10 مليارات لتفعيل الحوافز المعيارية للصناعيين    فليك: سنسعد جماهير برشلونة.. وأنشيلوتي يرد: بيلينغهام جاهز    ليس لامين يامال.. بلانيس يؤكد تواجد نجوم برشلونة على رادار الإتحاد    انطلاق ملتقى " إضاءة عسير " الاثنين القادم    تعددية الأعراق والألوان تتوحد معك    ولي العهد يهنئ الرئيس اللبناني ويدعوه لزيارة السعودية    إسرائيل تخطط للسيطرة على 15 كم داخل سورية    حرائق كاليفورنيا: وفاة 11 شخصا والخسائر تقدر ب 135 مليار دولار    الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم" لرفع الوعي لسائقي دراجات تطبيقات التوصيل    ضبط (19418) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    وكيل "الشؤون الإسلامية" للمشروعات والصيانة: تدشين الأدلة الفنية للمساجد إنجاز نوعي برؤية شاملة ومعايير عالمية    نادي جازان الأدبي يكرم الزميلة خلود النبهان    السودان.. أكبر أزمة نزوح أطفال في العالم    وصول الطائرة الإغاثية السعودية التاسعة لمساعدة الشعب السوري إلى مطار دمشق الدولي    أكثر من 300 جلسة رئيسية في النسخة الثالثة من قمة المليار متابع    طلبة منطقة "تعليم الرياض" يعودون غداً لمدارسهم لاستكمال الفصل الدراسي الثاني    بندر بن سعود ل"الرياض": الفائزون بجائزة الملك فيصل سفراء المملكة عالميًا    «الضباب» يحوّل رحلة ليفربول إلى كابوس    استمرار هطول الأمطار على بعض مناطق المملكة    «طائرة كوريا».. «الأسودان» توقفا قبل 4 دقائق من التحطم !    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    خالد عبدالرحمن ل«عكاظ»: جمعنا أكثر من 10 قصائد وننوي طرح ألبومين سامريات    أمريكا وبريطانيا توسعان عقوبات كاسحة على صناعة النفط الروسية    البرلمان الألماني يبحث الأربعاء تفشي الحمى القلاعية في البلاد    ابعد عن الشر وغني له    القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    "النقد الدولي" يتوقع استقرار النمو العالمي في 2025    أمين الطائف هدفنا بالأمانة الانتقال بالمشاركة المجتمعية للاحترافية    فريق جامعة الملك عبدالعزيز يتوّج بلقب بطولة كرة السلة للجامعات    "لوريل ريفر"، "سييرا ليون"، و"رومانتيك واريور" مرشحون لشرف الفوز بلقب السباق الأغلى في العالم    العروبة يتعاقد مع العراقي عدنان حمد لقيادة الفريق فنيّاً    هاو لم يفقد الأمل في بقاء دوبرافكا مع نيوكاسل    رئيس مصر: بلادنا تعاني من حالة فقر مائي    ما بين الجمال والأذية.. العدار تزهر بألوانها الوردية    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    القبض على مقيم لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي بمكة المكرمة    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    إحباط محاولتي تهريب 6 كلجم «شبو» مخبأة في بطاريات وصناديق    خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    «عباقرة التوحد»..    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    الحمار في السياسة والرياضة؟!    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    المقدس البشري    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطا النسبة الى الفتوة أو المسيحية . الكاكائية ... وحيرة المؤرخين في تقصي تاريخها ومعرفة أحوالها الراهنة
نشر في الحياة يوم 24 - 07 - 2000

منْ هم الكاكائيون، وما هي أصول مذهبهم؟ يتفرع السؤال الى اسئلة عدة، من الصعوبة تحديد إجابة عنها. فهل هم بقايا جماعة الفتوة وتنظيمها، التي شجعها خلفاء عباسيون متأخرون، أم قبيلة كردية مسلمة تأثرت بالأديان الأخرى، فظهرت لديها تعاليم مزدوجة؟ أم أن المبشرين نصروها؟ حاول المهتمون الإجابة، كلٌ بحسب معلوماته وقناعاته، والمصدر شخص صبأ عن الكاكائية، فتحدث عنها لتأكيد انتمائه الجديد، أو شيخ من شيوخها يرد بإجابات يقف عند مركز الأسرار. توحي هذه الطريقة، في تسجيل تاريخ وطقوس الملل والنحل، بسطحية البحوث المستخلصة من تلك المعلومات، ناهيك عن احتمال تزويقها وكذبها.
