نوعي آخر ملؤه التشييء والتسليع والتنميط، لكنه مهد أيضاً للسينما والكباريه وعلب الليل والموسيقى وغيرها. ويصلح هذا مدخلاً لنقاش وافر حول الترفيه الذي نعيش اليوم ذروة إمساك التلفزيون فيه، وأيضاً بإمساكه بالمتفرج المتوحّد تقريباً، في ما يأخذ الانترنت بإدخال هذا الفن الى منعطف مزدوج من العزلة الفردية والتوهيم. ومن دون النية في الاستطراد، لا أقل من الاشارة الى الثنيات الزمنية الحاضرة في الاحتفال، والتي حفزها "ثنية" قائمة في صلب المهرجان الذي يعود دوماً بالحاضر السيّال الى قلعة بعلبك الثابتة في الزمن. وفي ذاكرة معبد باخوس كان ذلك "الترفيه"، إذا جاز القول، يرتقي الى مصاف الأسطرة. الكونشرتو وعصر الباروك على منصة حجرية متدرجة، عزفت "فرقة موسيقى العزف لأكاديمية فرانتس ليستز"، وهي تأسست في الموسم 1962 - 1963، أربع مقطوعات لباخ، أولها فيوغ Fugue وهو نوع موسيقي تطور تدريجياً في عصر النهضة وسار به باخ الى نضح تأليفي حتى أنه وضع كتاباً حول فيوغ ضاع قسم مهم منه نظراً لإعراض محايثي باخ عن موسيقاه. لكن الفيوغ لاقى الهوى الديني لباخ الذي عزف معظم عمره في الكنائس متناولاً ترسيمات من وحي الكتاب المقدّس. ويقوم الفيوغ على جملة أو جملتين رئيسيتين، غالباً ما ينهض بهما الكونترباس ثم تستعاد الجمل تكراراً على نحو مركّب، فيما يميل الصوت العميق للكونترباس الى الايحاء بالأجواء الدينية، فكأنها أصوات بعيدة مصعدة الى الأعلى. وتولّت فرقة ليستز توليف جمل منتقاة من فيوغات متنوعة لباخ الذي أنضج هذا النوع وصار مرجعه. وفي فيوغ، بمضمونه المهجوس بالقصص الديني وتركيبه المعتمد على التأثيرات المحسوبة للآلات التي تؤدي معاني النصوص وكذلك ارتكازه الى الأداء العميق للباس عبر التشيللو والفيولنسيل، يبرز باخ بوصفه رمزاً لموسيقى الباروك. وقاد جاسون روللا، وهو سولويست، الفرقة في اداء منضبط ورائق عبر 13 كماناً وثلاث آلات تشيللو وكونترباس واحد. واختارت الفرقة، بعد أن خفضت عدد الكمانات الى خمسة، عزف كونشرتو لكمانين والكونشرتو الثالث من مجموعة برانديبورغ السداسية. وتميّز عصر الباروك بولادة الكونشرتو، وهو نوع موسيقي يعتمد على "تحاور" بين مجموعة صغيرة جداً من الآلات وبقية الفرقة. وفي صلب الكونشرتو هجران الموسيقى للكلام والغناء بكليته واعتمادها على الآلات والنوطات في اداء المعاني. يتفق ذلك مع الميل الى التجريد والغلو في التسامي والإمعان في الزخرفة المجردة التي ميّزت فنون عصر الباروك. وفي عصر النهضة الذي سبق الباروك مباشرة، تألفت صورة الموسيقى من تبادلية الآلات وطباق الأنغام مع الكلمات، ولعبت آلات شرقية الأصل، كالعود مثلاً، دوراً أساسياً. وفي النهضة نشأ فن الأوبرا المرتكز على الاداء الصوتي. في الباروك، نَبَتْ الموسيقى عن دور التابع والمرافق للكلمة، وصارت هي النص البديل، وخصوصاً عبر وضع النبرة على الخلفية العميقة والخفيضة للباس، ما أدى الى اندفاع الكمانات الى المقدمة بحيث صارت أساس الموسيقى ومسار سيولتها ومتانتها. لعب باخ دوراً بارزاً في تطوير الكونشرتو، وأدخل الى نسيجه المدرسة الجرمانية الميّالة الى التأكيد على التوازن والانسجام والدقة المدروسة. ظهر ذلك بوضوح في المقطوعتين اللتين أدتهما فرقة ليستز، وخصوصاً في الكونشرتو البرانديور في الثالث، حيث التوازن والانسجام الصلب بين اداء تسعة آلات وترية تعزف على "مستويات" متعددة تتفاوت بين الاداء الموحد والتناثر في مجموعات صغيرة متحاورة وحتى العزف المنفرد لسولويست. وفي موسيقى الباروك، أدى الانتقال الى وضع النبرة على الآلات وما توّلده المفاتيح من نغمات مؤدية الى هجران الايقاع المتراقص الذي لازم غنائية عصر النهضة. وفي سياق التغيير، برز التأليف الموسيقي المعتمد على نبرتيّ "مينور" و"ماجور" Major وMinor، وهو ما لاقى هوى الجمهور الأوسع وما زال مستمراً في تقاليد الإنشاء الموسيقي. وفي العمل على تغيير النغم الراقص، جاء مؤلف سيوت بإيقاع "مينور - ب" Minor B وهو الثاني من أربعة مينورات ألفها باخ، ولعله الأكثر ذيوعاً نظراً لخفته والدور اللافت الذي تلعبه آلة الفلوت فيه. وقفت برداء نبيذي اللون، وخلفها رجال ببذلات كابية، فأوهمت بتقدم صورة جسدها، وزادت الريح الخفيفة والمتلاعبة في الالتباس. وعزفت على الفلوت نغمات يقف الرقص في أساس نشوتها ما جعل السيوت على خفة وسهولة آخاذة. ومعروف عن السيوت الثاني لباخ ممازجة السهولة مع الدقة في النظم، فوقفت عازفة الفلوت كأنها "قصبة في يد الريح"، وأصرّ الجمهور على الإعادة والاستزادة. بدت كأنها تستحضر من قلب أساطير اليونان، صورة اللواتي دأبن على إحياء الطقوس المهيبة، في هيأة الخفة والرقص والنغمات.