ساد في الأدبيات السياسية الغربية في الآونة الاخيرة مقولة "الغموض البناء" Constructive ambiguity، باعتبارها توصيفاً للأوضاع التي تتسم بالديناميكية وعدم وضوح الرؤية حول المسار النهائي للأحداث. واضفى بعض الكتابات على هذا المفهوم مسحة ايجابية. وما يهمنا هنا ليس "المعنى الفلسفي" لهذا المصطلح بإيجابياته وسلبياته، وإنما ما يهمنا تحديداً هو تطبيقات هذا المفهوم بشكل سلبي و"غير بناء" في الاطار التفاوضي للصراع العربي - الاسرائيلي، وتحوله الى مفهوم مراوغ يخدم الاهداف الاسرائيلية بالدرجة الاولى. إذ تعتمد اسرائيل في استراتيجيتها التفاوضية بشكل مفرط على تكتيك "الصياغات الغامضة"، لاعلانات النيات ومذكرات التفاهم، والاطر التفاوضية. وتنهض هذه السياسة على "كسب الوقت"، والايحاء بجدية الجانب الاسرائيلي في تنفيذ تعهداته، بحيث يتم التخفيض الدائم "للسقوف" التي يتم الاتفاق عليها مع الاطراف العربية، مع مرور الوقت، في ضوء موازين القوة المتغيرة في الجبهة العربية، وعلى صعيد الوضع الدولي عموماً، فهناك رهان دائم على مزيد من الضعف والتفكك في الجبهة العربية، ومزيد من التفريط من الجانب الفلسطيني في الحد الادنى من الثوابت. وهناك كذلك ثقة كاملة في "الدور الاميركي" المساند للسياسة الاسرائيلية، من خلال ممارسة الضغوط المكثفة على الاطراف العربية للقبول بالمزيد من التنازلات. ويلاحظ أن هذا النهج القائم على الغموض "غير البناء" له تاريخ طويل وحافل في مجالات التحايل التفاوضي على العرب. وقع في يدي مصادفة كتاب لباحث اسرائيلي في العلوم السياسية يسمى اهارون كيلمان صادر حديثاً 1999 وعنوانه "الغموض البناء حول صناعة السلام في الشرق الاوسط"، يعترف فيه صراحة بأن هذا الغموض "غير البناء" هو الذي حكم تاريخ التفاوض مع العرب منذ بداية هذا القرن في القضايا الحيوية التي تحكم المصير والمستقبل العربي. وعَّدد الكاتب عددا من هذه المحطات التفاوضية، أهمها: 1 - مراسلات الشريف حسين - ماكماهون: حاولت الديبلوماسية البريطانية خلال الفترة 1915 - 917 تقديم الحد الادنى من التنازلات للجانب العربي، مقابل انتزاع اكبر قدر من المكاسب للحلفاء، في محاولتهم لتفكيك الامبراطورية العثمانية في المنطقة العربية. اذ استخدمت الديبلوماسية البريطانية في هذه المراسلات صياغات مطاطة ولغة "غير ملزمة" بالنسبة الى مستقبل الحدود الجغرافية للدولة العربية الموعودة. وجاء في خطاب موجه من ماكماهون الى شريف مكة في 14 تشرين الاول اكتوبر 1915: "أنه لا توجد نية لادخال المناطق الجنوبية من بلاد الشام سورية في المناطق التي ستتمتع بالاستقلال العربي" ورغم الغموض الذي يحيط بهذه الصياغة فإنه كان المقصود بها اراضي فلسطين عندما يحين الوقت لذلك. 2 - اعلان "بلفور" في تشرين نوفمبر 1917: إذا جاء في هذا الاعلان المختصر الذي يؤكد ان "الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف الى اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" عبارة اخرى تقول: إن هناك تفاهما على انه لن يتم القيام باية اجراءات قد تلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للسكان "غير اليهود" الذين يعيشون في فلسطين". وتذكرنا تلك الصياغة بتصريحات ديفيد كمحي، رئيس الموساد السابق ورئيس الوفد الاسرائيلي الى ما يسمى"مؤتمر السلام" الذي نظمته جماعة كوبنهاغن في القاهرة في اوائل تموز يوليو 1999 حول مستقبل مدينة القدس. 