في ازاء منحوتات منقذ سعيد عراقي، مقيم في هولندا التي يضمها معرضه المقام حالياً في صالة أجيال بيروت، تبدو فكرة رد الاعتبار الى الشكل النحتي أمراً ملحاً. فهي أي المنحوتات وان جاءت لتعبر عن خبرة تقنية عالية سواء في معالجة المادة أو في اقامة علاقة حيوية بين الكتلة والفراغ فإنها لا تخفي انحيازها الى ما تحمله من أفكار، أو ما تدعي انها تعبر عنه. وهكذا يكون الشكل قد تراجع أمام الفكرة المتسيدة بأمعان مطلقها. قد تسعى هذه المنحوتات من جهة تماهيها مع هذا المطلق الى تشكيل اجاباتها، غير أنها، كما أرى، لم تتخط سؤالاً جوهرياً يتعلق بهذا النوع المضطرب من العلاقة بين الشكل والمضمون، والذي يمكن اختزاله تبسيطياً، وهل بإمكان الفكرة أن تصنع خطوتها الجمالية بمعزل عن الشكل؟. وقد يكون هذا السؤال مفتتحاً لسؤال آخر هو هل يصلح الفن موضعاً للتفكير؟. فهذا النحات الذي لم يتجاوز بعد المحنة الشكلية للجسد البشري، هذا الجسد الذي يقيم بعد رودان في المسافة الشائكة ما بين حياكومتي وهنري مور يتطلع الى أن تنهي الأفكار محنته وعلى الأقل تسمح له بأن يحتل مكانة ما بين النحاتين، بشرط مقترحاته الفكرية. وهو شرط، في أحسن أحواله، انما يحضر مصحوباً برقابة العقل التي هي رقابة لا تراهن حتى على خطأ غير محسوب، بل تسعى الى تدجين كل خطأ وتبريره. وهو ما يمكن تلخيصه في ان النحات في هذا الفنان يعمل منصتاً الى صوت المفكر، واليد منه لا تحلم وهو يسبر مجاهيل المادة المستعملة بل تكتفي بتلقي الأوامر لتنفذها ببراعة مغالىً في حرفيتها. وفي ذلك عنت يسعى اليه منقذ سعيد ناظراً الى أسطورة ترى في الفن مدخلاً وجودياً لاستيضاح نفائس أو نقائض أو نقائص النفس البشرية. وإذا ما كانت منحوتات هذا الفنان، تكشف كما قلت عن خبرة تقنية في اقتناص امكانات المادة المستعملة وعن مران طويل في ملامسة ثنيات الجسد البشري فإنها في الوقت نفسه تكشف عن عزوف الفنان عن التلذذ الحسي او التماهي مع جماليات الفعل الفني الآنية. فهذه المنحوتات تقع على مصدرها الفكري كما تقع الكلمة على السطر. وهي لا تعبر عن ضالة وجودها باكتفائها الجمالي، بل تثير لدى المتلقي شهوة الاحالة: هناك دائماً الفكرة التي تبرز فعل النحت. وهي فكرة أشبه بالموعظة. ولكن، هل يحتاج الفن الى سبب ليكون موجوداً؟ ومع ذلك، قد يكون مفاجئاً للنحات قبل سواه إن زعم أنَّ فنه وهو يعرض في معرضه الحالي جزءاً يسيراً من تجربته لا يحتاج الى ان نضنيه بالأفكار. سواء كانت هذه الأفكار سابقة عليه أم لاحقة به. فهو ببساطة ينتمي الى سياق شكلي فارق صدمته التجريبية الى حضور يكاد يكون مبرهناً على ثباته في رحم تجربة النحت الحديث مثل رودان. ذلك لأن الجسد البشري الذي انحسرت عنه هالة القدسية، كونه وسيلة، ليصبح هدفاً مقصوداً لذاته، كان موقعاً افتراضياً لقدر هائل من البحوث الجمالية. وقد تفنن النحاتون في اختراع سبلهم التي تعينهم في الوصول اليه، من خلاله، من غير أن تفارق أحدهم وان كان جياكومتي لذة الإحساس به والعيش وسط