عن المكتب العالمي للطباعة والنشر والتوزيع صدر كتاب "التحديث والتجديد في عصر النهضة" في الذكرى المئوية لمجلة المنار ومؤسسها السيد محمد رشيد رضا. والكتاب عبارة عن مجموعة ابحاث ألقيت في كلية الآداب، الجامعة اللبنانية - الفرع الثالث، وتوزعت أبحاث الندوة على جلسات عدة. الأولى حملت عناوين فلسفيات، عقائديات، فقهيات. الموضوع الأول للدكتور رضوان السيد وهو "المنار وتحولات العشرينات". يتوقف الباحث عند نقاط التلاقي ما بين الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا ومنها أن الاسلام دين الفطرة، وأن تخلف المسلمين عائد الى نسيانهم أو جهلهم لأصول دينهم، وأنه باكتشاف قيم الاسلام الأصيلة من جديد يمكن مكافحة ظلمات التخلف والجهل، كما يتوقف الباحث عند موضوع مهم يتعلق بما أشار اليه محمد رشيد رضا حول ثقافة الإمام عبده، ويذكر أن الاستاذ الإمام ما كان بوسعه في فقهه اللجوء الى السُّنة النبوية في الاستدلال لأنه لم يكن يعرفها معرفة متمكنة، أما هو - أي السيد رشيد رضا - فقد بدأ بالرجوع الى السُّنَّة بشكل مُكثف في فتاويه بمجلة "المنار" في العقد الثاني من القرن العشرين، أما في عشرينات القرن العشرين وحتى وفاته فإن السنة صارت مرجعُهُ الرئيسي في الاستدلال في اجتهاداته. يشير الباحث أنه صار السيد رشيد رضا الى وضع منهج جديد أو آلية جديدة للاجتهاد سماها الباحث "منهج التأصيل"، وهي بخلاف النهج العقلي والمقصدي في الاستدلال، كما كان عليه الأمر لدى محمد عبده، والفرق واضح بين الطريقتين. ففي حين كان محمد عبده يلجأ للمقاصد ولما هو معلوم عن الدين بالضرورة ليصوِّغ الجديد، فإن السيد رشيد يضع الجديد كله موضع الاختبار، ومقياسه للشرعنة أو للافكار، "القرآن والسُنَّة"، والسُنّة على الخصوص في مسائل الفتوى التفصيلية. فالمعقول عند محمد عبده شرعي إلا اذا خالف معلومات الدين بالضرورة، بينما هو غير مشروع عند رشيد رضا إلا اذا وافق القرآن والسُنّة. بعد ذلك يطرح الباحث أسئلة حول تحولات العشرينات في الدين والثقافة والسياسة والوعي؟ وهل انفرد بها السيد رشيد رضا؟ أم ان ذلك كان اتجاهاً عاماً؟ يسهب الباحث في شرح خلفية التحولات في العشرينات من القرن الماضي ويخلص للقول أن مفكري السبعينات والثمانينات من الاسلاميين ليسوا نكوصاً عن محمد عبده أو غيره من الاصلاحيين، بل هم استمرار للسياقات التي ظهرت في العشرينات والثلاثينات، التي لعب السيد رشيد رضا دوراً تأسيسياً في نطاقها. الموضوع الثاني حمل عنوان "المنار والفقهيات" قضية المرأة للباحث محمد درنيقة فيشير الى أن الفترة التي عاش فيها رشيد رضا وشهدت حركة مهدت الى اعطاء النساء الحقوق المدنية ومساواتهن بالرجال وكان للسيد رشيد رضا مواقف هامة من هذه القضية المطروحة آنذاك سطّرها على صفحات مجلة "المنار" أو من خلال بعض الكتب التي كتبها ككتاب "نداء للجنس اللطيف" بيّن فيه حقوق النساء وقدم له بلمحةٍ موجزة عن حال النساء عند العرب وغيرهم من الشعوب قبل الاسلام ركز الباحث على الآراء التي طرحها رشيد رضا ومنها ما بينه للنساء على صعيد الاصلاحات التي جاء بها الاسلام لخيرهنَّ وخير المجتمعات لأن في صلاحهن صلاح المجتمع، فالمرأة إنسان وهي شقيقة الرجل وإيمانها كإيمانه. كما يشير الباحث الى موقف رشيد رضا من موضوع تقليد الإفرنج في تربية