ما يحز في النفس، ويبعث الأسى، ويمزق الفؤاد مسألة الخلاف التي يعاني منها المسلمون اليوم في شتى ربوع الأمة الاسلامية، حيث ان هذا الخلاف بدأ يعظم شيئاً فشيئاً وتزداد الشقة والافتراق معه. فما كانت النتيجة إلا ان وجدنا الأمة الاسلامية تنحدر الى هاوية الضعف والهوان، والانحطاط والعجز. وإنني إذ أشخص هذا المرض - ولست بطبيب - انما أتكلم بلسان كل مسلم يعتز بدينه... وأنطق بمنطق كل فرد من هذه الأمة وأنا أنصت الى حديثهم وهم يجدون أنفسهم في دوامة قد قلبت أمامهم الحقائق، وأضاعت عليهم الطريق الذي ينشدون، وجعلت التردد يراود نفوسهم أي طريق يسلكون وأي منقلب بعده سينقلبون. وإننا إذ عرفنا حال الأمة، والعلة التي انتشرت في نفوس أفرادها لا بد من أن نبحث عن السبب لنستطيع بعد ذلك أن نعالج المرض على بصيرة من أمرنا. ولما كانت الأسباب متعددة فلا بد من أن نضع أيدينا على أهمها لذا فإنني أقول - وبكل خجل واستحياء - إن أهم هذه الأسباب التي جعلت الأمة تعيش في حال تيه من أمرها هو علماء هذه الأمة، أولئك الذين أكرمهم الله بحمل هذه الأمانة التي تشرف بحملها من قبلهم نبي هذه الأمة، عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم أولئك الذين شرفهم الله أن مكنهم من التربع على عرش الدعوة اليه سبحانه وتعالى. وهنا أظن ان الكثير قد حلق بهم الخيال فحسبوا أنني، من خلال كلامي هذا، أتهجم على العلماء أو أنني أقول في حقهم ما ينبغي لمثلي ألا يقوله لمثلهم. أقول لدفع مثل هذه الريبة التي قد تداعب فؤاد أحد إنني - والله - ما دفعني لأن أقول ما أقول هوى في نفسي، أو بغض أحمله على أحد. وانما الذي دفعني على ذلك أمور منها: الهدف الذي يهيمن على مشاعري وتفكيري، وهو أن أجد هذه الأمة وقد توحدت وتكاتفت وعاشت في ظل الاسلام كما عاش أسلافها. الأمر الآخر وهو واقعة حال، حيث أنني يوماً كنت أنصت الى نقاش كان يدور بين مجموعة من الشباب الذين ينتمون الى اتجاهات شتى - فضلاً أنهم ينتسبون الى العلم - وبعد أن فرغوا من حوارهم أو جدالهم قام ثلة من المستمعين وقالوا: لقد ضعنا وتشتت أفكارنا، ولم نعد نعلم أي الحق وأي فريق نتبع؟ حتى أن أحدهم قال وبالحرف الواحد: "إن علماءنا هم السبب وهم يتحملون مسؤولية ضياعنا". فتألمت كثيراً وأنا أسمع هذا، وصرت في حيرة من أمري، ولكنني كتمتها في نفسي وأظن أنه آن الأوان لأن أوصل هذا الكلام الى من وجه اليهم. وثمة أمر، وهو أهمها، عنيت صدور كتاب، في الآونة الأخيرة، بعنوان نصيحة لإخواننا علماء نجد بقلم فضيلة الأستاذ يوسف بن السيد هاشم الرفاعي. وقد قدم لهذا الكتاب فضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بمقدمة طويلة. ورد عليهما فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان بمقال نشرته مجلة الدعوة/ العدد 1730 عنوانه "بيان ما في نصيحة الرفاعي من سم". ومن خلال قراءتي للكتاب والرد عليه، وجدت أشياء يلتقي عندها الجميع شجعتني على أن أوجه رسالتي الى علماء هذه الأمة في شكل عام، والى فضيلة أستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وفضيلة الشيخ صالح الفوزان في شكل خاص. ولنبدأ بالكتاب: لقد انطلق المؤلف من قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم". ثم قال في خاتمة مقدمته: فقد عزمت - بعد الاستخارة - أن أتوجه إليكم بهذه النصيحة التي أرجو أن تكون مقبولة، سائلاً المولى تعالى أن يرينا وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله علينا متشابهاً فتتبع الهوى والله الهادي للصواب". ومن خلال كلام السيد يوسف الرفاعي يظهر أنه يريد النصح أمتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا النصح لا يكون الا ممن يغار على هذا الدين، ويتألم لفرقة أهله ويسعى