نعيمه. كان الجسد جنة جاءت متأخرة بالنسبة للكثيرين، هذه الجنة التي هي موقع غزل لا ينتهي، وصولاً الى التجريد لدى هانس ارب على سبيل المثال. ومنقذ سعيد في منحوتاته الحالية على الأقل انما ينتمي الى سلالة المنصتين الى نغم هذه الجنة. وله ما يقترحه، خاصاً به، لا لترويض هذا النغم، بل للافتتان بوحشيته. ولذلك فإن هذه القطع النحتية لا تخسر ضمن هذا الإطار شيئاً لو عزلت عن محدداتها التي هي مصداتها الفكرية. ففي حوارها الجسدي نوع من البوح عما يخترق الوجود من حالات تشظ وسمو واستباحة وفناء وضنك واسترخاء وخسران ورجاء وضمور وارتداد ومكابدة واحتفاء. انها تضي الوجود بذاتها وتحتفي به لذاتها. ولا تحتاج الى خلوده لتفسير آنيتها. ذلك لأن بداهته أي الوجود ليس بإمكانها أن تضعها في موضع التداول، ولا يمكنها في الوقت نفسه أن تراهن على أزليته، التي هي حال متحركة ليس إلا. غير ان منقذ سعيد، وهو المثقف العصي نحتياً لا يرى في ذهابه الى الموضوع الذي هو تجسيد لفكرة ما نوعاً من معصية الجسد لذاته. بل على العكس من ذلك تماماً، فهو يستعمل الجسد جسراً للوصول الى ضالته: القول المفخخ بالفكرة. وهنا يشتبك النحت بالنصبية. منقذ سعيد يفكر نصبياً، أو هكذا توحي أعماله. فهي كما لو أنها نماذج مصغرة لأنصاب مفكر بها سلفاً. وهنا بالضبط، يكون انضباط الشكل وظيفياً قد استوفى شروطه، بحسب ما تمليه ارادة الفنان نفسه. فالشكل بالنسبة للمشروع النصبي ليس مشروع تخييل مفتوح، بل هو مغلق على معنى تذكري مؤهل للتفسير الثقافي. الأمر الذي يجد له صدى في الفكر الفني لهذا النحات. فمنقذ سعيد يسعى الى تأثيث فضاء مطلق، فضاء لا يجرح سكونه أي صوت غير متوقع. وهو فضاء أملس وناعم مثلما هي سطوح كائناته غير الأرضية، التي غالباً ما تحضر محلقة. وهي في ذلك انما تؤكد المنحى الالهامي لفكرة الخلود، أو لطريقة النظر الى هذه الفكرة. غير ان الفكر النصبي، بكل ما يدعيه من مقولات مطلقة انما يضع المتلقي في منطقة تخييل عمياء. ذلك لأنه يقدم للمتلقي كل ما يراه ثابتاً، غير قابل للفناء. وهو في الوقت نفسه يرمي المتلقي وسط متاهة بداهاته المفسرة سلفاً. وكما أرى فإن النحات، يرتكب خطيئة كبيرة حين يستسلم لمثل هذا القدر النصبي، الذي يمكن تفاديه عملياً. ذلك لأنه إذ يراهن على الفعل النصبي، غير المتحقق واقعياً، إلا بصورته المصغرة، فإنه يخسر النحت كونه فضاء آخر يساهم المتلقي في تأثيثه بردود أفعاله غير المنظمة، سلفاً. وبذلك يكون النحات وهو يفكر نصبياً قد غادر النحت ولم يبتكر واقعياً مسافته النصبية. وكما أرى فقد وقع منقذ سعيد في مصيدة رؤاه النصبية. غير ان هذا النحات المقيد بفكره ومن ثم بطقسيته النصبية، يمتلك كما قلت كل مهارات النحات التقليدي - المتحرر من كل ارث اكتسب خبرته، وهو لا يحتاج الى الى رشقة حرية، تأتيه من جهة غير مكتملة. جهة لا تزال قابلة للتشكل، لكي يبعث روح الغموض في أصابعه وهي تدعك وتشرخ وتخترق سطح المادة التي يحاورها وينشىء منها وبها كائناته النحتية.