النساء وتأكيده على ضرورة تربية البنات على آداب الدين وفضائله وأحكامه وتعليمهنّ اللغة العربية وتاريخ الأمة وعلم التربية وتدبير المنزل. كما يستعرض الباحث موقف رضا من موضوع تعدد الزوجات وتاريخه وأصله، كما يتوقف عند موضوع الطلاق ورأيه في هذه القضية ورده على خصوم الاسلام من مسألة الطلاق. كما يُعرج الباحث على نقاط مهمة منها الميراث والحياة الزوجية ويخلص للقول إن ما وُجدَ دين ولا شرع ولا قانون في أمة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهنَّ الاسلام من الحقوق والعناية والكرامة. الموضوع الثالث كان للباحث أحمد الأمين وهو "المنار اشكالية التجديد والمحافظة" ويرى ان اشكالية التجديد والمحافظة على "المنار" هي اشكالية تغطي مساحة الانتاج الفكري للسيد رشيد رضا: في الفقه والشريعة في الدين والدنيا في التربية والتعليم في المرأة والحقوق، في التصوف والحقيقة في السياسة والاقتصاد. غير ان الباحث اقتصر على موضوع الفقه والشريعة متناولاً دعوة رضا التي أطلقها من على صفحات "المنار" من اجل اخراج كتاب مُوحد في الشرائع مُستوحى من القرآن والسنة ومنسجماً مع حاجات العصر. فيذكر أن رضا كرّسَ الكثير من وقته وجهده وتفكيره وكتاباته لرسم خطوط هذا النظام الشرعي الجديد ومن خلال مقولة أن الجمود والتقليد شران قاتلان في مختلف مراحل حياة الأمة الاسلامية. واليوم أصبحا يشكلان خطراً أشد من ذي قبل بسبب ما تطرحه الحياة والمدنية الحديثة من تحديات وموضوعات تجعل الحاجة ماسة الى قوانين وتشريعات جديدة. الموضوع الرابع حمل عنوان "العقلانية المؤمنة في مذهب المنار" للباحث محمد رضوان حسن. فيشير الى ان العقلانية الموقتة قديمة في الاسلام نفسه وهي اتخذت عبر التاريخ اتجاهات مختلفة. و"المنار" في بداية عصرنا يشكل بدوره واحداً من هذه الاتجاهات، فهو جاء - كما يقول - ليظهر العقل الذي كان متميزاً في الاسلام وغيبته مع ذلك بشكل مأسوي ترسبات التاريخ الأمر الذي جعل الشريعة برأيه واقعة بكل ممارساتها في سلاسل التقليد الذي أفقدها روحها وحيويتها. والعقل بنظر "المنار" لا ينفصل عن الشريعة، بل هو والشريعة توأمان لأن أحكام العقل الصحيحة هي الأحكام التي تقرها الشريعة ولأن أحكام الشريعة لا يمكنها ان تتعارض مع احكام العقل. يشير الباحث الى أنه يوجد في "المنار" ايمان راسخ بالعقل، وهذا الايمان الراسخ بالعقل له مميزاته الخاصة به، فهو لم يكن ليسير سير العقلانيات السابقة وهو لم يأتِ ليؤسس عقلانية تبغي تكرار التاريخ، بل ادخال تجديد في التاريخ من طريق اعادة النظر في معطيات التاريخ فتحاكمها وتصوغ بالتالي مفاهيم جديدة صار التاريخ نفسه يطالب بها لكي يستطيع الاستمرار. ويرى الباحث ان هذه العقلانية في "المنار" شقت طريقها عبر ثلاث مسائل: الدعوة الى العقل أولاً، ثم فتح باب الاجتهاد ووضع منهجية اجتهادية منفتحة، ثم تطبيق هذه المنهجية بالقيام بتفسير جديد للقرآن يكمل ويصحح، كما يقول صاحب "المنار" - التفاسير القديمة المليئة بالأخطاء ويقدم حلولاً اسلامية لمشكلات العصر. الموضوع الخامس للباحث علي زيعور بعنوان "التمايز والتناضح بين الوَعْيَين الأخلاقي والديني" وفيه توقف الباحث عند نقاط عدة منها، حق المجالات في التمايز ثم واجبها في التضافر، حق الأخوة والعلوم والميادين الفرعية في التعدد