أغرت هذه الطريقة السهلة عدداً من المهتمين العراقيين، رجال دين وحقوقيين ومؤرخين معاصرين، مثل: الأب انستاس الكرملي، وأحمد حامد الصراف، وعباس العزاوي، وعبدالرزاق الحسني. غير أن هؤلاء، أصابوا أم أخطأوا، بادروا الى الكتابة في موضوعات غريبة ومشوقة، وغير معروفة آنذاك بعد، ففتحوا سبيلاً الى دراسة تاريخ مذاهب محصنة في مناطق منيعة، مثل وديان وجبال كردستان العراق.
هناك روايات متناقضة في تاريخ الكاكائية الغالب منها مستخلصاً من حكايات غامضة، لعب فيها الرمز والإيماءة دوراً ملحوظاً. ويفرض هذا الغموض الأثر الصوفي العرفاني، وبوجوده تعد التعاليم والطقوس أسراراً مقدسة، لا يجوز البوح بها أمام الغرباء. لذلك تبدو معطياتها حطب ليل، جمعت من أفراد يرتابون عادة من الفضوليين، أو مستلة من مذكرات موظفين في المنطقة غير حياديين، أو من خواطر الرحالين الأجانب، الباحثين عن غرائب الشرق وخفاياه، وكتاباتهم لا تخلو من المبالغة، يقصدونها لشد القارئ الغربي.
حوت كتب ومقالات مرتبكة عديدة حول الكاكائية، ففي كتاب واحد مثل كتاب عباس العزاوي "تاريخ الكاكائية"، نجدها ذات أصول صوفية، وفتوة. ولقلة المعلومات المتاحة جعل المؤلف معظم كتابه في تاريخ الفتوة، والتكايا، ولو خرصه لفضلت أوراق قليلة لها صلة بعنوانه. وفي مقال واحد، مثل مقال الأب الكرملي "الكاكائية،" نجدها ديانة قديمة، ونصرانية، وخفيّة العقيدة. إنها أزمة البحث في مذاهب لم تذكرها الدولة بإحصاء أو تعريف، ولم تفصح هي عن نفسها إلا همساً.
الكلمة الكردية كاكا الأخ كانت وراء القول في صلة الكاكائية بالفتوة، المعروفة بالأخية أحياناً. شجع الخليفة الناصر لدين الله ت622ه فتيان عصره، فوضع تنظيمهم العفوي تحت إشرافه العام 604ه، بعد أن جعل من نفسه الفتى الأول، ثم تقلد رئاستها خلفاؤه، فيذكر أن حفيده المستنصر ت640ه لبس سراويلها الخاصة، في مرقد علي بن أبي طالب بالنجف.
كان الفتى، الذي يشار إليه اليوم بابن المحلة أو ابن الحي، صاحب أخلاق حميدة، وشهامة ونخوة، يرد الظلم والاعتداء عن أبناء محلته أو حيه. أما علاقة الفتوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فهي بحسب منشور الفتوة، الذي عممه الخليفة الناصر: "أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو أصل الفتوة ومنبعها، ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها، وعنه تروى محاسنها وآدابها، ومنه تشبعت قبائلها وأحزابها، وإليه تنتسب الفتيان" الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، 534، عن تاريخ ابن الساعي. ولعل خلفية هذه المنزلة هي العبارة التي ذكرها المؤرخون، عند حديثهم عن معركة أُحد، "لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار".
