ها هما المؤتمران الحزبيان قد انتهيا من دون مفاجآت، بعدما توّجا، كما كان متوقعاً منذ شهور، جورج دبليو بوش الذي اجبر الصحافة على الخضوع لطلبه المضحك بتسميته "جورج دبليو" لتفريقه عن والده "جورج بي" - وكأن هناك مجالاً للخلط بين الأثنين وألبرت غور مرشحاً عن كل منهما. ويواصل المرشحان، كل برفقة المرشح لنائب الرئيس، تجوالهما المحموم في انحاء البلاد لكسب المؤيدين. ولم تزد نسبة المشاركين في الانتخابات الرئاسية الماضية في 1996 عن 39 في المئة من مجموع الناخبين أي أن نحو مئة مليون ناخب لم يصوتوا، وليس هناك ما يدعو الى الاعتقاد بأن النسبة ستكون أفضل هذه السنة. الواقع ان هناك خياراً ممكناً بين بوش وغور، لكنه اتفه من أن يستحق الاهتمام. اذ ليس لأي منهما اعتراض يذكر على النظام السياسي غور يقول انه سيصلح نظام تمويل الانتخابات، لكن هذا ما يقوله بوش، وان كان يطرح أسلوباً مختلفاً، كما يتفقان على ضرورة تقوية الانفاق العسكري، ويؤيدان نظام الضمان الاجتماعي ولو أن بوش يريد احالته الى القطاع الخاص، وهما منصاعان تماماً لهيمنة الشركات الكبرى. من الصحيح ان بوش يعارض الاجهاض فيما يعتبره غور حقاً من حقوق المرأة، وان بوش يريد خفض الضرائب على الأغنياء، فيما لا يريد غور ذلك، او على الأصح انه لا يريده فوراً. لكن القضايا التي تجمعهما تفوق أهمية ما يفرقهما، ولهذا يتخذ النقاش بينهما في حالات كثيرة شكل الاتهام المتبادل بسرقة الشعارات. يعد المرشحّان باجراء المزيد من الخفوض في الانفاق العام. ويعني هذا فعلياً خفض الدعم الحكومي للفقراء والمحرومين والأقليات - وهذا بعدما خفض بيل كلينتون، رافع لواء "الليبرالية الجديدة"، البرامج الفيديرالية للدعم الاجتماعي الى نقطة الصفر تقريباً. انها نكسة رئيسية لمحاولة اقامة مجتمع تقدمي انساني. وعندما نرى المرشحين يعدان بزيادة في الانفاق العسكري، بما ينفخ موازنة "الدفاع" الحالية التي تزيد أضعافاً على مجموع الانفاق العسكري لبقية العالم، نستطيع أن ندرك مدى تشوّه سلّم الأولويات في الولاياتالمتحدة. يفتقر ملايين الأميركيين الى الضمان الصحي، ما يحرمهم من العناية الطبية ومستويات الاسكان والتعليم المقبولة، كما يتركهم من دون دفاع أمام الشركات الكبرى أميركا سوق تامة الحرية الى حد كبير، ومن دون رأي من أي نوع في التجاوزات بحق البيئة. غير أن بوش وغور لا يتناولان هذه القضايا. ويركز الاثنان على دعمها ل"القانون والنظام" بوش يعارض السيطرة على السلاح الفردي فيما يتخذ غور موقفاً غامضاً من الموضوع، وهو ما يعني بالنسبة الى فقراء "الغيتو" وسكانه، خصوصاً الأميركيين الأفارقة، المزيد من وحشية الشرطة، والمزيد من ايديولوجية الفرض الاعمى للقانون، والمزيد من السجناء نسبتهم في أميركا هي الأعلى في العالم. ولا يخجل بوش من حماسه لعقوبة الاعدام سماه الصحافي الكساندر كوبرن "السفاح الأكبر في أميركا"، لكنه وغور يريدان تشدداً أكثر تجاه الهجرة وسياسة خارجية أكثر محافظة. وتحفل الحملات الانتخابية للمرشحين بمناقشات عن كيفية التعامل مع "الدول المارقة" والحاجة الى حملة لا هوادة فيها على "الارهاب" أي الاسلام، وكأن الولاياتالمتحدة ليست في حقيقتها الدولة