والاستقلال، لا بُدية الانفصال ثم التعاون بين متساوين أكفاء علائقية الوَعْيات أو الأبناء أو العلوم في ما بينها ثم داخل الوعي العام المشترك، الوَعْيَنَة والبلسمة حيال البعد المأسوي. الاستغفار للقتلة أو للغادر والظالم، أبعاد التضحية والألم والمأسوي أساسية في التجربة البشرية، أبعاد التضحية والألم والمأسوي أساسية في التجربة الدينية، الارتفاع الى الغفران من الوعي بالظلم الى العفو والصفح. الانسان والانسان الأكبري في المجتمع والتاريخ وأمام الله. التأسيس الفلسفي للشورى، التمذهب الشمّال أو التمنهج، المرجعيات الافتائية، من الواحدي الى المجالسي أو الفريضي متعدد الاختصاصات، الحوار مع الأديان المعدّدة ثم أحكام وتنحيات. الجلسة الثانية للندوة حملت عنوان "الاجتماع والتاريخ والسياسة" حملت أبحاثاً عدة: منها مبحث حول "تأسيس "المنار": مشكلة تاريخية سياسية" للباحث أنيس الأبيض. وحول تأسيس "المنار" والمشكلة التاريخية التي رافقت التأسيس والاصدار. تطرق الباحث الى الخطوات التعليمية الأولى للسيد محمد رشيد رضا متوقفاً عند الواقع الثقافي الذي كانت تعيشه طرابلس وهي المنهل العلمي الذي نهل منه رشيد رضا علومه الأولى معرجاً بالحديث عند المناخ الفكري والسياسي الذي كان يسود طرابلس آنذاك ثم اشارته الى الأسباب التي دفعت رشيد رضا للهجرة الى مصر بغية الاستزادة من العلم وحتى يتمكن من مواصلة خدمة دينه وأمته الى أن تيسرت له أسباب السفر واستقر مقامه في مصر، فمنذ وصوله الى القاهرة كشف للاستاذ محمد عبده عن أهدافه الحقيقية في انشاء صحيفة اصلاحية. ثم يتعرض الباحث الى موضوع تأسيس "المنار" ويورد بعض المقابلات التي أجراها رشيد رضا مع الإمام محمد عبده حيث جرت بينهما مناقشات أتاحت للسيد رضا اقناع محمد عبده بأهدافه الخاصة بالعمل الاصلاحي في ميدان الصحافة، بعد ذلك يعرج الباحث على المنهج الاصلاحي لرشيد رضا من خلال التوقف عند بعض المقتطفات التي جاءت في مقدمة العدد الأول وتأكيده على المنهج الذي رسمه لنفسه وقبوله واستفادته من النقد البناء والنصيحة الخالصة، كما أشار العدد الأول من "المنار" الغرض من المجلة ومذهبه في الاصلاح الديني والاجتماعي والأدبي. ويتوقف الباحث عند استنتاج مفاده أن "المنار" غدت منبراً للدعوة الى الاصلاح واستمر اصدارها بانتظام سنوات كاملة حتى وفاته العام 1935. المبحث الثاني حمل عنوان "السيد محمد رشيد رضا والقضية العربية" للباحث حسن يحيى. ويشير الى ان معرفة موقف رضا من القضية العربية زمن مأزقها الحرج، تتطلب منا التوقف عند نقاط عدة منها: - موقفه الاصلاحي غير الطائفي وتثمينه لأهمية العرب في جسم الدولة الاسلامية. - ميله الى الوحدة العربية في اطار الوحدة الاسلامية. - موقفه من الهجمة الغربية ومن الانقلابيين الأتراك. - موقفه من المسألة اللبنانية ونظرته البعيدة لمستقبل العرب واهتمامه بالقضية الفلسطينية. بعد ذلك أشار الباحث الى اهتمام رضا بموضوع الاصلاح وهو الأهم المقدم في السلطنة العثمانية حيث تناول فيه ما يجب على الدولة بعد عودة العمل بالدستور عام 1908 من القيام بإصلاحات عامة. كما توقف باسهاب امام عمل رضا للوحدة العربية في نطاق الوحدة الاسلامية، اذ كان رضا أصلاً من الداعين للوحدة الاسلامية، وهو يرى ان السعي للوحدة العربية على وجه لا يخل بسيادة