من مبررات القائلين بالتاريخ المشترك بين الفتوة والكاكائية، صلة الاثنين بعلي بن أبي طالب، وذكر ابن بطوطة ت779ه، من غير قصد، فتوة بلاد الأناضول تركيا حالياً بالأخية، ورد ذلك بقوله: "واحد الأخية أخي، على لفظ الأخ، إذا أضافه المتكلم الى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس. وأسرع الى إطعام الطعام، وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظلمة، وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر. والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأغراب، والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوة أيضاً" رحلة ابن بطوطة، 285-287. ومن دون أن يرمي الى ربط الكاكائية بالفتوة، قال الرحالة الروسي فلاديمير مينورسكي حول الجماعة الكردية: "من طريف عاداتهم المؤاخاة" الأكراد ملاحظات وانطباعات، 81، ولا يعبر عن هذه الصفة بالكردية غير لقب الكاكائية.
لكن المبررات الآنفة لم تشر الى تفرع الكاكائية عن الفتوة، إذا علمنا أن الأخيرة كانت تنظيماً شبابياً اجتماعياً عفوياً، يلعب فيه الفتى، البطل، دوراً محورياً. وهذا خلاف ما كتب مصطفى جواد في "مجلة لغة العرب" نيسان /ابريل 1930 بأنها "مذهب حيوي ديني سلك بعد ظهور الإسلام لتهذيب الأخلاق، ونعش النفوس وبث العبقرية". وبعد حوالى ثلاثين عاماً، من مقاله الآنف، كتب واصفاً الفتوة: أنها "مذهب إسلامي ديني اجتماعي، قد تطورت كسائر المذاهب الدينية والاجتماعية في الإسلام" المجمع العلمي العراقي، 5/1958. غير أن جواد في كتاباته حول الرُّبط الصوفية والمذاهب الشبيهة بالكاكائية لم يشر الى علاقة لها بالقوة أو الأخية.
وواقع الحال، أن الفتوة ليست مذهباً، كسائر المذاهب، مثل الكاكائية، لأنها تخص فئة اجتماعية معينة، لا تحل محل المذاهب، وليس لها عقيدة خاصة، لكنها تعبر عن المذهب السائد في منطقتها. قال ابن جبير في تبعية الفتوة للمذاهب: "سلط الله على هذه الرافضة الفتوة العراقية طائفة تعرف بالنبوية، سنّيون يدينون بالفتوة وبأمور الرجولة كلها، وكل من ألحقوه بهم لخصلة يرونها فيه، منها ما يحرمونه يلبسونه السراويل، فيلحقونه بهم، ولا يرون أن يستعدي أحد مهم في نازلة تنزل بهم، لهم في ذلك مذاهب عجيبة، وإذا أقسم أحدهم بالفتوة بر قسمه، وهم يقتلون هؤلاء الروافض أين ما وجدوهم، وشأنهم عجيب في الأنفة والائتلاف" رحلة ابن جبير، 280.
ظهرت الفتوة السنّية بالشام، في مقابل الفتوة بالعراق، وكأنها عودة الى الصراع بين الشام الأموي والعراق العلوي في العقد الثالث من القرن الأول الهجري. فالفتيان العراقيون كانوا "يعقدون اجتماعهم في مسجد براثا، بغربي بغداد، وهو مسجد بني على رواية أن الإمام علي بن أبي طالب لما خرج لقتال الخوارج صلى في موضع المسجد، ودخل حماماً في قرية براثا، ولذلك كان من مساجد الشيعة، وكان مسدود الباب مهجوراً، ففتح ابن الرسولي رئيس الفتيان بابه، وقلع الباب العتيق، ونصب عليه باباً جديداً، ورتب في المسجد من يراعيه مجلة المجمع العلمي، 5/1958.
قال الكرملي: "لفظة كاكائي ليست اسم قبيلة، أو أمة أو قوم، أو بلد، إنما هي لفظة كردية فارسية الأصل، معناها: الأخ، فقالوا في واحدها العائد الى هذه الجمعية السرية: كاكايا، على الطريقة الآرامية ومنهم من يلفظها كاكائي، مفرداً وجمعاً. فانظر كيف جمعوا في لفظة واحدة الفارسية والآرامية، وهم يريدون بذلك الأخ في المذهب" مجلة لغة العرب، 1928. والكرملي، بحسب النص المذكور، ومينورسكي قبله، لم يقولا هناك صلة ما بين الكاكائية والفتوة، مثلما لا يمكن أن تكون صلة بينها وبين تسميات تنظيمات يتخاطب أفرادها بكلمة أخي، إشارة الى مستوى العلاقة بينهم، أو تيمناً بأخوة المهاجرين والأنصار. وأفضل دليل على عدم الربط بذريعة الاسم أن إخوان الصفا كجماعة فكرية وفلسفية اتخذت الأخية اسماً لها من دون أن تكون لها علاقة بالفتوة.
