الاسئلة الوجودية، والمرجعية بين الثقافي والحياتي المعيش، والمعالجة الطريفة السلسة لهذه العوالم، والروح السوداء - ولكن غير القائمة، التي تطغى على القصص، هي مجموعة سمات تطبع عالم القاص الاردني جمال ابو حمدان، سواء في كتاباته القصصية، ام وصفه ب"غلالة شعرية" تغلف لغته واسلوب تعبيره. والسمات هذه يجدها قارئ مجموعة "البحث عن زيزيا" التي تضم عشر قصص قصيرة، تتناول هموم انسان العصر، انطلاقاً من فكرة حيناً، ومن مشاهدات حياتية حيناً آخر. ومن اسئلة جديدة تطرحها شخوص الحكايات والقصص الخرافية في بعض الاحيان... لكن القصص جميعاً مدموغة بالمرارة حافلة بالبؤس البشري، بالموت والشيخوخة والوِحدة والضياع والعلاقات المشروخة... الخ. ما من أمل، تقول القصص. خصوصاً قصة "يوم الرحلة" التي يدخل "ابطالها"، الراكبون حافلة الرحلة، في نفقٍ مظلم يثير فيهم حكاية اهل الكهف فيختلفون حول عددهم: "ثلاثة رابعهم كلبهم" يقول احدهم ويختلف آخر معه "بل كانوا خمسة رجال، ومعهم كلبهم"... وما يلبث ان يظهر "مفتش التذاكر" ليجمعهم على حقيقة اتفاقهم حول الامر المشترك/ الجوهري "الكلب كان موجوداً معهم" بصرف النظر عن عددهم، فيمضي شوط من الرحلة وهم متفقون، لكن الامل بالاتفاق يسقط حين يعود احدهم الى المسألة الخلافية. والاهم من ذلك هو الشعور بالاختناق في النفق الطويل الذي لم يعرف احدهم ان كان لا ينتهي، ام ان الحافلة قد توقفت! وكما يحدث في الحياة، ان يرغب البشر في الحرية والطلاقة والفرح، يحدث ان ركاب الحافلة التي "تسافر عادة بين الشروق والغروب" يفرحون في البداية. ثم يغرقون في "غبطة صامتة"، ثم يدخلون النفق. وسواء اكانت الحافلة والرحلة مأخوذتين على وجه الحقيقة ام على الرمز. فان الامل المفقود هو ما يطغى في هذه العقبة. اما الامل المجنون بالعثور على "زيزيا". فهو ينتهي نهاية سوريالية. فبعد خمسة وعشرين عاماً من البحث عن اول طفلة ولدت في مخيم زيزيا للفلسطينيين، وحملت اسم المخيم، وجد الرجل الذي يبحث عنها، حكايات متناثرة تؤكد موتها او رحيلها، وحين يعود الى بيته يائساً، يجد الطفلة في حضن زوجته. وقد لا تكون هذه هي القصة، بل الحكاية. فالقصة الاهم هي في حوار الرجل مع زوجته التي تصيبها الغيرة، ثم في حواره مع اهل المخيم. ومع حارس المقبرة، وفي الاساس حواره مع صورتها الوحيدة التي التُقطت لها في اليوم الاربعين لولادتها، وتظهر فيها "عارية ومستكينة على صدر امها، لكنها مشيحة عن الثدي البارز من شق الثوب، الى افق بعيد لا يظهر في الصورة..." وفي الخلفية اجزاء من اجساد اخرى... توضح ان "من التقط الصورة لم تكن له دراية بالتصوير، اذ ارتكب مجزرة في تقطيع الرؤوس والاكتاف والارجل... لم ينجُ منها غير زيزيا". وهنا يبرز سؤال: لم لا يكون المصوّر قصد ما فعله تماماً، فهو يريد افرادها. وهذا ما تقوله القصة عن فرادة الطفلة في بحثها عن حياة لا توجد في المخيم الذي اغترب عن نفسه "فاغتربت هي عنه" وهربت. هذا الحوار مع الصورة هو حوار مع حياة المخيم ورؤية لتحولاته ومصيره ايضاً. لكن الاهم هو حضور الانسان وتغيبه في هذا المكان المسمى بالمخيم. فالانسان هنا مغيّب عن انسانيته وفرديته، وعليه ان يكون واحداً رقماً في مجموعة ذات هوية موحدة. ومثل انسان المخيم، انسان "خط النار"، الشاعر، عاشق الطيور، الذي يجد نفسه على خط النار في مواجهة اعداء لم يقدر على تخيل ملامحهم، فهو لا يعرف سببب العداء، ولذا فهو لا يستطيع ان يطلق النار عليهم. وحين تجري "معالجته" وتدريبه جيداً، ويستعد تماماً، يفاجئونه بانتهاء الحرب، فلا يستطيع العودة الى حياة "السلام". فهو فقد شاعريته ليحقق "جنديته"، وحين حققها لم يعد احد في حاجة اليها بعد ان تحوّل خط النار الى "خط افق اشهب ساكن ممتد"... وعلى اهمية الاسلوب الذي يبدأ به الكاتب قصته "يوم الغبار"، حيث يظهر المؤلف منذ البداية "سأبدأ وصف الطفل الذي سيكون بطلاً رمزياً لهذه القصة..."