الدولة العلية كما أشار الباحث الى رأي رضا في ضرورة أن يدرك العرب أهمية دورهم العلمي والديني وعظم المسؤولية في قيادة الأمة العربية والعالم الاسلامي فكرياً وسياسياً. بعد ذلك ينتقل الباحث للحديث عن موقفه من الانقلابيين الأتراك والهجمة الأوروبية متناولاً موقفه من العصبية الجنسية وسياسة التتريك ونتائجها المشؤومة، ثم يعرج على موقفه من المسألة اللبنانية ونظرته البعيدة لمستقبل العرب واهتمامه الشديد بالقضية الفلسطينية. في المبحث الثالث تطرق الباحث وجيه كوثراني الى "موقف رشيد رضا ومسألة الخلافة" فيذكر أن فكرة الدولة عموماً شغلت حيزاً مهماً من تفكير رشيد رضا، كتابة ومواقف وتحركات. وبرأيه أن مسألة الخلافة التي شغلت باله اثر سقوط الدولة العثمانية وتداعيات هذا الحدث ونتائجه وهي وجه من أوجه هذا الاهتمام بفكرة الدولة عموماً. وعليه فإنه يمكن ان نميز في مسار انشغال رشيد رضا في هذه المسألة ثلاث مراحل: الأولى: مرحلة انشغال رشيد رضا بإصلاح الدولة العثمانية من خلال أحزابها التي كانت تدعو للدستور. الثانية: مرحلة انشغاله بالثورة العربية اثر القطيعة العربية - التركية واعدامات جمال باشا لشخصيات في الحركة العربية. الثالثة: انشغال رضا بالفراغ الذي احدثته هزيمة السلطات واستسلامه للحلفاء من جهة، وبالمقابل بالحركية أو الدينامية السياسية الجاذبة أو ذات الحضور المدوي التي احدثتها مبادرات مصطفى كمال في العالم الاسلامي. بعد ذلك يستعرض الباحث الأفكار التي راودت رضا في المراحل الثلاث متوقفاً عند خلاصة مفادها ان ثمة زمنين يمكن تميزهما في المسار الفكري لدى رضا. أولاً، زمن الاصلاحية الاسلامية المرنة والمنتجة بتأثيرات أفكار محمد عبده. وثانياً، زمن الحزبية الاسلامية السياسية المتوترة التي بدأ رشيد رضا ينحو نحوها بسبب تأزم الأوضاع المحلية وانكشاف المخططات الاستعمارية في المنطقة. أما المبحث الرابع فكان للباحثة سعاد الحكيم وهو "رشيد رضا والتصوف" وفيه تطرقت الباحثة الى نقاط عدة منها: التصوف في دائرة "الأنا" التي من خلالها استكمل رضا علمه وعمله لحياة روحانية هي امتداد طبيعي لمعارفه وعلومه. ثم تصوف رضا في دائرة الجماعة وفيها تمحور جهاده الاصلاحي في حقل التصوف حول فكرة التوحيد وما يناقضها وجودياً من معتقدات وممارسات يلحظها في الاحتفالات الصوفية في المناسبات الدينية، وشمل نقده الاجتماعي للحقل الصوفي، إفتتان الناس بالولي وقصده لقضاء الحاجة، زيارة الأضرحة واعتقاد النفع والضرر. أما المبحث الخامس فكان للباحث طلعت الأخرس بعنوان "مجلة المنار قراءة تاريخية اجتماعية" استعرض فيه نقاطاً عدة منها: المنار النشأة والأغراض، المنار والصعوبات ومناهضة الاستبداد، المنار والدعوة الى الحرية الفكرية وقبول العلوم العصرية، ثم ما بين المنار والدكتور شبلي شميل حوار حول الاسلام ونظرية داروين، وبعد استعراض مسهب لآراء رضا خلص للقول أنه لا بد من انصاف هذا المفكر من خلال ابراز آراء عدة تناولت "المنار" وجهود صاحبه، منها على سبيل المثال رأي الامام محمد عبده ورأي أمير البيان شكيب ارسلان ورأي عباس محمود العقاد الذي يقول: "قرأت المنار ومباحث السيد رشيد لأنني كنت أقرأ كل ما كتب الاستاذ محمد عبده وكل ما أوصى بقراءته". * استاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية.