وقف الجندي على منصة ترتفع ستة أمتار تقوم وسط ساحة زينتها أشجار خضراء وورود، مشيراً بأصبع يده اليسرى تجاه الشرق، تجاه القدس التي تئن تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي، ممسكاً بيده اليمنى سلاحاً رشاشاً قديماً من طراز "كارل غوستاف". وفي لحظة من ظهيرة يوم صيفي قائظ، وعلى بعد أمتار قليلة من الجندي توقفت ثلاث سيارات اجرة وهبط منها 20 رجلاً وامرأة، يرافقهم فلسطيني يدعى أديب مهنا. توجه الرجال والنساء العشرون اليهود الى خيمة نصبت خصيصاً لاستقبالهم، جلس فيها نحو عشرين امرأة فلسطينية في مواجهة الغرب، لتستقبل وجهوههن نسمة هواء باردة تهب من البحر المتوسط. إلا ان الجندي المجهول الذي وقف منتصباً على منصته أدار ظهره للحضور، وكأن الأمر لا يعنيه، أو كأنه مصمم على القول "لا جدوى من ما تفعلون... فالدم لن يصير يوماً ماء". دخل اليهود الخيمة وسلم الرجال على الرجال، فيما تعانقت النسوة... وكأنهن يعرفن بعضهن بعضاً منذ زمن طويل، وتسابق ممثلو وسائل الاعلام المحلية والاجنبية في التقاط الصور والحصول على أحاديث صحافية. وفي ركن من الخيمة انشغل فلسطينيون ويهود في كتابة شعارات باللغات الثلاث العربية والانكليزية والعبرية على ورق أبيض مقوى، حمل معظمها كلمة "سلام". كل هذا حصل في وسط مدينة غزة أمس على بعد خطوات قليلة من نصب الجندي المجهول، الذي يقف شامخاً في حديقة غناء الى جوار مقر المجلس التشريعي الموقت وسط المدينة. الوفد الاسرائيلي الذي جاء الى الخيمة التي نصبتها الحركة الوطنية للتغيير، وهي التي دعت الوفد ايضاً، الى لقاء مع امهات شهداء فلسطينيين سقطوا برصاص جيش الاحتلال الاسرائيلي، وقالوا: "هذا لقاء للامهات الثكلى من الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي". وتساءل شاب مر بالمكان صدفة وشاهد اليهود يدخلون الخيمة: "هل يعقل ان تتساوى أم شهيد سقط دفاعاً عن أرضه وشرفه، مع أم جندي اسرائيلي محتل، جاء الى فلسطين لتصفية وجود أبناء شعبها فيها"؟ عانقت الاسرائيلية ايفرات شبيغل، الفلسطينية العجوز خيزران سلمان، وقبلتا بعضهما بعضاً، وتناولت شبيغل طفلة صغيرة رضيعاً، من ابنة خيزران، عريفة، فيما انهالت الكاميرات تلتقط المزيد من الصور ليهودية تحمل طفلة فلسطينية وتتمنى لها ان تعيش هي وأطفال اليهود في أمن وسلام. سألت "الحياة" خيزران التي استشهد ابنها جميل سلمان في العام 1989 إبان الانتفاضة عن عمر يناهز 21 عاماً: هل تعرفت على شبيغل قبل الآن؟ قالت خيزران التي خط الزمن وجهها بخطوط كثيرة متعرجة: "التقينا من قبل نحو خمس مرات، واحدة منها في غزة، وأربع في مدن اسرائيلية". وما هدف اللقاء؟ أجابت: "انه في سبيل السلام، وحتى لا تسقط ضحايا جديدة للحرب بيننا وبينهم". "هل تنسين دماء ابنك التي سالت برصاص جندي اسرائيلي"؟ أجابت بكل ثقة: "لا، لا أنسى دماء جميل، كيف لي ان أنساها؟". واستدركت: "لكنني أخاف على الآخرين. أخاف على جلال"، واشارت بيدها نحو ابنها الذي وقف الى جوار شقيقته عريفة. أما شبيغل التي قتل زوجها يو أف عام 83 في لبنان على أيدي فدائيين فلسطينيين دافعوا عن الأراضي اللبنانية في اعقاب حرب بيروت عام 1982 فقالت ان رسالتها من هذه الزيارة هي المساهمة في التوصل الى سلام بين الشعبين. وفي الكلمات التي القيت في الخيمة كان كامب ديفيد، على بعده من غزه، حاضراً وكانت القدس ايضاً على قربها منها حاضرة. وقال اسحق فرانكنتال مدير جمعية الامهات الثكلى الاسرائيلية: "لم نأت لنحدد حدود الدولة الفلسطينية". وعندما سئل عن القدس، قال: "ليس هذا شأني، بل شأن عرفات وباراك يقرران فيها كما يشاءان"، وهو الأمر الذي كرره في كلمته أمام الحاضرين. اما هشام عبدالرازق وزير شؤون الأسرى فحدد في كلمته المطالب الفلسطينية: "دولتان لشعبين، والقدسالشرقية عاصمة لفلسطين، والغربية عاصمة لاسرائيل، وقبل كل ذلك الافراج عن الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال". وركز الصحافيون في اسئلتهم لأعضاء الوفد اليهودي على مدينة القدسالمحتلة ولم تكن اجوبتهم واضحة.