وفي رأي آخر، ورد في تقرير الاستخبارات البريطانية عن العشائر الكردية، أن "الكاكائية بالأصل طريقة صوفية، دروشة، سواء من ناحية التنظيم أو المنشأ التاريخي" خورشيد، العشائر الكردية، 89. ومؤسسها، بحسب التقرير الآنف، هو سلطان اسحق بن عيسى البرزنجي. جاء ذلك مطابقاً لقول مينورسكي الآتي: "أما كشف الأسرار... فقد حدث في عصر بابا خوشين والسلطان اسحق" الأكراد ملاحظات وانطباعات، 81.
وعلى رغم البعد الديني الأيزيدي الذي أسقطه مينورسكي على طائفة أهل الحق، والكاكائية لم تكن بعيدة منها، والمتمثل بوجود مركز رئيس الملائكة في عقائدهم، إلا أن ريادة سلطان اسحق في بلورة فرقة دينية، عرفت بهذا الاسم، جديرة بالاهتمام. فاسحق في تأسيس الكاكائية، بحسب التقرير البريطاني، كان متأثراً بنحلة دينية قديمة كانت مزدهرة، يدعى صاحبها بابا خوشين، وهو الذي "جعل الزعامة وراثية في أسرته وحدها". وينقل عباس العزاوي، عن كاكائيين، ان اسحق كان أول الظهور الكاكائية في التاريخ، 41، بمعنى أنه المؤسس، ومرقده مزاراً كاكائياً في جبل هاورمان. يصف مينورسكي مكان المزار، أثناء رحلته العام 1914، بقوله: "قرية بيرديور في هاورامان، وهي قابعة وراء قمم وصخور وعرة، وتعتبر هذه البقعة من الأماكن الرائعة الجميلة الخلابة من حيث المناظر الطبيعية".
إن كلمة أخ أو كاكا، التي سميت الكاكائية بها، لقب للتخاطب بين أفراد الفرقة أو العشيرة، ورد في الأصل من خارجها، وهذا ما خضعت له فرق ومذاهب عدة، إذ عرفت بأسماء لم تخترها. شاعت حول التسمية حكاية تذكر فضل سلطان اسحق أو أسرته في تأسيس الفرقة. ورد فيها: "أن أحد رؤسائها المؤسسين لها كان من السادة البرزنجية في أنحاء السليمانية، فبنى تكية في قرية برزنجة، وضعت لسقفها العمد، ولكنها قصرت عن جدار البناء، فقال لأخيه: مدها أيها الأخ، كاكا، ومن ثم مدّها فطال الخشب كرامة، وصاروا يدعون بالكاكائية لهذه الحادثة" الكاكائية في التاريخ،4.
لكن عباس العزاوي، الذي أصر على ربط تاريخ الكاكائية بالفتوة، ينفي هذه الحكاية الشعبية المتداولة، والمستخلصة من واقع الحال، بقوله: "إنها الأخية، الطريقة المعروفة في بلادنا، وفي إيران، وفي الترك، وتنسب الى أخي، وأصلها أن لكل واحد من أرباب هذه الطريقة يدعو الآخر من جماعته بأخي، إضافة الى ياء المتكلم، ويعنون أن أصحاب هذه الطريقة أخوة، أصلها التمسك بآية المؤمنين أخوة، والسير بمقتضى هذه الطريقة، وعلى كل تستند الى أصل أنها طريقة الفتوة" المصدر نفسه،5.