المارقة الأشد خطراً في العالم اليوم. أما عن الشرق الأوسط فيتسابق الاثنان، بالطبع، الى دعم اسرائيل، كما يؤيدان سياسات تدخلات خارجية علنية وسرية على غرار ما حصل في كوسوفو والعراق وأميركا الوسطى ومناطق اخرى في آسيا وأفريقيا. وكان ريتشارد تشيني، مرشج الجمهوريين لمنصب نائب الرئيس، معارضاً للعقوبات على النظام العنصري في جنوب افريقيا واعتبر المؤتمر الوطني الأفريقي مجرد منظمة "ارهابية". من جهته كان مرشح الديموقراطيين لنيابة الرئيس جوزف ليبرمان أول ديموقراطي يصوت لصالح حرب الخليج وهو من أشد المتعصبين لاسرائيل. هذا هو أيضاً موقف غور. وكان استاذه في جامعة هارفرد وأحد مستشاريه الرئيسيين الآن مارتن بيريتز استخدم ثروة زوجته لشراء مجلة "نيو ريببلك" قبل نحو 25 عاماً وحولها من اسبوعية ليبرالية الى ناطقة باسم سفارة اسرائيل وهو الادعاء الذي تفخر به المجلة في الاعلان عن نفسها. وليس هناك في الصحافة الأميركية من يفوق بيريتز في الاصرار القائم على الجهل على كره العرب والمسلمين والامعان في احتقارهم وإهانتهم. ووصف بيريتز مراراً بأنه مهم تماماً لحملة غور، ولا شك في ان أي مواطن منصف يجب أن يشعر ببالغ القلق من احتمال قيام بيريتز بدور، علني او مستتر، في رئاسة غور. المشكلة ليست انه صهيوني متعصب بل أنه يزايد على صهاينة حزب العمل من وجهة نظر يمينية، وكل ذلك برياء الجبان الوضيع الذي يريد لاسرائيل سياسة عليها اذا اتخذتها ان تحميها بقوة السلاح، فيما يقبع هو مرتاحاً متمتعاً بأمواله في واشنطن وبوسطن. ليس من المبالغة القول انه يمثل أسوأ ما في الصهيونية والعدوانية الأميركية وهو كارثة للشعبين على حد سواء. ويفاقم من هذا بالطبع وجود السناتور ليبرمان على قائمة الديموقراطيين، بسجله السياسي الذي يشهد على انتمائه الى يمين الحزب. ولا يكتم ليبرمان، مثله في ذلك مثل غور وبوش، رغبته في اقحام الدين في المجال السياسي، في هذا النظام الدستوري الذي يقوم على الفصل الواضح بين الكنيسة والدولة. اضافة الى مجافاته للدستور يشكل الاقحام الصارخ للدين في المؤتمرين الديموقراطي والجمهوري تحذيراً لغير اليهود والمسيحيين في أميركا خصوصاً المسلمين الذي يتجاوزون اليهود عدداً وهم المجموعة الدينية الثانية في البلاد من خطر استغلال الدين لغايات سياسية ضمن ديموقراطية علمانية كهذه. ويمثّل هذا واحداً من أوجه الاندفاع الأحمق الذي تتسم به الحملات الانتخابية، حيث يتسابق الحزبان الى كسب تأييد قطاع يمين الوسط، بما عرف عنه من المحافظة المالية، وخطاب معاداة الدولة، وأيديولوجية "القانون والنظام"، والعداء للهجرة النابع من كره الأجانب، ثم الموقف الامبريالي المتعالي القائم على الجهل تجاه بقية العالم خصوصاً عالم غير البيض. ولا يسع المراقب، عند النظر الى هذين الشخصيين العاديين تماماً، الا من حيث كونهما سليلي الطبقة السياسية الأميركية، سوى التساؤل عن السبب في أن بلداً غنياً بالمواهب مثل الولاياتالمتحدة لا يجد من يرشح الى المنصب الأقوى في العالم غيرهما. أسمع حالياً أن استبشاع الأميركيين العرب لموقف غور وليبرمان تجاه الشرق الأوسط وصل الى حد يدفعهم الى تأييد بوش والديناصور السياسي ريتشارد تشيني. لكن