مال القصاصون العرب إلى كتابة القصة القصيرة جداً خلال العقود الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص، اعتماداً على القصر في السرد، وتنامي دلاليته وتداوليته في مقاربة البلاغة والمجازية من جهة، وفي ثراء التفعيل اللغوي وتوظيفه من جهة أخرى، بما ينفع في تمثلات الأغراض السردية الاستعارية والرمزية والإحالية والتناصية من خلال تنفيذ التحفيز الجمالي أو التأليفي الذي تتشابك فيه الواقعية مع دقة أغراض الحوافز (الوحدات القصصية) وصلاحيتها، ومع تناظم التواهم وضوابط البنى الجمالية الداغمة للمنظورات والمدارك البلاغية والمجازية. لقد انتشر القص القصير جداً في الأدب العربي الحديث، وأحلل في هذا البحث ثلاث مجموعات قصصية قصيرة جداً لقاصين عرب سعوديين هم ناصر سالم الجاسم، وفهد أحمد المصبح، وأحمد القاضي. إن ناصر سالم الجاسم روائي وقاص وكاتب من مواليد مدينة العيون بالأحساء عام 1385ه - 1965م، وعمل معلماً في المرحلة المتوسطة، وأنهى متطلبات درجة الماجستير تخصصاً في الأدب، ونشر الكثير من قصصه ومقالاته في الصحف المحلية السعودية والعربية، وحصل على الأولوية، وفاز في كثير من المسابقات، وأصدر روايته الأولى "الغصن اليتيم" عام 1417ه - 1997م، ثم نشر مجموعته القصصية القصيرة جداً "النوم في الماء" عام 1998م - 1418ه، (نادي القصة السعودي، الرياض). ولديه أعمال أخرى ما زالت مخطوطة. ضمت المجموعة خمس عشرة قصة قصيرة جداً ذات حجم صغير، وتناظرت غالبية القصص مع العتبات النصية والخطاب الوجداني والتورية نحو ابتعاث الدلالات الكامنة. وقد تصدر المجموعة الإهداء "إلى كل أنثى تجيد الغرس في مواسم انفطاع المطر" (ص 7) تعبيراً عن رشد العلاقات بين الأنوثة والذكورة، لئلا تتصاعد النزعة النسوية في مواجهة المجتمع الذكوري وتسيده على النساء، وكان الإهداء غير مباشر اندغاماً في البصيرة من الإعلان والإشارة إلى وصف المكنونات الذاتية، ومن الواضح أن التناص كامن مع اسم أو كلمة "أنثى" في إجادة التواصل الإنساني لمجاوزة الأضرار والمفاسد والمساوىء، ويفضي التناص نحو الشذرة القولية الكامنة لمعنى ما تفصح عنه منظومة الدلالة. حملت عنوانات القصص عتبات نصية، شأن القصة الأولى "موت القصائد" الناظرة في التحفيز الجمالي، وقوامه الخطاب الذاتي الموجز باستخدام التورية من وصف الطبيعة إلى تمثلات العلاقات الشخصية، فالعتبة النصية في العنونة عند تأويل السرد القصصي الوجيز والقصير توحي بموت التطلعات والخلاص والآمال تحت ضغوط الواقع الموجع والتواصل الفاسد، ولا سيما اختناق النفس في استحضار النجوى لأوصاف مرارة العلاقات: "قررت أن أغسل تاريخي وجرحي الأسود بالجنية" (ص - 1312). وأعلن صوت النجوى في كلام الراوي المباشر عن موت الحياة كلما تصادمت النفس مع سواد الأوضاع والمواقف مع الآخرين، كقوله: "لا حظت أني لا أعرف كيف أموت.. عدت إلى قاع النبع وأنا أقاوم شوقي إلى لقاء الجنية.. فتحت عيوني لعلي أرى شيئاً من آثارها، أو أكتشف الطريق الذي تأتي منه" (ص 13)، وكانت تورية اللفظ "الجنية" عن "الأنثى" من منظورات الشعرية في قول القصيدة إلى الإحساس العام وإحساسه به: "عدت ويداي تحملان إلى الشاعر جسد أنثى منفتحة البطن زرقاء الجبين مفتوحة العينين" (ص 13). عمقت قصة "ثلاثة مسالك لمعلمة السعي" التورية والترميز عند التطلع إلى الخلاص من الأذى والقهر: "انطرحت أمامي ثلاث دعوات للسفر، الأولى إلى قرى الدود، والثانية للعيش في مدن الفيروس، والثالثة معتمة الضوء مجهولة الهوية. اقتنعت بأن الحياة دخان ورماد" (ص 15). وهذا كله ناجم عن الخشية من الإحساس القاهر ومخاوفه، بما ينفع تأمل الأوجاع وانقطاعها عن النفس المتألمة: "تذكرت أنني لم استفد من سلوك الديك في الحفاظ على دجاجاته، وأنني كنت معجباً بعدوانيته.. غالبية الأسماء المذكرة تتمتع بالعنف.. صاروخ.. مدفع.. رشاش.. لغم.. ساءني في الديكة حرصها على البياض" (ص - 1716). إن هذه القصة القصيرة جداً في سردها الرمزي باعثة لمكنونات التورية في تميز الأحوال والأوضاع والأفراد والجماعات ومدى التوجع من الضغوط والمساوىء. تناولت قصة "تغريدة الوهج" الخطاب الوجداني مع الذات في لغتها المجازية، فهناك المراهقة التي يتبعها شباب، وتختم بكهولة وشيخوخة، وقد "صنفت الشباب إلى ثلاثة أنواع: شباب قلب، وشباب عقل، وشباب جسد" (ص 20)، وبدأ الراوي وصف المظالم على النفس في استنتاجه "مدى الأرقام المفتوح إلى ما لانهاية يشبع الإنسان، ويحثّه على أشياء جديدة ومجهولة" (ص 20)، حتى أن هذا العصر سمي بعصر المقابر (ص 21)، إزاء التعرض لمشكلات في غير محلها، فقد حضرت الشرطة، وأوقفته لمجرد مروره في الطريق. وتؤشر القصة في تحفيزها الجمالي إلى مكابدة العيش من خلال نظم التورية السردية لمشكلات الصراع الاجتماعي دون أسباب صحيحة. بنيت قصة "الملف السردي لرصاصة" باللغة المجازية، عند استعداده للسفر، واستحضاره لملف المخاوف الدائمة، إذ حاول على الدوام "استدعاء لغة حبّ ومفردات أمل" (ص 24) دون أمل أو تحقق لنفي ملف الشتائم والبذاءات المتزاحمة في المسبات الميتة في ذاكرته إلى الحياة، وكأن القنبلة الموقوتة تنتظره، وهو سرد قصير موغل في التورية لتقصي المدلولات والمعاني. وأضاءت قصة "النوم في الماء"، التي تحمل عنوان المجموعة القصصية، مشكلات الخطاب الوجداني في معنى النوم الهادر لنصف العمر، وتكاثر حشرات الخوف التي تفضي إلى خشية الحياة اليومية، إذ لا يتعالى الأنس والأمان والرشاد ما بين الحياة وموت الحياة والموت، على أن الحشرة معنى، وليست مجرد حشرة، فقد مضت في حياته ساعة، "ولم أنم فأدركت أن الإنسان ينام ثلاثة أرباع عمره، ويضيع الربع الأخير في انتظار النوم يأتي" (ص 27). ثم تزايد توصيف مرارة الوجود في قصته "احتفالات نمل الجبل والغربان" من خلال وصف الطبيعة والكائنات، فالإنسان يضيق من نومه، ويستخرج من ذاكرته قلق الحياة إزاء موت الحياة، وتمثل هذا القلق في الموت عند الجبل مثل الموت في البحر، وهذا هو شأن العذاب الدائم في قضايا الوجود الفاسدة: "استيقظت وكان غناء الصباح الرائق نعيقاً حاداً لغراب جائع وأنثاي تقتل النمل بقدميها الدامية من وعورة الطريق" (ص 32). أظهرت قصة "يباب البيدر الآخر" الاعتراضات الكثيرة التي تؤدي إلى الموت مرات، وبذلت قصة "العفر" الجهود الكبيرة عند البشر في المقاومة والنجاة، لأنهم مازالوا يخشون من تلك الأوجاع والمخاوف: "كلّت قدماي ويداي، وحرمني الطين المكتوم حول أذني سماع صوت المطر، واستمرت الغيوم تزحف بقوة صوب الجنوب" (ص 39). وأبانت قصة "تأتأة الخفقة" مآسي العلاقات السيئة حيث "عناقيد الخوف تدلى في القلب الموقوت" (ص 41)، فدعا الخطاب الوجداني الراشد إلى نبذ أوهام الخلاص، لأن المرء واصل "تأتأته واضعاً يده على قلبه" (ص 42)، ما دام الآخر يسعى لذاته دون تقدير من إلى جانبه، "وأخذ قلبي يخفق، وبدأت الشجرة العظيمة في الاهتزاز" (ص 43). تكسر قصة "التكسيرات" الوجود في سوء العلاقات مع النسوية: "سافرت البيضاء، وتكسر الخط والحبّ، ومازالت الساعة تحت الوسادة تتكتك" (ص 48). وتفاعلت قصة "اهتزاز العطر" مع اللغة المجازية والدلالية من خوف المرض عند الولع بالمرأة في غير محله، بينما شرحت قصة "لوحة صباح ضبابي" الإزعاج في العلاقات الخائنة والجائرة. أما قصة "اكتئاب الدماء"، فأدانت الكآبة، والاكتئاب، وقرص النفس عند قرص لحم مشكوك في الحياة، يتساقط في مشكلات الحياة إلى الموت من الظلم والجفاف والتصحر الذي لا تحلّ معه مشكلة اكتئاب الدماء حيث "موت الحيوانات.. موت الإنسان.. موت اللحم" (ص 58) مالم تحل "مشكلة عدم موت الظلم" (ص 29). هناك قصص "عرس الجن" الداعية إلى وحي خشية جمر السجائر، وهي مدلولات كذلك، التي تهدر طرق الحياة، مثلما صارت "لغة الجن لا تختلف عن لغتنا" (ص 62). ودعت قصة "ظل الجنون" إلى نمو الروح، وقصة "الغرس" إلى صعوبة البصر والبصيرة، لدى إغفال التواصل مع خصوصيات الذات والواقع والطبيعة والبيئة والمجتمع، وسمى الصعوبة في العبارة الأولى على أن "العيون غافية، نائمة بملابسها الطينية والأسمنتية تحت المطر، شوارعها تغتسل ودكاكينها مغلقة، سماؤها مطلية بتشكيلات مخيفة من السحب السوداء الداكنة تقودها ريح مجنونة.. اعتادت العيون كما هي عادة المدن المحروقة أن تغتسل مرة واحدة في السنة" (ص 69). بات واضحاً أن القاص والروائي ناصر سالم الجاسم حافل في سرده القصير تفاعلاً مع التحفيز الجمالي غالباً، واستناداً إلى البلاغية والمجازية في البنى السردية كالعلامية (الإشارية) والاستعارية والرمزية والإحالية والتناصية الكامنة للمعاني والدلالات بما يضيء عمليات وعي الذات وتواصلها مع الوجدان والآخر، وتجاوزها للمشكلات المؤذية والفاسدة والقاهرة.