لم يفاجأ المسؤولون في لبنان بالتقرير الصادر عن الوكالة المكلفة مهمة منع تبييض الاموال المنبثقة عن مجموعة الدول الصناعية السبع، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذي وضع لبنان في لائحة من 15 بلداً غير متعاونة في الجهود الدولية لمنع عمليات تبييض الاموال. فالقضية مطروحة منذ سنين، حين كانت الحكومات اللبنانية المتعاقبة ومصرف لبنان يؤكدان عدم وجود مثل تلك العمليات. وكان الدليل الى ذلك تطور حجم موازنات المصارف سنوياً، على نحو لا يوحي بحصول عمليات تبييض اموال. اذ ان حركة الودائع بقيت من دون تقلبات غير عادية، ترافق عادة عمليات تبييض الاموال. انما اللافت ان تقرير الوكالة الدولية المعروفة اختصاراً "fatf" جاء بعد تقرير اميركي لم يشمل لبنان في لائحة الدول المعتمدة لتبييض الاموال، عقب زيارة بعثة اميركية موسعة لبنان في صيف 1999، واللقاءات التي اجرتها مع المسؤولين بما في ذلك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والنائب العام التمييزي عدنان عضوم ووزير المال الدكتور جورج قرم وجمعية المصارف. ويبدو الأمر خلافاً لذلك هذه المرة، اذ ان الوكالة الدولية المكلفة مهمة ملاحقة عمليات تبييض الاموال ومنعها، هي الوحيدة التي باتت معتمدة في هذا المجال، ويمكن الركون الى تقاريرها، لبناء القرارات الدولية في التعاطي مع الدول المشتبه فيها على اساس تلك التقارير. والمشكلة التي سيكون على لبنان مواجهتها في المرحلة المقبلة هي السرية المصرفية التي بني تقرير الوكالة الدولية على اساسها. فالتقرير الذي لم يتهم لبنان مباشرة بوجود عمليات تبييض اموال، واكتفى بوصفه بأنه من "الدول غير المتعاونة" في مجال ملاحقة العمليات ووقفها، استند اساساً الى الحائل المادي الذي تمثله السرية المصرفية في لبنان، وهي الاكثر تشدداً في العالم للاطلاع على الحسابات المصرفية بأسماء اصحابها والتحويلات المالية لمصلحة عملاء المصارف، وكذلك عدم وجود قوانين في لبنان تحدد عمليات تبييض الاموال ب"العمليات الجرمية" خلا تلك المتعلقة بتبييض اموال المخدرات والتجارة غير المشروعة. ولم يعتد التقرير كثيراً ب"اتفاقية الحيطة والحذر" التي توصلت اليها جمعية المصارف مع مصرف لبنان منذ نحو سنتين، وقضت كما هو معروف بتفعيل اجراءات الرقابة الذاتية داخل المصارف، وفي ما بينها وحددت خيوط الارتياب والظن في العمليات المصرفية التي تهدف الى تبييض الاموال. ومع ان مصرف لبنان لعب دوراً اساسياً في اقرار الاتفاقية تلك التي تتضمن سقفاً يصل الى رفع توصية الى مصرف لبنان لشطب المصرف المشتبه في عملياته من لائحة المصارف وتوقيفه عن العمل، بعد إخطاره وتنبيهه، بيد ان عملية واحدة من هذا القبيل لم تحصل. وهذا ما لحظه تقرير الوكالة الدولية، من دون ان يعني ذلك ان هناك عمليات تبييض اموال حصلت فعلاً. لكن "اتفاقية الحيطة والحذر" التي اقرتها "جمعية مصارف لبنان" بالتوافق مع مصرف لبنان، كانت لاجتناب ارغام لبنان على الغاء قانون السرية المصرفية. ولم تتحول - في طبيعة الحال - قانوناً ملزماً، انما بقيت ارادية، وبالتالي فإن تقرير الوكالة الدولية الذي اودع المسؤولين لم يعتد كثيراً بالاتفاقية. وبحسب المصادر المعنية التي تسلمت التقرير، فإن الاخير يأخذ على قانون السرية المصرفية والتشريعات المالية المعمول بها في لبنان، انها تتيح تأسيس مؤسسات، وتوظيفات، ومصارف من دون التيقن بدقة من هوية اصحابها وسيرتهم الذاتية، وان معايير تأسيس المصارف تفتقر الى المعلومات الكافية لتقويمها. ويلاحظ التقرير ان النيابة العامة يمكنها الاطلاع على كل السجلات التجارية عدا سجلات المصارف. وقد رد مجلس النواب منذ نحو سنة مشروع قانون يتيح للنائب العام شخصياً الحصول على معلومات بداعي السرية المصرفية. والواقع، ان قانون السرية المصرفية في لبنان الصادر سنة 1956 يفرض حظراً مشدداً على موظفي المصارف افشاء اي معلومات تتعلق بودائع العميل، او اي معلومات مشابهة حتى لحاكم مصرف لبنان، او للجنة الرقابة على المصارف او للنيابة العامة والسلطة القضائية. وتحولت السرية المصرفية في ذاتها، الى شبح من الكتمان تحرص عليه المصارف، حتى في افشاء اي معلومات اخرى قد لا تكون مشمولة بالسرية وانما حرصاً على طمأنة زبائنها، وتحول هذا الامر هاجساً لدى المصارف، تعتقد انها كلما راعته بدقة، اقتربت اكثر من خدمة عملائها وزبائنها، وسط منافسة شديدة في ما بينها، لاجتذاب الزبائن وودائعهم. ولا يحق وفقاً للقانون رفع السرية المصرفية عن العميل الا في حالات ثلاث حصراً: - اذا قبل صاحب الحساب بذلك. - في حال افلاس العميل. والافلاس هنا لا يعني التوقف عن الدفع فقط، وانما بقرار قضائي. - وفي حال خلاف المصرف مع العميل. فلجنة الرقابة على المصارف التي تجري تقويمها مرة كل سنتين للمصارف برقابة داخل المصرف، او عندما تستدعي الحاجة، وترفع تقاريرها الى حاكم مصرف لبنان بوصفه رئيساً للهيئة المصرفية العليا كناية عن محكمة مصرفية لا تقبل قراراتها الاستئناف او الرد، تطلع على ودائع العملاء المجمعة، وعلى التسليفات لمعرفة مسار عمل المصرف، وتقويم موجوداته ومطلوباته، انما يستحيل عليها الاطلاع على اسماء المودعين، فردياً او جماعياً، ومن بين هؤلاء اشخاص مكتومون، او مفوضون بالايداع والسحوبات، واصحاب ودائع رقمية لا يحق حتى لموظفي المصرف الذي يجرون العمليات لمصلحتهم الاطلاع على اسمائهم التي تبقى حصراً بمدير فرع المصرف، او مدير المصرف من دون غيره البتة. ومن نافل القول، انه في حال استحالة الحصول على معلومات عن اسماء المودعين، واصحاب الودائع المصرفية، او عن المفوضين بالايداع والسحوبات حتى لحاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، والنائب العام، كما هي الحال مع قانون السرية المصرفية، فإن ما اخذه تقرير الوكالة الدولية على لبنان بأنه لا يتعاون في تبادل المعلومات مع اصحاب الاموال المشكوك فيها يصبح امراً طبيعياً. اذ ان الجهات المطلوب منها توفير تلك المعلومات، او الاجابة عن اسئلة عن عملاء وزبائن مصارف مشكوك في تعاملهم، لا تملك المعلومات اساساً حتى تخفيها عن الجهات الدولية المعنية. ولا حاجة للقول والوضع كما هو عليه، ان ما تضمنه التقرير من انتقاد للبنان لغياب "وحدة التحري المالية" FIU يبقى من دون طائل هو الآخر، طالما ان الوحدة المذكورة تفتقر الى قاعدة الحصول على المعلومات المطلوبة كي تتحرى في شأن اصحابها ومصادر اموالهم وقنوات تحويلها وتبييضها، سواء من خلال العملاء المجهولين انفسهم، او من خلال شركات ومؤسسات وهمية، لا يتسق حجم انشطتها مع حجم ودائعها وعملياتها المالية والمصرفية. هل المطلوب لاستبعاد لبنان من "الدول غير المتعاونة" على صعيد منع تبييض الاموال الغاء السرية المصرفية؟ واقع الحال ان التقرير لم يطلب ذلك، لكنه سرد المعوقات التي تحول دون مراقبة عمليات تبييض الاموال المفترضة، وملاحقة اصحابها. وركز على السرية المصرفية، وكذلك على عدم وجود تشريعات تحدد الجرائم المالية، ليس الاتجار بالمخدرات فقط بل ايضاً الارهاب، والتهرب الضريبي وغير ذلك بدرجة اقل اهمية. ومن الطبيعي ان سن مثل تلك التشريعات وتنفيذها يصطدمان بالسرية المصرفية ما يحول دون تأسيس قاعدة المعلومات المالية المفصلة الصالحة للتحقيق الشخصي وبالتالي للتجريم وصدور الاحكام. ناهيك عن الاعتبارات السياسية المتعلقة بتصنيف الارهاب وتحديد ماهيته، لتقويم طبيعة المال والتحويلات. بكلام آخر، اتى تقرير الوكالة الدولية ليقول ليس بتجريم لبنان، بل بأن "عدة الجرم" متاحة اذا ما اراد مبيضو الاموال استخدام لبنان مكاناً لعملياتهم. وهذه "العدة" في الاساس هي قانون السرية المصرفية. رئيس مجلس الوزراء اللبناني الدكتور سليم الحص تساءل تعليقاً على تقرير الوكالة الدولية عن اسباب توقيت التقرير في الوقت الراهن، فيما رد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على التقرير بتأكيده من جديد، أن ليس في لبنان مصارف تتعاطى عمليات "اوف شور" وان موازنات المصارف في لبنان لا تنبئ بوجود عمليات تبييض اموال "عدا عملية او اثنتين اخطرنا بهما واتخذنا الاجراءات المناسبة". مع ذلك، لا تبدو الاجواء الدولية متاحة هذه المرة ايضاً لتمرار هذه القضية القديمة - الجديدة من دون اجراء ما، قد يرى لبنان نفسه مرغماً على اتخاذه في ما يتصل بالسرية المصرفية اياها، اذا ما اقترن التقرير باجراءات مالية ومصرفية ضد لبنان، خصوصاً مع مراسليه ومصادر تحويلاته المالية من المصارف الدولية. وهو ما اشار اليه وزير الخزانة الاميركي لورنس سمرز بعد صدور التقرير الذي شمل اسرائىل وامارة اوروبية واحدة هي ليشتنشتاين. صحيح ان ودائع المصارف اللبنانية التي هي دون 40 بليون دولار اميركي في 72 مصرفاً عاملاً في لبنان لا توازي شيئاً من ودائع جزر كايمان البالغة 600 بليون دولار، الا ان المشكلة في لبنان تبقى في استحالة الاطلاع على الوديعة بالاسم، مع الاشارة الى ان قانون العقود الائتمانية الذي اقره لبنان يبقي حيزاً لتوظيفات مالية لا تظهر في موازنات المصارف. وترى مصادر مصرفية لبنانية مطلعة، ان لبنان سيقطع الطريق على الغاء قانون السرية المصرفية، من خلال دراسة امكان تعديله لتبادل المعلومات حالاً بحال، اذا ما وردها من المصادر الدولية المعنية بمنع تبييض الاموال اي استعلام عن وديعة معينة او عميل مصرفي ما يُشتبه في ارتكابه عمليات تبييض اموال. وهذا ما يجري بحثه في لقاءات سرية بين المسؤولين اللبنانيين في الوقت الحاضر، على ان تبقى الودائع الاخرى مشمولة بالسرية. اضافة الى درس مشاريع قوانين تحدد عمليات تبييض الاموال بما يتعدي تلك الناجمة عن تجارة المخدرات، وهو ما تقوم به الحكومة الاسرائيلية حالياً اذ ناقشت الكنيست في قراءة اولية مشروع قانون في المعنى المذكور. مع الاشارة الى ان اسرائيل لا يوجد لديها قانون للسرية المصرفية لأسباب عدة اهمها امني لتيسير الاطلاع على اصحاب الودائع والتحويلات. والقلق الذي يساور المسؤولين اللبنانيين في هذا المجال ناجم عن كيفية ضبط المعلومات ضمن قنواتها المحددة. لقد وجد القطاع المصرفي والمسؤولون في لبنان الذين اوغلوا في الحديث عن العولمة في بلد معولم اصلاً على المستويين المالي والمصرفي، انفسهم امام لب العولمة على الصعيدين المذكورين وهو الشفافية ووسائل الافصاح عن المعلومات المالية والموازنات، وسيكون من الصعب الا ينخرط في الجهود الدولية لمنع تبييض الاموال بصرف النظر عما اذا كانت هناك عمليات تبييض اموال ام لا. والمؤكد ان لبنان في خياراته التفاضلية بين جدوى التمسك بالسرية المصرفية المتشددة، وبين تبعات الاجراءات العقابية التي تلوح بها مؤسسات المال الدولية وسلاطين العولمة قد يختار الاهون شراً ويعدل القانون، ويرفع تحفظه عن البند المتعلق بالسرية المصرفية وتبييض الاموال الوارد في اتفاق فيينا الذي وافق عليه باستثناء البند المذكور. * كاتب لبناني