كذلك يبتعد العزاوي عن رأيه حين ينسب الكاكائية الى طريقة صوفية، هي السهروردية، والدليل هو وجود قبر ابراهيم بن السيد أحمد، جد رؤساء الكاكائية بمقبرة الشيخ عمر السهروردي ببغداد المصدر نفسه، 41. وبالتالي تخلى عن أدلته في تأكيد العلاقة بين الكاكائية والفتوة، ومنها وجود محلة بكركوك تدعى بأخي حسين، أو وجود أشخاص يدعون بأخي فلان، أو بكك، مثل مبارز الدين كك، وحسام الدين كك. غير أن كلمة كاكا تعني الأخ الأكبر، الذي له اعتبار خاص في الأسرة، يتميز به عن سائر إخوته، فهي كلمة عامة، غير ملزمة لملة أو طريقة.
قال الكرملي معتمداً شهادة كاكائي صبأ عن ملته، تعرف عليه العام 1896 ببغداد، يدعى سعود بن جمو: "طائفة خفية المعتقد والمذهب، مبثوثة في كركوك وأنحائها، ولهذا لم يذكر وجودهم أحد من الكتبة والمؤرخين، لأنهم يخفون رأيهم الديني على كل إنسان، ويتظاهرون بالإسلام، في موضع يكون أكثر سكانه مسلمين، ويتظاهرون بالنصرانية، في المواطن التي يكثر فيها المسيحيون" مجلة لغة العرب، 1928. لكن الكرملي يعود الى حسم بحسب المرجع الكاكائي الذي يدعي أنه أثبت صحة أقواله بمطابقتها مع أقوال آخرين أمر الكاكائية بأنها نصرانية العقائد، بالقول: "اختاروا النصرانية على كل دين سواه" لغة العرب، نيسان ابريل 1928. وبهذا ألغى عنها صفتها الإسلامية، وصلتها المفترضة بأصول قديمة.
بيد أن الكرملي، الذي نصر الكاكائية، بحسب ما وصله من معلومات شفاهية، ينفي وجود مذهب أو دين خالص، في منطقة وصفت بمتحف للأديان والعقائد، فهو القائل: "هذا الاختلاف يعود الى طبيعة البلاد، فإنها جبلية، وقد تناوب عليها اصحاب الأديان القديمة والعناصر المتباينة، وقد أبقى كل عنصر وكل معتقد، وكل مذهب شيئاً من بقاياها... وفي كل من تلك الأجيال بقايا قد اختلط بعضها ببعض حتى أنه يستحيل على كل عاقل الوصول الى قرار الحقيقة، والذي يحاول البلوغ إليه يطلب المحال". ليس بعيداً أن يكون ميل الكاكائية الى المسيحية ادعاء ادعاه كاكائيون أمام رجل دين مسيحي، فقد سبقت الإشارة الى ريبة الكاكائيين من الآخرين. فهم مسلمون أمام المسلمين ومسيحيون أمام المسيحيين. وهذه ليست المرة الأولى التي يتوهم فيها الكرملي ويضفي الصبغة المسيحية على جماعات دينية، فقد كتب عن الصابئة المندائيين، وهم أهل دين قديم، سلسلة مقالات في مجلة "المشرق" البيروتية، ورد في العدد 3/1900 قوله: "اقتبست آراء من النصرانية قبسة العجلان، وفي القرون الأولى للمسيح كتبت بعض كتبهم". ولولا أن الأب الكرماي لم يثلب بالتعصب ومصادرة التاريخ، وليس له أغراض أكثر من خدمة العلم واللغة العربية، لنعت ما خبره في المجلتين المذكورتين بالدعاية التبشيرية.
قال مينورسكي، كشاهد عيان، نافياً تأثر المذهب الكاكائى، الذي يذكره ضمناً، بالمسيحية، فإنه "بجميع أبعاده واتجاهاته العامة لا يجتمع مع المسيحية في شيء". كذلك أكد عباس العزاوي، أثناء تجواله بالمنطقة، إسلامية عقائد الكاكائية، مع وجود الغلو فيها، على حد زعمه، المتصل، هذه المرة، بالحسين بن منصور الحلاج ت309ه، وأنهم يحرمون الخمر، ويحترمون يومي الاثنين والجمعة، ويتلون الأدعية الخاصة فيهم، ويقرون الطلاق، ولكن برضى الرجل والمرأة، فهو عندهم كعقد الزواج، لا يجوز إلا برضاء الاثنين، لكنهم لا يبيحون تعدد الزوجات، وألا يتزوج الشيخ ابنة مريده، ولا يتزوج المريد ابنة شيخه الكاكائية في التاريخ، 70- 71. خلا ذلك أجاب شيخ الكاكائية على استفسار العزاوي عن حبهم لعلي بن أبي طالب، بسؤال أحرجه: "وأنتم هل تكرهونه؟، ثم أردف الشيخ قائلاً حول ما يشاع عنهم: "ليس لنا من هذا النوع أكثر من أننا مسلمون، نؤمن بالقرآن" المصدر نفسه، 29.
