"ملتقى سعدي الشيرازي" الذي اقامته مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للابداع الشعري في طهران من الثالث وحتى الخامس من شهر تموز يوليو الجاري بالتنسيق مع رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية، جمع اخوة وابناء عائلة واحدة على رغم اختلاف الانساب والآراء. ان الثقافة والأدب هما الجسر الاقوى والقاعدة الامتن والطريق الاسهل والاسلس والاقرب للتواصل، لانهما يهيئان لغة تفاهم مشتركة تسهل الحوار والتقارب في جميع المجالات الاخرى كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً ان العرب والايرانيين هم ابناء أمة واحدة ويشكلون الركنين الاساسيين لحضارة واحدة اغنت البشرية بعطاءاتها الفذة. ومن هنا يمكن تقويم ملتقى سعدي الشيرازي كخطوة على طريق اذابة الثلوج وازالة الجدران والحواجز لاعادة بناء الجسور وتقويتها بين ابناء الأمة الواحدة، من خلال لقاء نخبة من ادبائها ومثقفيها، وحال صحية من حالات العودة الى الجذور لاستجلاء عراقة وعظمة وخصوبة وغناء التراث المشترك لآداب هذه الأمة عموماً والادبين العربي والفارسي بشكل خاص. وهو لقاء للمعرفة، فمن عرف فهم، ومن فهم أحب. التفاعل بين اللغتين العربية والفارسية والتلاقح بين آدابهما يمتد الى قرون سحيقة في التأريخ تجتاز صدر الأسلام والعصر الجاهلي لتصل الى بدايات ظهور المجتمعات البشرية في الحجاز واليمن وما بين النهرين وبلاد فارس، فجاء الاسلام ليعزز هذا التفاعل ويبارك ذلك التلاقح بين هاتين اللغتين وهذين الادبين اللذين أثّرا وتأثّرا سواءً بسواء في بعضها البعض وفي هيكلية الأدب الاسلامي ومن ثم في الحضارة الاسلامية. إلاّ ان هذا التواصل هزل وانعدم تقريباً في اكثر من عصر مضى. ومن هنا تأتي اهمية ملتقى سعدي الشيرازي في احياء هذا التواصل وبعثه وتجديده، وهذا ما لمسناه من خلال برامج ونشاطات الملتقى. فقد كان الاهتمام الرسمي والثقافي والاعلامي الكبير الذي اولته الجمهورية الاسلامية الايرانية لهذا الملتقى خير استجابة لمبادرة مؤسسة البابطين باقامة الملتقى في ايران وتكريماً لشاعرها الكبير سعدي الشيرازي. كما ان الكلمات التي القيت في الجلسة الافتتاحية للملتقى أكدت هذه الحقيقة. فأشار عبدالعزيز سعود البابطين في كلمته الى ان اختيار سعدي الشيرازي محوراً لهذا الملتقى كان مقصوداً باعتباره شاعراً يتجسد فيه بشكل فائق التمازج والتلاقح بين الثقافتين الشقيقتين ولارتباط حياته بإيران والوطن العربي. وأكد على ضرورة التلاحم ونبذ الفرقة بين ابناء الأمة، والحرص على ان يكون للشعر والأدب مكانته الريادية. وقال ان الشعر ليس ترفاً كما يتراءى للبعض في هذا العصر المتسارع في كل شيء، وانما هو قيمة فكرية رائدة ومتقدمة. اما الرئيس محمد خاتمي فاعتبر الملتقى تكريماً للثقافة والعلم والاخلاق والأدب، واشار الى ان العالم الاسلامي كلّه كان مسرحاً لحركة سعدي الأدبية، وان اهم خصائص سعدي هي رؤيته الثاقبة لمواقعه مستفيداً من تراث حضاري كبير، وانه لم يبق اسير منطقة معينة. لهذا فاننا نجده يتحدث باسلوب جديد غير مألوف في عصره، إذ أنه انتقد ظواهر عصره بمعانٍ رشيقة. واضاف خاتمي قائلاً: إن سعدي الشيرازي ليس مرآة عصره الأدبي فقط، بل هو ظاهرة يعتبرها الجميع جزءاً من أحاسيسه، فسعدي قدّم بشعره عرضاً فنياً لحياة الانسان المتألم، بعيداً عن الرؤية الكئيبة، بل انه صاغ الألم بحروف جميلة صادقة. لقد جمع سعدي في شعره واقعية الموضوع واستشراف المستقبل، ولهذا احتل مكانة متقدمة في تأريخ الأدب والحضارة الاسلامية، حيث كانت كلماته صدى الحب الانساني الكبير. اما الشيخ محمد علي التسخيري فقد أكد على ان التعاون بين رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية في ايران ومؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للابداع الشعري، هو خطوة رائدة لتركيز مفاهيم اللقاء الحضاري، وطبيعة العلاقات الثقافية بين الايرانيين والعرب. وأوضح التسخيري ان الملتقى يمرّ عبر محطات ثلاث هي: التكامل الثقافي بين العرب والايرانيين، التفاعل النوعي بين الأدب العربي والأدب الايراني، ورصد موقع سعدي في ميدان الثقافة المشتركة. واضاف: ان الثقافة الاسلامية هي ثقافة امة وليس ثقافة شعب معين أو قومية بعينها، ولا يمكننا الفصل بين ثقافة الأمة الواحدة على رغم امتلاك كل شعب مساحة ثقافية موروثة تفرضها تقاليده ولغته وادبه. ثم تطرق التسخيري الى الأثر الكبير الذي تركه الايرانيون في الأدب العربي وفي