حين ظهر النحات العراقي هيثم حسن في بداية ثمانينات القرن العشرين كان نوعاً من البشارة لفن يعاني محلياً من محدودية عالمه على مستوى التقنيات والأشكال والأفكار. فن خياله أقل من شقاء تنفيذه. حرص هذا النحات (مولود عام 1957) على أن يبتكر مسافة تفصل بينه وبين معلميه وبالأخص منهم اسماعيل فتاح. كانت أشكاله تكشف شغفاً عميقاً بالتعبير عن التجربة الشخصية. فكانت تماثيله بمثابة يوميات حياة تسترسل في ادائها التخيلي من خلال مادة أخرى، مادة لا تنتسب مباشرة إلى الحياة إلا بمقدار ما تنتسب مادة الصورة الفوتوغرافية إلى ما تسجله من وقائع معاشة. بهذا المعنى لم تكن منحوتاته محايدة أو وصفية. كانت هناك دائماً حكاية شخصية لها وقعها العاطفي. وهي الحكاية التي سعى هيثم من خلالها أن تكون له بصمته الشخصية في النحت العراقي المعاصر. لم تغره الرمزية المؤسطرة اسلوباً في معالجة موضوعه الإنساني. وهو ما كان يشكل محور اهتمام معظم النحاتين العراقيين يومذاك. كان الإنسان لديه جاهزاً، وهو كل ما ينتج عن خبرته في التماهي مع حواسه المباشرة. يومها كتبتُ شيئاً عن عصر ما بعد البرونز في اشارة إلى عمل رودان العظيم (عصر البرونز). كان لهيثم ملائكته المستلهمون من شقائه الشخصي. لم يكن هيثم في حاجة إلى أساطير مستعادة تلهمه معاناة أبطالها ومسراتهم ما يفعل. غير أن ربع قرن من الزمن، بكل ما حمله من شقاء مرآتي، متشظ بالنسبة للعراقيين دفع هذا النحات كما يبدو إلى مراجعة حساباته. فحياته الشخصية التي لم تعد متصلة بجذورها كما يحب أن تكون، ولم تعد هي الجدار المستقر الذي في إمكانه أن يسند ظهره إليه ويقف في مواجهة العالم. صارت الوقائع من حوله تشف وترق وتتفتت بل وتختفي. لم يعد متأكداً من أن في إمكانه أن يمسك بمادة صلبة يلتقطها من عدة خبرته السابقة. البرونز هو الآخر صار يسيل. صار النحات يسأل مادته بقوة الشك نفسه التي يسأل فيها أفكاره. وحين ينتقل النحات إلى استعمال مواد أخرى تتغير أفكاره بالضرورة. سيكون عليه أن يواجه الآخر الذي يمثله بثياب النحات ايضاً. هيثم الآن في كندا وليس في بغداد. وهو يقيم معرضه الحالي في جمعية النحاتين الكنديين وليس في جمعية الفنانين العراقيين أو في احدى قاعات بغداد. ولهذا ذهب النحات إلى غربته مسلحاً برغبته في اللجوء إلى مواد أخرى تنسيه تلك الكثافة التي تسربت. مواد سبق له أن استعملها في غربته الصغرى في عمان على سبيل المران. وهكذا وجد هيثم فرصته في أن يغادر حكاياته الشخصية ليعثر على قناع يخفي وجهه وراءه. الآن لا حاضر يُمسك بثقة إذاً. ولأن يدي النحات تحلمان كما يقول برانكوزي، فإن هيثم صار يستخرج من فضاء لامرئي أشكاله (لا يزال يصر على تشخيصيته) التي تكسب مشاعره الحالية نوعاً من المرجعية التاريخية، وهي مرجعية حزينة دائماً. ها هو ذا يعود إلى حكايات (خرافات) بلاد ما بين النهرين. يستلهم أنوثة عشتار ويمشي خفية وراء غلغامش في رحلته ويجالس أنكيدو فيما عينه تغازل صاحبة الحانة. ربما تكون كل هذه الحكايات بالنسبة لهيثم ذريعة ليس إلا. غير أنه بالتأكيد صار في حاجة إلى حضور من يؤنس وحدته، من يشعره بضرورة أصابعه. ولأنه لا يرغب في أن يستعيد تفاصيل حياته باعتبارها رؤى من حياة سابقة فانه يلجأ إلى أصدقاء محتملين. أصدقاء سيكون عليه أن يشاركهم أفكارهم بحثاً عن الجانب المطلق في تلك الأفكار. الجهة التي في إمكانه الوقوف عليها من غير أن يضطر إلى الوصف، وصف الماضي. فلديه ما يقوله عن حياة لم تكتمل بعد. حياة ناقصة سلبتها الأسطورة قدرتها على أن تُعاش. يتماهى هيثم مع أبطاله بتأثير من خيال مواده الجديدة. وهي مواد تنتمي إلى عصر لا يكترث كثيراً بالمعاني الخالدة. في هذه المسافة من التناقض يكافح هيثم من أجل استعادة معادلات جمالية تضع شرط الوضع البشري في مقدم اهتماماتها. من النظرة الأولى تبدو الشخصيات الأسطورية التي يستحضرها النحات كما لو أنها نوع من الاستعارة. فهي لا تعيدنا إلى أصولها الملحمية. لا لأنها تنبعث من لحظة خيال معاصر، بل لأن وعياً شقياً يحضها على أن تكون موجودة بعيداً عن بنية عصرها. يجلبها هيثم لتكون محل نجواه لا ليثني عليها أو ليستعرض تنبوءاتها. وهنا يستجيب النحات لفكر نحتي لا يخضع لشروط الفكر النصبي. منحوتاته لا تصلح أن تنفذ أنصاباً. فهي لا تعني إلا شخصاً واحداً، هو النحات نفسه. وهي لا تقول إلا ما يظنه النحات قادراً على التعبير عن أزمته الوجودية. مصيره الاستفهامي الذي صار يغريه بمزج الأزمنة بخفة كما لو أنها أجزاء من حدث لم يقع بعد. هكذا لا يضطر النحات إلى استعارة قناع من إحدى شخصياته ليكون موجوداً بينها. يكفيه أن لديه قناعاً لم يضعه على وجهه من قبل. قناعاً يفصح عن غربته. فلا هو غلغامش ولا هو أنكيدو. أما غزله المستمر بعشتار فما هو إلا نوع من الغنج الذي تمارسه المادة بين أصابع النحات.