هذا خطأ كبير، لأن هناك رالف نادر، مرشح حزب الخضر، وهو الأفضل لمنصب الرئيس، وليس بوش أو غور اللذين وصلا الى موقعهما، تماماً مثل نظرائهما في العالم العربي، عن طريق الوراثة والثروة وليس الجدارة. المفارقة الكبيرة أن غور وبوش يكرران كالببغاء الحاجة الى اصلاح نظام تمويل الحملات، وكأن بامكانها الوصول الى موقعهما لولا الانتهاكات الفاضحة لقواعد التمويل الحالية. ويخص الاعلام الأميركي المرشح نادر بأسوأ ما يمكن من المعاملة. ولا يقتصر ذلك على عدم اعطائه وقتاً مساوياً للمرشحين الآخرين، بالرغم من أن الاستطلاعات الأخيرة تبين ان نسبة المرتاحين الى مواقفه تصل الى نحو 15 في المئة وانه يتقدم بسرعة ضد منافسيه الرئيسيين. بل ان الصحافيين عندما يقابلونه لا يخفون استخفافهم وتضايقهم من التحدي الذي يوجهه الى التيار السائد. من ذلك مقابلة اجرتها معه ماريا شرايفر اثناء مؤتمر الحزب الديموقراطي، وشرايفر امرأة من دون مواهب وما كانت لتحصل على عملها لولا انها من عائلة كنيدي، وقد طرحت عليه خلال المقابلة اسئلة من نوع : "الا تعلم انك لن تفوز؟ لماذا اذن تخرب فرصة غور في الفوز؟" وهو موقف فاضح في انحيازه من صحافية يفترض فيها الحياد. يتخذ نادر مواقف قاطعة من الشرق الأوسط. قال في مقابلة مع "سي ان ان" انه في حال الفوز سيوقف المساعدات الى اسرائيل ويرفع الحظر عن العراق. كما ليس هناك مرشح له شجاعة نادر في مواجهة الانتهاكات البشعة التي يتعرض لها المجتمع الأميركي، من جشع الشركات الكبرى التي سرقت من السكان حقهم في العناية الصحية وسرقت منهم البيئة والسوق وحتى موجات الأثير، الى القضية الكبرى المتمثلة بمصير الفئات العاملة التي كلفها ايمانها ب"الحلم الأميركي" ثمناً باهظاً. السبب في سلبية الناخبين هو مللهم من اللحن المكرور القديم عن الرخاء تمر البلاد حالياً بمرحلة ازدهار اقتصادي، لكنه ازدهار لقطاعات معينة والمزيد من الفقر للآخرين فيما يرون حصتهم من الفائض في الموازنة تذهب الى موازنة الدفاع وكبريات الشركات. رالف نادر على حق حين يقول ان الفقراء يزدادون فقراً، وان حماية الحكومة للمواطن في تناقص مستمر. كما ان له، بحكم كونه أول مدافع عن المستهلك يعرفه العالم، معرفة انسيكلوبيدية بقوانين أميركا هو محام أيضاً، وقضى نحو أربعين سنة في الصراع ضد جشع كبريات الشركات وسيطرتها على الحكومة. وأجد انه أفضل من يعبر عن نفسه، كما في قوله في مقابلة مع لويس لابهام رئيس تحرير مجلة "هاربر"، وهي من المطبوعات المستقلة القليلة الباقية في الولاياتالمتحدة: "بخلاف غور وبوش أنا لا أقدم نفسي حلاّ لمشاكل الأمة. بل الفكرة هي تشجيع الكثيرين من الناس على استخدام آليات النظام الديموقراطي للسيطرة على مواردهم العامة المشتركة، أي الأرض التي تعود الى الملكية العامة، وموجات الأثير العامة، والمال العام. ومهما كانت القضية التي تواجهك - العنصرية أو اضطهاد المثليين أو الضرائب أو العناية الصحية أو انهيار المدن - فلن تتقدم نحو حلها اذا لم تحصر انتباهك في قضية تركيز السلطة. لدينا في اميركا فئة ثرية متسلطة بالغة التطور، مقابل ديموقراطية غير متطورة، اي الكثير من المصالح الخاصة التي تستغل المرافق العامة