، فان الطفل يجسد حالاً من حالات الانسحاق تحت اقدام السادة القادمين لتحويل الحي البائس الى "منطقة سياحية" يصبح اهل الحي فيها "فرجة" للسياح من "اغنياء البلد ومُتْرَفيها الذين لا يعرفون الفقر، ولم يروه...". ومهما اختلفت المعالجات وتنوعت زوايا النظر، يبقى مصير الانسان واحداً من الهموم الاساسية في هذه القصص. ففي القصتين المنهولتين من عالم الحكايات، نجد "سندريلا" العجوز، وعلاء الدين الجائع والوحيد والبائس. فالراوي يلتقي سندريلا "بمحض الصدفة، بعد زمن طويل من اشواق البحث عنها"، اي في كهولته، فيكتشف خديعة الحكاية. اذ ان الامير - كما تقول سندريلا "لم يكن يريدني، كان يريد القصة..." وانه لم يكن ثمة فعل، فهي وجدت نفسها "في بيداء خاوية"... واهم ما تقوله هو ان "الحياة اكثر تشويقاً وانارة ومراوغة" من القصة. اما علاء الدين البائس، فهو يجسد قمة البؤس الانساني في لحظة ذات مفارقات هائلة. فبعد ان ينجح في استخراج المارد من فانوسه السحري، يكتشف ان المارد قادر على تحقيق كل شيء خيالي او عظيم، لكنه عاجز عن جلب رغيف خبز. فعلاء الدين هنا شخص "في الليلة الثانية بعد الالف"، اي انه خارج الحكاية، وفي قلب الواقع. ولذا فهو يرفض القصور والذهب ويطلب رغيفاً طرياً وساخناً يشبع به معدته التي لا يشبعها سوى الخبز! انها رؤية جديدة الى ابطال القصص، تأخذهم منها الى الواقع لتُرينا ما يحدث لهم في هذا التحول، ولتؤكد ان الواقع اغنى من اي خيال. ولعل الاتكاء على شخوص الحكايات ان يكون اكثر من حيلة فنية، اذ يبدو محاولة لرؤية جديدة من جهة. وتعميقاً للتناقض التراجيدي بين الفن والواقع. وفي النتيجة ان "الابطال" القادمين من عالم الحكاية يشبهون ابطال الواقع في واقعيتهم التي يسحبهم الكاتب اليها، لكنهم يظلون حاملي ظلال الحكاية التي جاءوا منها، اما "الواقعيون" فهم اشد غنى من حيث البناء والتفاصيل. ان "فَلْحة"، في قصة "فلحة تكنس قن الدجاج"، هي طفلة في الحادية والعشرين، وحتى بعد زواجها من "دحام" لسنوات، لم تعرف الجنس الا عبر مشهد ديك ودجاجة، فتمسك الديك وتحز عنقه، على رغم انها تلتقط، يومياً، البيضة من القن وتقوم بتنظيفه. وكأنها لا تعلم بالعلاقة ومصدر البيضة.وللعبث نصيبه في قصة الرجل المغترب العائد الى مسقط رأسه، فالمسقط هنا هو القبر، والعبث ليس عبث الحياة، بل عبث الموت الذي حين يدرك الرجل يجعله يشعر بغربة جديدة، و"ينتحب في قبره من دون اي عزاء". وكأن الموت ليس سوى امتداد للحياة. وربما كانت قصة "كعك الحرب" من اطرف واغرب القصص التي تتحدث عن علاقة الانسان بالطيور. فالرجل الذي يحتاط لقدوم الحرب بشراء "الكعك"، يشعر - هو وعائلته - بالحيرة في ما يمكن ان يصنعوا بالكعك الذي تعفن، ويقرر اطعامه لعصافير المنتزه، فيلقي بفتات الكعك، لكن الذي يزيد حيرته ويجعله يشعر بالخيبة هو ان الطيور ترفض تناول الفتات، ولا نعرف ما اذا كان سبب رفضها هو تعفُّن الكعك، ام كونه "كعك الحرب" ام لكلا الامرين معاً؟! صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2000.