3 - قرار الاممالمتحدة الرقم 242: إذ تم استخدام تعبير "اراضي محتلة" بدلا من "الاراضي المحتلة". وكما تبين ان هذه الصياغة كانت متعَّمدة منذ البداية لتحقيق نوع من التوازن بين "المطالب الاسرائيلية" والمطالب العربية حسب تعبير اللورد كارادون الذي قام بصوغ مشروع هذا القرار، الذي نتجت عنه مساحة للمساومة حول تعديلات في الاراضي التي تم احتلالها بعد حرب حزيران يونيو 1967، واعترف آبا إيبان وزير الخارجية الاسرائيلي السابق بأن تلك الصياغة كانت تميل في التحليل الاخير، الى ترجيح التفضيل الاسرائيلي الذي يريد ان يترك المسائل مفتوحة، وحسب تعبير آبا ايبان نفسه: "To Leave The Scope Of The Withdrawl as vague as possible" 4 - إتفاقية اوسلو: وهي تشكل نصاً نموذجياً للاتفاقات المليئة بالثغرات والغموض، إذ تحوي العديد مما يسميه الباحث الاسرائيلي "فقرات هروبية" ESCAPE CLAUSES وذلك للتهرب والتملص من الالتزامات عند الضرورة. ويعتبر هنري كيسنجر المؤسس الحقيقي لهذا النهج، منذ ان عمل مستشارا للأمن القومي في السبعينات. اذ يقوم النهج الكيسنجري على اساس معالجة المسائل السهلة، حتى يمكن الوصول الى حلول وسط وتنازلات "سهلة" من الطرفين لاعطاء الانطباع بأن هناك انطلاقاً حقيقياً للعملية التفاوضية، ولمجرد "تشبيك" الاطراف ببعضها، بينما تظل الالغام والفخاخ الحقيقية كامنة في ما تبقى من المشاكل، حتى يتم تأجيل حل المشاكل الرئيسية الى نهاية الطريق، لكي تكون محل عمليات تفاوضية مضنية، ولكي ينجح هذا النهج، لا بد من صياغات مطاطة ولغة "غير دقيقة" متعمدة والاعتماد على الاتفاقات الوسطية "INTERIM AGREEMENTS" هذا ناهيك عن العمل، في ظل ضغط الوقت، للخروج ببيان للصحافة ووسائل الاعلام، قبل ان تنضج المناقشات حول الصياغات النهائية، ما يدفع احيانا الى القبول بتلك "الصياغات المطاطة" تحت ضغط الوقت. وفي هذا الصدد وصف احد كبار المؤرخين الديبلوماسيين وهو GADDIS JOHN LEWIS كلا من الرئيس السابق نيكسون وهنري كيسنجر بانهما "مولودون متآمرين" BORN CONSPIRATORS . ويؤكد هذاالمؤرخ الديبلوماسي "أن احدا لا يستطيع ان يصل الى اتفاقات ويتوقع لها الاستمرارية، اذا تم صوغ هذه الاتفاقات بطريقة تسمح للأطراف المتنازعة ان يفسرها كل حسب فهمه، رايه، او مصلحته". ولعل هذا النهج هو الذي سمح للقيادات الاسرائيلية "يستوي في ذلك ليكو والعم بمقدار اكبر من المراوغة والتحايل بل الانقلاب احياناً على ما تم الاتفاق عليه سابقاً، في ضوء حجم "الضعف العربي المشترك" ومدى امكان اللعب على تناقضات الوضع العربي والعالمي. ولعل خير دليل على ذلك هو الاسقاط المتتابع للمرجعيات التفاوضية التي تم الاتفاق عليها مع الاطراف العربية والفلسطينية، على رأسها: 1 - مرجعية مدريد. 