من أجل الربح. ان غالبية الأميركيين لا تدرك مدى الضرر الذي يلحق بها من استحواذ المال الخاص على المرافق العامة. واذا عرف عدد يكفي من الناس الأسئلة التي يجب طرحها ستكون لدينا سبل ووسائل للتوصل الى مدارس أفضل وبيئة أكثر صحية وخدمات طبية مناسبة أوسع انتشاراً". يلاحظ لابهام في المقابلة نفسها أن احاطة نادر بالوقائع مذهلة - مثلاً، عدد الذين يموتون بسبب سوء المعالجة الطبية، ومكوّنات نظام توليد الكهرباء في كاليفورنيا المهيأ للخصخصة. ومن هنا يبدو غور وبوش كأنهما طفلان مقارنة به، خصوصاً بوش، حاكم تكساس الخامل المشهور بجهله عن العالم، الذي يحيط نفسه بمخلفات ادارة أبيه، وسيصبح في حال الفوز رئيساً يقضي وقته في اللغو وتناول الشراب مع هؤلاء العجزة أنفسهم. الواضح ان نادر يثير خوف الاثنين، بسبب صدقه وأيضاً قدرته على احداث التغيير حيث لا يرى الباقون امكاناً لذلك. كما تتسم حياته الخاصة بالتقشف، في حين أن حملته التي سرني انني ساهمت فيها وادعو الآخرين الى المساهمة تقوم أساساً على المتطوعين وليس كبار المتمولين وخدمهم. ان له حضوراً ضخماً في الحياة الأميركية ومن المهم للعرب الذين لا يزالون يفاضلون بين بوش وغور ان يتعرفوا اليه. وكما يقول نادر في مقابلته مع لابهام في عدد "هاربر" لأيلول سبتمبر 2000 أن القضية بالنسبة اليه تتجاوز الفوز أو الخسارة، بل في البروز كعنصر مهدد للوضع القائم ونذير بالتغيرات التي تحصل. وهو ما ينطبق على كل التغيرات الحقيقة في الحياة العامة الأميركية، من حركة حقوق النساء الى الثورة ضد بنوك الساحل الشرقي الى الحركة النقابية - اذ لم بأت أي منها من داخل النظام بل جاءت كتحديات له. المثير للاستغراب بالطبع هو أن نادر، رغم انه من أبوين لبنانيين، لم يشارك في أي من التحركات العربية أو الأميركية العربية، حتى في أيام السناتور السابق جيمس أبو رزق في السبعينات عندما كان أبو رزق الأميركي العربي المرموق الوحيد في الحياة العامة الأميركية. السبب كما اعتقد هو خشية نادر من أن دوره كمدافع عن العرب كان سيضرّ بعمله مدافعاً عن المستهلكين. ويبدو انه لا يزال على هذا الموقف، فهو رغم موقفه المعلن من اسرائيل والعراق لا يعطي الكثير من الوقت للسياسة الخارجية. ذلك أن ما يريده أهم، وهو اقناع كل مواطن بأن لا تغيير نحو الأفضل الا من خارج نظام الحزبين. أو كما قال في المقابلة مع لابهام "عندما يقولون لي انني اخرّب نظام الحزبين، اجيب: وماذا بقي منه لكي يُخرب؟ الحزب الديموقراطي لن يصلح نفسه. ولو وقف تحت دوش بارد مدة اربع سنوات ربما فكّر بشيء يعمله ويقوله يختلف عما يقوله ويعمله الحزب الجمهوري". كتبت في واحد من مقالاتي الأخيرة عن "التفكير السحري"، أو ذلك النوع من المنطق الذي يقول بأن التغيير قد يأتي فجأة بما يشبه المعجزة، فيما الواقع ان لا إمكان للتغيير الا من خلال العمل الجاهد والاحاطة بكل جوانب النظام والتعبئة الشعبية. وهذا ما يمثله نادر في السياق الأميركي. انه يقدم درساً للعرب والأميركيين الذين نفذ صبرهم من الاحتكار للسلطة من جانب الانظمة والنخب، وايضاً من ايديولوجية التفكير السحري السلبي. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.