اللغة العربية وقواعدها. واكد ايضاً دور العربية في صياغة الكثير من مصطلحات اللغة الفارسية وان بحور الشعر العربي هي ذاتها بحور الشعر الايراني. واضاف: لا أدلّ على التبادل الأدبي بين العرب والايرانيين، من ظهور شعراء يجيدون الكتابة الأدبية باللغتين الفارسية والعربية. قاعة مؤتمر القمة الاسلامية في طهران فاحت ايضاً بأريج الشعر العربي والفارسي، حيث القى استاذ الأدب الفارسي في جامعة طهران الدكتور جليل تجليل قصائد من شعر سعدي الشيرازي وشرح بأسهاب ما احتوته من رؤى شعرية عميقة، خصوصاً الرؤى الصوفية. ثم القى الاذاعي العربي المعروف احمد سالم قصيدة اضفت على القاعة جواً روحياً، ومنها: إن لم امت يوم الوداع تأسفا لا تحسبوني في المودة منصفا يا طيف إن عذر الحبيب تجنباً بيني وبينك موعد لن يخلفا ساروا بأقسى من جبال تهامةٍ قلباً فلا تذرِ الدموع فتتلفا ثم ارتقى منصة الخطابة الدكتور عطاء الله مهاجراني لالقاء كلمته التي تطرق فيها الى قصيدة لشاعر افغانستان الكبير خليلي انشدها بحق سعدي الشيرازي. وتحدث وزير الثقافة والارشاد الاسلامي عن قيمة سعدي الأدبية وتأثيره في عموم الثقافة الايرانية والاسلامية مشدداً على ان سعدي لم يكن شاعراً فقط وان كان فيلسوفاً وشاعراً وعالم دين. واكد مهاجراني على ان سعدي جدد الشعر الفارسي وذلك بتأثره بالآداب غير الايرانية، واعتبره فاصلة شاخصة بين أدبين، قديم وحديث. وبعد ذلك اختتم عبدالعزيز السريع، الأمين العالم لمؤسسة جائزة البابطين للابداع الشعري، الجلسة الافتتاحية شاكراً للجميع حضورهم ومساهمتهم في الملتقى. وفي اليوم الثاني من ملتقى سعدي الشيرازي عقدت في قاعة فندق الحرية ندوة "العلاقات الثقافية بين ايران والعرب، الحاضر وآفاق المستقبل". ورأسها الدكتور محمد الميلي المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. وتحدث فيها عن الجانب الايراني وكيل رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية الشيخ محمد سعيد النعماني، والمسؤول في المستشارية الثقافية الايرانية في دمشق الدكتور محمد علي آذرشب، وعن الجانب العربي تحدث فهمي هويدي والدكتور محمد الرميحي. الشيخ النعاني طرح خلال حديثه المقترحات التالية: 1- عقد ندوة نخبوية لدراسة الاشكاليات القائمة على طريق تطوير العلاقات العربية - الايرانية. 2- اجراء حوارات مكثفة ومستمرة بين رموز الفكر والثقافة من الجانبين. 3- تفعيل عملية الترجمة بين اللغتين العربية والفارسية. 4- تأسيس مركز بحوث ودراسات باسم "مركز الحوار العربي - الايراني". 5- اصدار نشرة عربية - فارسية تهتم بالثقافتين. 6- عدم الغاء الخصوصية الثقافية والاعتراف بوجود الآخر. اما فهمي هويدي فقال ان مفهوم الأمة قد تراجع كثيراً وصرنا ننتمي الى اقطار وقوميات اكثر من انتمائنا الى الأمة، كما أن ما قرّبته العقيدة تباعد بفعل السياسة، والمشكلة لا تقتصر على ذلك إنما تكمن في انشداد انظار المثقفين الى الغرب. ومضى هويدي متسائلاً: هل الاسلام يشكّل مرجعية في مجتمعاتنا؟ أخشى ان لا يكون كذلك. والمهم هو: ما الذي يمكن ان نفعله؟ أنا ادعو للتواضع في الاهداف. فاذا كان هذا الملتقى يتمكن من معرفة واقعنا فهي خطوة الى الأمام. الدكتور محمد علي آذرشب دعا الى تصحيح مفاهيم الفتح الاسلامي والتأثير المتبادل بين الادبين العربي والفارسي وقال: ان الفتح الاسلامي لايران كان فتحاً للاسلام لا لقومية معينة، وما حصل من تأثير متبادل لم يكن تأثيراً على مستوى الكلمات والجمل والموضوعات، وانما كان تحولاً نوعياً حضارياً تمثل في تغيير الرؤية والواقع وطريقة الأداء. اما الدكتور محمد الرميحي فقال ان للثقافة الدور الاكبر في واقعنا ولكن، من المضلّل فصل الثقافة عن الحضارة. ان الحضارة هي اكبر تجمع ثقافي، كما هي اوسع من الهوية. ان اهم عنصر في الحضارة هو العنصر الديني. فالحضارة واحدة والهويات متعددة، وفي كل الاحوال تبقى المرجعية للدين. وان المشكلة العالقة بين ايران والعالم العربي هي مشكلة ثقافية فلا بد من كسر الحاجز الثقافي. وقد تخللت الندوة مداخلات عدة. وفي اليوم الثالث والاخير من الملتقى عشنا صراعاً بين مشاعر سعادة التجوال في مدينة سعدي وحافظ الشيرازي والامسية الشعرية هناك، ومشاعر الاسى بقرب انتهاء الملتقى وقرب الرحيل، لكننا حسمنا الصراع لصالح الأولى، ولم نقل عند الفراق وداعاً بل قال كل منّا للآخر الى اللقاء والى ملتقى جديد على طريق التواصل. استاذ الأدب العربي في جامعة الامام الصادق في طهران