المقبول من الآراء، بحسب المصادر التي بين أيدينا، أن الكاكائية عشائر كردية مسلمة، غلب عليها هذا الاسم قديماً، مالت الى التطرف في محبة الإمام علي بن أبي طالب، لذلك عدهم البعض من العلي آلهيين، وتأثروا بالأديان المحيطة بهم، وساعدتهم الجبال في الحفاظ على عقائدهم فترة طويلة.
من أهم كتب الكاكائية، المشتركة مع أهل الحق وغيرهم "خطبة بيان" المنسوبة لعلي بن أبي طالب. قال حاجي خليفة ت1067ه: "سبعون كلمة، أولها: الحمد لله بديع السموات وفاطرها الخ، قيل إنها من المفتريات، ولها شرح بالتركية في مجلد" كشف الظنون. وقال آغا برزك الطهراني: "من الخطب المشهورة نسبتها الى أمير المؤمنين ع، ولها نسخ مختلفة بالزيادة والنقصان... لم يذكرها الرضي في نهج البلاغة، وكذا لم يذكره ابن شهر آشوب في المناقب، في عداد خطبه المشهورة" الذريعة في تصانيف الشيعة. ومن كتبهم أيضاً، "جاودان عرفي" وهو كتاب الطريقة الحروفية الصوفية، وكتاب "حياة" و"التوحيد" لسلمان أفندي الكاتبي، و"سرانجام"، الذي طبعه مينورسكي باسم "سه ره نجام" قبل 1914، وكان مدوناً بالكردية الأكراد ملاحظات وانطباعات، 83. تضاف الى هذه الكتب دواوين شعرية، تتلى كأدعية وابتهالات.
أمامزاراتهم، التي يشاركهم فيها آخرون هي: مزار سلطان اسحق، في جبل هورمان، ومزاد سيد ابراهيم بين مقبرة الشيخ عمر والباب الأوسط ببغداد. ودكان داوود، وصاحب المزار المذكور كان خليفة السلطان اسحق، يقع بين سربيل وباي طاق، في كهف جبل. ومزار زين عابدين في داقوق، أصل محله كنيسة. ومزار أحمد بكركوك، بمحلة المصلى. ومزار عمر مندان بكفري، وهو غير عمر مندان الواقع في طريق كركوك - اربيل الكاكائية في التاريخ، عن شيخ الكاكائية في الأربعينات.
حدد تقرير الاستخبارات البريطانية، حدود المنطقة التي توجد فيها الكاكائية بالآتي: شمالاً بارون داغ والتلال المجاورة، جنوباً الطريق الرئيسي، الواصل بين تازة وطوزخورماتو، وشرقاً منطقة حويجة، وغرباً السهل الممتد من جبل حمرين، وقره علي داغ. ويصحح مترجم التقرير، حدود الكاكائية بالآتي: جنوباً السهل الممتد من حمرين، وقره علي داغ، وشرقاً الطريق الرئيسي بين تازه وطوز خورماتو، وغرباً منطقة حويجة.
وأشار التقرير الى موطنهم الرئيسي في العراق بناحية طاووق بكركوك، وبين خانقين وقصر شيرين على الحدود العراقية الإيرانية، وعلى ضفاف الزاب الكبير، ويعرفون هناك بالصارلية، كما لهم وجود ملحوظ بتلعفر. عدهم الكرملي العام 1928 بحوالى عشرين ألف نسمة، وفي كركوك لهم 60 بيتاً، وعلى نهر الزاب 480 بيتاً، وفي خانقين نحو 560 بيتاً.
* كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.