2 - اتفاق اوسلو 1، اوسلو 2. ونسمع اليوم عن محاولة حكومة باراك القفز فوق اتفاق واي ريفر. وما يزيد الامور تعقيداً وغموضاً هو ميوعة صيغة "الارض مقابل السلام" التي اقرها "مؤتمر مدريد" كاطار عام تفاوضي اذ يقوم الجانب الاسرائيلي في كل جولة تفاوضية باعادة تعريف "مفهوم الارض" وفقاً للاعتبارات الامنية من وجهة النظر الاسرائيلية وبالتالي لم تعد "الارض" التي يتم مبادلتها مقابل السلام مفهوماً جغرافياً محدد المعالم، بل مفهوماً مطاطاً، يتم تفصيله في ضوء خرائط الامن الاسرائيلي، بما في ذلك المناطق العازلة BUFFER ZONES والمناطق منزوعة السلام. وفي المقابل ليس هناك وضوح كامل حول ما هو المقصود بالسلام فالسلام في العرف الاسرائيلي ليس انهاء "حالة الحرب" والعيش في سلام مع الجيران، بل يعني التطبيع الاقتصادي الفوري، والدخول في ترتيبات تعاون اقتصادي اقليمي بطريقة قسرية، بضغوط اميركية اوروبية احيانا ولذا فإن كل اتفاقات السلام "الثنائية" الموقعة مع اسرائيل "كامب ديفيد" مع مصر، و"وادي عربة" مع الاردن، "اتفاقات اوسلو" مع السلطة الفلسطينية لا تكتفي بانهاء حالة الحرب ووضع الضمانات للعيش في سلام، بل تشترط الدخول في علاقات اقتصادية فورية وقسرية في اطار ما يسمى "التطبيع الاقتصادي" ونشر ما يسمى "ثقافة السلام" من خلال تغيير صورة اسرائيل في مناهج التدريس والمواد الاعلامية يهدف الى محو الذاكرة التاريخية للأمة. وليس من قبيل المصادفة، ان يتم الاصرار دوما على تسريع دخول البلدان العربية الموقعة على "اتفاقات سلام" وكذلك البلدان الخليجية والبلدان المغاربية في ترتيبات اقتصادية مع اسرائيل ثنائية او متعددة الاطراف، قبل حل القضايا السياسية الاساسية المعلقة وانهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية في الضفة والقطاع، والجولان، والجنوب اللبناني، بما في ذلك الاصرار على "انهاء المقاطعة الاقتصادية" العربية لاسرائيل، بأشكالها كافة اذن هذا النهج انما هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية ما يسمى زورا "بالغموض البناء". اذ تقوم هذه الاستراتيجية على التوريط التدريجي للبلدان العربية حكومات ورجال اعمال والنخب المهنية في علاقات تطبيعية مبكرة قبل حل المشاكل السياسية الاساسية ورد الحقوق العربية، وفقا للرؤية الاسرائيلية الاستراتيجية، فإن "نهج التوريط" هذا يجرد العرب من اوراقهم التفاوضية، واحدة بعد الاخرى، وبالتالي يسمح بمزيد من المراوغة السياسية والتنصل من التنازلات السياسية الاساسية التي تمثل "الحد الادنى" اللازم لاحقاق الحق العربي، وعلى رأسها الانسحاب من كل الاراضي العربية المحتلة بعد حرب حزيران يونيو 1997، وقيام الدولة الفلسطينية، وتحديد الوضع النهائي لمدينة القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضاتهم. فهل يعي المفاوض العربي الدرس، ويستخلص الدروس والعبر من هذا الحصاد المرير لنهج "الغموض غير البناء"، فلقد سئم العرب التفاوض حول التفاوض، على حد تعبير السيد عمرو موسى وزير خارجية مصر. * استاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.