لوحدتهم. ثم انه بعد ذلك هو يبحث عن الحق من خلال الحوار بعد ان ينسلخ من الهوى واتباعه. أما مقدمة فضيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي التي تصدرت الصفحات الأولى من الكتاب فإن أهم ما جاء فيها شيئان: الأول: هو دعوة علماء نجد للنقاش والحوار وفق موازين العلم على أهم المسائل التي تشكل عقبة في طريق التقارب والتلاحم، حيث قال: "تشاكينا، أنا وصديقي الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، في لقاء بمناسبة مؤتمر عقد في احدى بلادنا العربية هذه، تشاكينا هذا الوضع المؤلم... ومن ثم فقد أصبح هذا الوضع سبباً لأسوأ مظاهر التناحر والثقافة في العالم الإسلامي، بل في جل المراكز الاسلامية في أوروبا وأميركا. قال لي الدكتور عبدالله: حقاً إنه لوضع مؤسف، فما الحل؟ قلت: والكلام للدكتور البوطي: "الحل هو أن نتحاور مع هؤلاد الأخوة ونتجاذب أطراف البحث طبق موازين العلم، فإذا تحقق الإخلاص وخلت المقاصد من الشوائب فإن العلم يهدي الى الحق، والحق يدعو الى الوفاق". ثم يتابع فيقول: "واتفقنا بناء على هذا، على اقامة ندوة علمية في المملكة السعودية، مؤلفة من عشرة من علماء المملكة ممن يتمتعون بالعلم الوفير والاخلاص لدين الله والغيرة على وحدة الأمة، ومن عشرة من علماء بقية العالم العربي يتسمون بالصفات ذاتها". ثم يقول فضيلة الدكتور البوطي: "وتفرقنا على هذا الأساس، والتزمت أن اقترح أسماء العلماء العشرة من مختلف بلادنا العربية وفي مقدمتها سورية، كما التزم هو أي الدكتور التركي أن يقترح أسماء العلماء العشرة من المملكة، ومن ثم يتحدد الموعد ثم يتم اللقاء. ولقد وفيت بما التزمت، فأرسلت اليه أسماء العلماء العشرة الذين تأملت فيهم العلم الوفير، والإخلاص لدين الله والغيرة على وحدة المسلمين. وانتظرت أن أتلقى منه بقية الأسماء وتحديد ميقات الندوة ومكانها. وها أنا ذا لا أزال أنتظر، وقد مر اليوم على هذا الاتفاق سنوات!!. الثاني: هو تضرعه الى الله سبحانه وتعالى أن يجمع الأمة على الحق الذي جاء به كتاب الله، ودلت عليه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وسار عليه سلفنا الصالح. أما المقالة التي رد من خلالها فضيلة الشيخ الفوزان فقد جاء فيها دعوة الأمة الى الاعتصام بحبل الله، وعدم الافتراق، والسير على نهج النبي صلى الله عليه وسلم مستدلاً بذلك بآيات كريمة وأحاديث صحيحة، مثل قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" آل عمران، آية 103، وكذلك قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك له عذاب عظيم" آل عمران، آية 105. وكذلك استدل بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". ودعا الاستاذ الرفاعي الى الحق، فقال فضيلته: وندعو الاستاذ الرفاعي - هداه الله - الى الرجوع الى الحق - فالرجوع الى الحق خير من التمادي في الباطل". وهكذا نجد أن كلاً من الدكتور البوطي والشيخ الفوزان والأستاذ الرفاعي يلتقون على أشياء وهي "الاخلاص لدين الله، والدعوة الى وحدة الأمة والرجوع الى الحق". وهذه الأشياء كفيلة أن تحرك قلب كل منهم وتستنهض همته للاسراع الى اللقاء والحوار القائم على الوقوف عند الدليل الذي يجتث الاختلاف من أصله، فيجمع الأمة على كلمة واحدة عند وجوده. والا فالاعتراف أن المسألة الاجتهادية التي يعذر فيها الطرفان كل منهما الآخر، كما فعل سلفنا رضي الله عنهم عندما تمسكوا من الاسلام بالجذع وراحوا يتفيئون في ظل الأغصان، يتعاونون في ما اتفقوا عليه، ويعذر بعضهم الآخر في ما اختلفوا فيه. فهلا التقيتم يا علماء هذه الأمة - وتحاورتم لتنقذوا المسلمين من التيه الذي يعيشون فيه وتبرأوا ذممكم أمام الله من مسؤولية هذه الأمانة التي حملتموها؟ حامد محمود شبلي سوري مقيم في الرياض