قدمت فرقة "إنانا" للمسرح الراقص على خشبة مسرح المعرض مسرحية باليه من عنوان "هواجس الشام 880"، وهي المرة الاولى في سورية تقدّم فرقة خاصة بهذا الحجم خمس وعشرون راقصاً وراقصة باكورة اعمالها، وفي هذا المستوى الفني الرفيع، الذي يحمل هاجساً طموحاً لتحقيق مسرح راقص متميّز، يبتعد عن اساليب الاستعراض السائدة لينخرط في جوهر الدراما. قبل الحديث عن الابعاد الفنية والفكرية لهذا العرض، الذي كتب نصّه الكاتب المسرحي محمد عمر، لا بدّ من إعطاء فكرة سريعة عن خلفيات هذه الفرقة، التي وُلدت عبر مخاض عسير كان ثمنه جهداً وعرقاً وتعباً طوال سنوات لمجموعة من الشباب الطامحين لبناء مسرح راقص في سورية. وقد استمرت التهيئة لهذا المشروع الذي شاهدنا اولى ثماره اكثر من عشرة اعوام، لان تشكيل لغة جسد خاصة كما يقول جهاد مفلح مدير الفرقة يحتاج الى فترة طويلة من الصقل والتدريب، وخصوصاً في بلد مثل سورية، لم يكن فيها حين وُلدت فكرة تكوين الفرقة، معهد اكاديمي للرقص. يقول مفلح: "اضُطررت الى السفر، والبحث عن مدارس الرقص الحديث المختلفة للاحتكاك بها، والتعلم منها، ومن ثم اختيار ما يناسب مجتمعنا، ومن خلال اتصالي بفرقة "كركلا" تزايد طموحي لتحقيق مسرحٍ راقص في سورية... له نكهته ورائحته الخاصة". ويضيف: "لحسن الحظ، تعرفت خلال هذه المرحلة الى موسيقي متميز في التأليف والتوزيع الدرامي هو الفنان محمد هباش الذي يحمل ارقى بذور الابداع في تجاوز السائد وتحطيم اسواره... وطالت الجلسات واتسعت الاحلام، واكتملت اقطاب التحقق بالتعرف الى الكاتب المسرحي المبدع محمد عمر الذي كان هاجس تطوير الفن المسرحي شكلاً ومضموناً احد همومه المؤرقة، وبدأنا العمل والتحضير لعامين متواصلين على "هواجس الشام 880". خلالها كنا ندفع من جيوبنا، وجمعنا "الكاسيت" الذي يضم عدداً كبيراً من الراقصين المتفرّغين والمحترفين وعلى رأسهم الفنانة إيمان كيّالي. وتفانت المجموعة من اجل ان يرى هذا المشروع النور، وكنا نجري طوال تلك الفترة تدريبات متواصلة من دون انقطاع، ولساعات يومياً، ومع هذا الاصرار والايمان والطموح والتماسك والحب الذي ساد اجواء اسرتنا استطعنا التغلّب على المصاعب والعقبات الكثيرة التي واجهتنا، واليوم ننظر بتحدٍّ اكبر نحو المستقبل، من دون ان ننسى ان ما تقدّمه الفرقة اليوم كان حلماً لسنوات طوال...". من جهتنا وبكل حيادية وموضوعية نقول: في ظل هذا القحط، والسكون الذي يسود حياتنا الثقافية، وفي ظل العتمة التي تسيطر على خشبات مسارحنا يأتي عرض "هواجس الشام 880" كنسمة منعشة في صيف قائظ، او كبؤرة ضوء في ليل معتم. لماذا؟ الاجابة ستكون في هذه القراءة لنص العرض الذي امتعنا جمالياً وبصرياً وذهنياً على مدار ساعتين تقريباً. في إيقاع سريع، متوتر، وعلى مدى فصلين، شاهدنا سبعاً وعشرين لوحة مسرحية راقصة، مشغولة كالمنمنمات بأناة وصبر، ونسيجها المتكامل تضافرت عناصره بين لغة الجسد بليونته المدهشة في التعبير، والموسيقى التي تعزف على أوتار الذاكرة المنسية لموروثنا بروح معاصرة، والنص الحكائي المسرحي الدرامي المتصاعد في فضاء مسرحي، تكامل مع لمسات سحاب الراهب في تصميم الملابس والازياء والديكور. استمتعنا بأجواء الفرجة البصرية الأخاذة، ومن ثم لعبت الاضاءة دوراً لافتاً في تناغمها مع التصعيد الدرامي، ليس فقط في المساعدة على الانتقال من لوحة الى لوحة، بل في توظيفها لشدّ الانتباه الى المفاصل الاساسية والبؤر الرئيسة التي كانت تشكّل انتقالات وتحوّلات مهمة على صعيد الحدث المسرحي، الذي اراد سرد قصة امّه الشام في الفترة ما بين 880 - 1916، يُصاغ تراثها، حركةً ولحناً، ليعبر عن رغباتها وطموحاتها وخصائصها النفسية خلال مرحلة اثرت ولا تزال في مسيرتها التاريخية. الحدث الرئيسي في العمل هو قصة حب درامية بين بدرية ورسلان، تدور وقائعها في احد الاحياء الشامية القديمة، ومن خلالها تم رصد وجوه مختلفة للمجتمع الدمشقي آنذاك من خلال لوحات فنية متمايزة تركز على الهوية والخصوصية السورية. وقد تمّ فتح الفضاءات المسرحية على حضرات الدراويش، وعلى احتفالات الناس في مناسبات مختلفة، ولا سيما موكب الحج، والحكواتي... وشيئاً فشيئاً تتكشف خيوط اللعبة المسرحية، لتظهر قسوة اغتيال الحب نتيجة رواسب الجهل والتخلف التي تركها الاستعمار في المجتمع الدمشقي. وتصل الامور الى ذروتها مع محاولة الصديق قتل صديقه بنتيجة مؤامرة يحكمها حولهما عدد من الاعيان الشوام، من خلال الايقاع بين رسلان وصديقه حسن في منافسة على بدرية ويترافق هذا الامر مع احراق مسرح ابي خليل القباني بعد ان رصد العمل محطات من محاولاته خلق حال فنية قابلة للتطور في المجتمع المحافظ آنذاك. نحن اذاً امام اغتيال الحب، وتمزيق الصداقات، وقمع الثقافة التنويرية، لينتهي العمل في لوحات احتفالية تظهر تنوّع الرقصات والالحان العربية في وحدة متناغمة تؤكد عمق الترابط والتراث الواحد الذي يركز على التسامح الديني، ونبذ العصبيات في سبيل التحرر والانفتاح نحو افق انساني فسيح. سرُّ هذا العمل، إضافةً الى التوليفة التي حصلت بين مبدعيه، وصهرتهم في بوتقة واحدة، جعلتهم يتناغمون في بناء هارموني واحد، هو ربما إصرارهم على إبراز تلك الخصوصية للروح الشامية بفرداتها الفنية التي لم تنغلق على ذاتها، وتتقوقع عليها، بل انفتحت على موروث المنطقة من جهة، وعلى كل التيارات والمدارس الفنية الحديثة من جهة اخرى، حيث حرّرت الجسد وكشفت عن فضاءات تلك المرحلة بأسلوب فني يبرز البيئة الدمشقية في كل زخارفها والوانها في وحدة بصرية متناغمة بين الانسان والفضاء الذي يحيط به. وعلى هذا الاساس فهذه التجربة تتقاطع مع الآخرين عبدالحليم كركلا او غيره، لكنها لا تشبه الا ذاتها.