يعكس الجدل بين الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي حول مستقبل الهجرة من الضفة الجنوبية للمتوسط إلى الشمالية، التناقضات والالتباسات التي تأسس عليها مسار الشراكة الأوروبية - المتوسطية في برشلونة عام 1995. ففيما أكد تقرير للأمم المتحدة ان الاتحاد يحتاج إلى استقبال 47 - 79 مليون مهاجر خلال العقود الخمسة المقبلة، أصر الأوروبيون على إحكام اغلاق أبواب القلعة المنيعة، ووصفوا توقعات خبراء المنظمة الدولية بكونها "خيالية". أكثر من ذلك، اتفق وزراء داخلية دول الاتحاد أخيراً على أن الفئة الوحيدة التي تفتح لها الأبواب هي المشكلة من مهندسي الكومبيوتر أو العمال الموسميين "كي لا تستولي فئات أخرى من المهاجرين على فرص العمل المخصصة للعاطلين الأوروبيين". كان مشروع الشراكة المتوسطية يرمي إلى إقامة منطقة للأمن والتعاون، تمحو تدريجاً الفوارق التنموية بين الضفتين، وتكرس التكامل الاقتصادي والثقافي والإنساني، لكن مضمون الشراكة ما زال يسير في اتجاه وحيد من الشمال إلى الجنوب. فالسلع والاستثمارات الأوروبية باتت تتدفق بسهولة على شمال افريقيا والبلدان العربية المشرقية المنخرطة في المسار، بعد إلغاء كثير من الحواجز الجمركية والتجارية. ولكن لا شيء يتحرك تقريباً في الاتجاه الآخر، ولا البشر يستطيعون شد الرحال إلى أوروبا إلا إذا كانوا من أصحاب الشأن. الغريب ان ارساء مشروع برشلونة أتى لمواكبة التحولات التي فرضتها العولمة، وهدمت الحواجز والأسوار، لكن المشروع قام على استثناءات مريبة ليس أقلها اسقاط التدفق البشري من اشكال الحركة. ظاهرياً يبدو صحيحاً ان سد منافذ الهجرة يخدم مصالح البلدان المتوسطية، خصوصاً العربية، لأنه يحمي مواردها وثرواتها البشرية ويحافظ على تماسكها الاجتماعي، لكن الاتحاد الأوروبي لم يقفل الباب تماماً أمام كل أنواع الهجرة من الجنوب، بل أفتى بما يغري العقول والخبراء فقط بالهجرة، وفتح لهم أحضانه، مسبباً نزفاً مستمراً للبلدان المصدرة للعقول. وليس هذا هو الوجه الوحيد للشراكة غير المتكافئة بين قطبي المشروع الأوروبي - المتوسطي، بل يشكل عدم التوازن الاقتصادي والتكنولوجي مصدراً لاستمرار الهوة التنموية بين الضفتين. فالاتحاد الذي يضم أقل من ثلثي سكان "الفضاء المتوسطي" يؤمن 95 في المئة من الناتج الخام للمنطقة، ويرجح الخبراء أن تتعمق الفجوة بعد أن "تنقلب" خريطة التوزيع السكاني إلى العكس عام 2025، فيشكل سكان الضفاف الجنوبية ثلثي سكان "الفضاء المتوسطي". ربما ينبغي عدم إلقاء كثير من اللوم على الأوروبيين، لأن الآخرين أيضاً، وفي مقدمهم العرب، لم يديروا مفاوضات الشراكة من موقع أصحاب الحق الأقوياء، بل وضعوا مصلحة البلد فوق مصالح المجموعة، أملاً بالحصول على "امتيازات خاصة"، فخسروا الامتيازات ولم يستثمروا قوة الورقة الجماعية لأخذ مزيد من المكاسب والتنازلات التي تحمي اقتصاداتهم ومجتمعاتهم من انعكاسات شراكة غير متوازنة. وإذا زادت الفجوة وتركز الثراء في الضفة الشمالية للمتوسط والفقر في الضفة الجنوبية، فإن الانعكاسات لن تكون اقتصادية فقط، بل ستشمل الأبعاد الأمنية والسياسية والاجتماعية، مما يحمل أوروبا على مزيد من التشدد والتمترس خلف الأسوار العالمية، على نحو يهدد بنسف أسس الشراكة.