الذين يتخذون من المواقف العربية الرسمية والشعبية الظاهرة إزاء قمة كامب ديفيد الفلسطينية مقياساً لحال القضية عربياً، لا بد أن يصابوا بقلق عميق حقيقي. فالقضايا التي طرحت في مفاوضات الكامب، كالقدس واللاجئين، محسوبة قسراً في التحليل النهائي على أجندة الاهتمامات العربية العامة. ما كان يفترض جدلاً اهتماماً أكبر، يجاوز مواقع المراقبة من بُعد وتعبيرات الوجوم وربما التبلد التي حاور فيها العرب اثناء القمة. واذا جازت المقارنة، فإن الانشغال العربي بمجريات كامب ديفيد الاولى المصرية يتفوق بشدة. هذا على رغم الفارق الهائل بين قدرة المفاوض المصري العام 1978 على مراعاة ما يدخل في إطار المصالح العربية الجماعية، بما فيها ما يخص فلسطين، والقدرة الفلسطينية المحتملة العام 2000. المراد هنا، أن حاجة المفاوض الفلسطيني للمؤازرة والدعم تبدو، بداهة، أكثر إلحاحاً من الناحية الموضوعية قياساً على حاجة مصر سابقاً أو لاحقاً بالطبع. لكن الذي هو أكثر مدعاة للعناية العربية بكامب ديفيد الاخيرة، تعرضها لقضايا ذات أبعاد عربية بحتة أو تقع في دائرة المشترك بين ما هو عربي وفلسطيني. وخاصية كهذه كانت تستدعي الاهتمام من منطلق مصالح ذاتية ملموسة، علاوة على فكرة المصالح العربية الفضفاضة. يصعب التشكيك مثلاً في وجود مساحة تتقاطع فيها دائرة مصالح بعض الاطراف العربية بدائرة المصالح الفلسطينية في ما يخص قضية اللاجئين. وتنطبق النتيجة ذاتها، وإن بدرجة اقل ملموسية من الوجهة المادية، على قضايا تفاوضية أخرى كالقدس وحدود الدولة الفلسطينية المزمعة وأفق علاقاتها وسيادتها بالنسبة الى التعامل الخارجي. اهتم العرب بكامب ديفيد الأولى من منطلقات تتصل بتداعيات على طبيعة موازين القوى مع اسرائيل وتأثيرها على الأمن القومي العربي ودور مصر في النظام العربي ومدى شرعية المصالحة المصرية - الاسرائيلية طبقاً لمواثيق هذا النظام. ومن يستحضر مشاهد تلك المرحلة، يستذكر مستوى الانشداد العربي الرسمي والشعبي بحيثيات التفاوض المصري - الاسرائيلي، وما واكب ذلك من تعبيرات ايجابية أو سلبية، هذا المستوى لم يتوافر بالنسبة الى كامب ديفيد الثانية، على رغم أن انعكاساته الممتدة تفوق، إن لم تساوي، ما ترتب على كامب ديفيد الاولى. ويلفت النظر أن الديبلوماسية المصرية أوقفت مفاوضات الحكم الذاتي الفلسطيني، حين أنست تعارضها مع ثوابت السياسة الفلسطينية، في ذلك الحين كانون الاول ديسمبر 1981. وساد بعد ذلك التزام عربي شبه عام بشعار "نقبل ما يقبله الفلسطينيون". وبالنظرالى المستجدات والمعطيات المكونة لمناخ أو بيئة التفاوض الفلسطيني - الاسرائيلي الآن، قد لا يكون هذا الشعار كافياً للوفاء بالدور العربي الفلسطيني. ولعله لا يفي بمصالح عربية صميمة، تلك المصالح التي تقع في المساحة المشتركة بين العربي والفلسطيني. إن الشعار المذكور لا يناسب موازين القوى التفاوضية بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، وربما أضر تطبيقه الحرفي الآن بالمصالح الفلسطينية وبضع المصالح العربية على حد سواء. فلنتصور جدلاً كيف تكون الحال إن أكرهت هذه الموازين المفاوض الفلسطيني على القبول بقضية توطين اللاجئين حيث هم أو بفكرة السيادة المشتركة على القدس الشرقية؟ أليس من شأن تصور افتراض كهذا أن يؤثر على خرائط سياسية وسكانية في محيط فلسطين العربي؟ ألا يشكل جرحاً خطيراً لقضية الشرعية الدولية التي ما زالت تحتاجها أطراف عربية في دعاواها ضد اسرائيل الانسحاب من أراض محتلة او نزع السلاح النووي أو العيش في حدود معلومة؟. وقياساً على السياسات العربية المعلنة، فإن خطوات تراجعية فلسطينية فادحة تجاه قضيتي القدس واللاجئين بالذات، الأمر الذي نرجح عدم حدوثه، سوف تكون مخالفة صريحة للثوابت العربية الرسمية والشعبية. هناك تفسيرات كثيرة للعزوف العربي عن التعلق بمجريات كامب ديفيد الثانية، وعدم الالتفات المجدي لمضارها او منافعها، منها: تأثير شعار استقلالية القرارالفلسطيني الذي غالى في الاقليمية الفلسطينية، والاضرار التي ألحقتها التسويات المنفردة عموماً بحقيقة قومية القضية، التوجس من وجود موادعات سرية بالنظر الى سابقة اوسلو وتوابعها، والايضاع الرسمي للمحاذير التي ترفعها السياسة الاميركية في مواجهة اعادة تعريب القضية. يضاف الى ذلك، الحذر العربي الرسمي من تحمل تبعات اتفاقات يُحتمل ألا ترضي الشارع الفلسطيني والعربي والاسلامي، بما يقتضي ترك مسافة أمان في هذا الإطار لإلقاء التبعة على "أصحاب القضية". على أن هذه الاعتبارات جميعها ليست مما يبرر غموض السياسات العربية تجاه كامب ديفيد الفلسطينية، ولا يعفي العرب من عواقبها إن انحرفت النتائج عن المطلوب للوفاء بالحقوق العربية الفلسطينية، وأغلب الظن أن الإدانة ستلحق عندئذ بالجميع، الذين وقعوا في الكامب والذين صمتوا في خارجها. وعلى من لا يتوقعون هكذا إدانة في الخارج على الصعيدين الرسمي والشعبي، أن يتذكروا تحليلات المدرسة التي أحالت الوقوع في أحابيل أوسلو وتنازلاتها، الى إنفضاض العرب من حول فلسطين. إنها مدرسة ما زالت قائمة بين ظهرانيي بعض الفلسطينيين والعرب، وسوف تطل علينا بتحليلاتها المقيتة، إن حدث مكروه، أو مزيد من المكروه لقضية فلسطين مجدداً. * كاتب فلسطيني.